تغريبة طارق عزيز.. عصر يبحث عن قبر / فهد الريماوي

 

 فهد الريماوي* ( الأردن ) السبت 13/6/2015 م …

*رئيس تحرير “المجد” الاردنية ..

الناسُ صنفانْ : موتى في حياتهمو             وآخرونَ ببطنِ الارضِ احياءُ

(احمد شوقي)

تسخر الاقلام من اصحابها، وتهزأ الكلمات من كتابها، حين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويزيفون الحقائق والوقائع والقواعد، ويستترون خلف حروف العلة، وينصبون المبتدأ ويرفعون الخبر، ويباركون المضاف ويلعنون المضاف اليه، ويبرئون الجاني ويعاقبون المجني عليه، ويستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير.

يرفض الحبر ان يحوله الكتبة الكذبة الى خمر، ويبيعونه في اسواق النخاسة السياسية، ويسفحونه على موائد التضليل والتجهيل والعبث بالعقول، ويسطرون به اشباه الجمل لتعظيم اشباه الرجال، ويشوهون به بياض الورق ونقاء الحروف وعراق القائد الشهيد صدام حسين.

بئست الكتابة التي تؤجر نفسها لمن يدفع، وتمنح عرضها لمن يرغب، وتسلس قيادها لمن يركب، وتفسح في المجال لكل من هب ودب، وتسمح للعملاء والدخلاء والجهلاء ان يمتهنوها ويتطاولوا عليها، وتعيد ترتيب حروف الحرية لتأخذ مفهوم الخيانة والتبعية، وتضفي على القتلة والسفلة هالات الثورة والبطولة والمعارضة الوطنية.

بين عشية وضحاها، وبين كلمة ومعناها، وبين طلقة ومرماها، تغير العراق من حال الى حال.. فقد رحل طارق عزيز وحضر ابو بكر البغدادي.. رحل المناضل القومي الحضاري وحضر الجزار الدموي التكفيري.. غاب وعد صدام حسين بالنهوض والازدهار وتحقق وعيد وزير الخارجية الامريكي جيمس بيكر باعادة العراق الى العصر الحجري.. ولكن بعض الساسة والكتبة ما زالوا يكابرون، ويذرون الرماد في العيون، ويتشبثون بالاحقاد والثأريات والحسابات القديمة ولا يأبهون للحقائق والحصائل والمآلات الجديدة.

لا لزوم للتعريف ”بابي زياد” فهو اشهر من نار على علم، ولا ضرورة للتنويه بمآثره ومواقفه فهي معروفة للجميع، وهي خالدة في اللوح المحفوظ.. ويكفيه مجداً وفخراً وسؤدداً انه ما خان الامانة، ولا عاقر الفساد، ولا عاشر الطائفية، ولا هادن الامبريالية، ولا غادر الساحة الوطنية، ولا فرط بالمبادئ القومية، ولا انكر قائده وحزبه ورفاقه قبل صياح الديك، او بعد سقوط الحكم، او تحت اصعب الاحوال والاهوال.

في الحزب، كما في الحكم، كما في السجن، ظل ”ابو زياد” ثابت الحال والنضال.. بقي وفياً لطبيعته وشخصيته ومبدئيته ومسؤوليته، فما غيرته النعماء والسراء، ولا بدلته البأساء والضراء، ولا افضى به الحكم الى الزهو والغرور، ولا ادى به عذاب السجن والاعتقال الى الردة والتوبة وفعل الندامة.

ميزة طارق عزيز انه قد جمع بين الصلابة النضالية والثقافة الموسوعية، فقد كان مناضلاً بعثياً شديد الالتزام، ولكن ذلك لم يدفعه الى التزمت والانغلاق، بل الى التفتح الذهني والاكتساب الثقافي، والتنويع في مصادر المعرفة، والقدرة على التفكير الابداعي المتميز، والاحاطة الشاملة بمعظم المواضيع والعناوين السياسية والدبلوماسية التي كانت تهم العراق خاصة والوطن العربي بشكل عام.. ويكفي للتدليل على عمق تفكيره وبُعد نظره، ان نستذكر في هذه الايام السوداء ما سبق ان صرح به هذا الرجل في شهر كانون الاول من عام 2002 حيث قال حرفياً : ”ان الحرب على العراق واقعة لا محالة، وان ما تريده امريكا ليس تغيير النظام العراقي فقط، بل تغيير المنطقة باكملها”.

يومذاك شكك الكتبة الكذبة والمعارضون العراقيون الخونة في مقولة ”ابي زياد”، وزعموا انه يريد توسيع فتحة البيكار بغية تخويف العرب الآخرين، ودفعهم الى مساندة النظام العراقي المستهدف وحده، -دون سواه- بالاجراءات العقابية الامريكية، جراء امتلاكه لاسلحة الدمار الشامل.. ولكن ها هي الفاس قد وقعت في الراس، وها هي المية قد كذبت الغطاس، وها هي رؤية، او نبوءة ”ابي زياد” تتحقق على ارض الواقع العربي بافدح وافظع مما استشرف وتوقع.

لم يكن حزب البعث الحاكم في العراق مثالياً وديموقراطياً، ولم يتهم نفسه قط بمثل هذه المواصفات.. غير انه شيّد نظاماً وطنياً وقومياً نقياً وابياً مرفوع الرأس، وشديد الحرص على سيادة واستقلال العراق، حتى لو ادى ذلك الى تقديم حرية الوطن الكلية على حرية المواطن الفردية، اذ لا معنى للحريات الديموقراطية في وطن تابع وخانع وذليل وعميل للمراكز الصهيونية والاستعمارية شأن الحاصل حالياً في معظم الاقطار العربية التي تتشدق بالحريات الديموقراطية، فيما تغض الطرف عن ارتهانها للاجنبي، ودورانها السياسي والاقتصادي في الفلك الامريكي والاوروبي.

لم يكن نظام صدام حسين متطهراً ولا ملائكياً ولا معصوماً عن اقتراف الاخطاء وحتى الخطايا، ولكنه كان نظاماً قوياً ومركزياً ومدنياً ابياً يصون الوحدة الوطنية دون تمييز، ويرفع في فضاء بغداد راية الهوية العربية، ويراعي مرحلة التطور السياسي والاجتماعي للشعب العراقي حتى لا يسبقها او يلحقها، ويضم نخبة، بل عصبة من القادة الامناء والشرفاء البواسل – مثال ”ابي زياد” – الذين ما ذلوا ولا هانوا ولا خانوا، ولا تلوثت ايديهم بالمال العام، ولا امكن للاعداء اختراق صفوفهم او تجنيد اي واحد منهم.. خلافاً لحال رجال المعارضة الاوغاد الذين تواطأوا مع الغازي الامريكي ضد وطنهم، ثم استمرأوا العمالة لواشنطن والتبعية لطهران، بعدما عادوا الى العراق على ظهور دبابات حلف الاطلسي، وتسلموا دفة الحكم من يد سيدهم الزنديق بول بريمر.

وقد شاءت ارادة التاريخ ان تنصف نظام صدام ولو بعد حين، وان تثبت صحة نهجه وسلامة بوصلته قياساً بما جرى لارض الرافدين بعد سقوطه، وان تدفع الغالبية العظمى من العراقيين الى الترحم عليه والحنين لايامه، بعدما رأوا بام العين حجم السرقات والسفالات والخيانات والمحاصصات التي اقترفها الحكام الجدد، ناهيك عما تكشف لهؤلاء العراقيين، على مدى اثنتي عشرة سنة، من ارتباطات تآمرية مسبقة بين ايران وعدد من المراجع والاحزاب والشخصيات الشيعية العراقية التي كانت تدعي المظلومية على يدي نظام البعث، وتزعم انه يتهمها بما ليس فيها، ويفتئت عليها بالباطل وهي منه براء.

حاشا لله ان نصطف الى جانب الديناصور السعودي الوهابي الخرف في مواجهة الحكم الاسلامي الايراني الذي سلّم مفاتيح سفارة اسرائيل في طهران لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي ساند حزب الله بالمال والسلاح حتى استطاع تحرير الجنوب اللبناني بكل قوة واقتدار.. ولكننا ضد ملاحقات ايران الاجتثاثية المتواصلة لكبار القادة العسكريين والحزبيين في عهد صدام، وضد نزعاتها الجامحة والواضحة في الهيمنة والتسلط على العراق والخليج العربي.. فشتان بين الصداقة والغطرسة، وبين التحالف والتسلط، وبين المشاركة من موقع المناددة وعلى قدم المساواة وبين التبعية والالتحاق والخضوع لولي الامر.

يا لخسارة العروبة في العراق.. فقد تناوشته الضباع الداعشية والذئاب السيستانية، بعد غياب ليوث البعث.. تسلطت عليه زمر الجلبي والجعفري والالوسي، بعدما اخمدت المشنقة انفاس ”ابي عدي”.. استأسدت عليه عصابات الطالباني والبرزاني وباقي الاكراد الصهاينة، بعد اغتيال جيش القادسية، واشتعال الصراعات المذهبية، وشطر شط العرب وفك الارتباط التاريخي والجغرافي بين دجلة والفرات.

يا لضيعة ”بروسيا العرب” التي كانت بشرى فصارت ذكرى، وكانت مصدراً للامل فباتت منبعاً للفشل، وكانت قلعة عروبية فاصبحت غابة شعوبية، وكانت وطناً للامن والامان والاطمئنان فامست مرتعاً لزعران الارهاب والتهريب والتخريب الذين مزقوا صفحات تاريخها، واستأصلوا حمورابي ونبوخذ نصر وهارون الرشيد من ذاكرتها، وعاثوا دماراً في متاحفها ومراقدها ومقابرها ومقاماتها الدينية والاثرية.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر فلا بد ان يخطر في البال هذا السؤال : ألم يكن غزو العراق وتدميرها عام 2003 هو المقدمة المشؤومة لما جرى ويجري بعد ذلك في ليبيا وسوريا واليمن وسيناء مصر ؟؟ ألم يشكل ”الربيع العربي” استكمالاً للغزو الامريكي، ولكن بوسائل وادوات اعرابية وارهابية وعثمانية اخرى ؟؟

وفي الختام، رحم الله ”ابا زياد” وقائده ورفاقه من شهداء البعث الاحرار والاخيار الذين باتوا غرباء في عراقهم، وضاق هذا العراق ”الديموقراطي جدا” حتى بقبورهم.. وآه ما اقسى ان تبحث الغربة عن ديار تؤويها، وتبحث الجثامين عن قبور تواريها، وتبحث الاحزان عن قلوب تحتويها، وتبحث الدموع عن عيون تذرفها، وتبحث المراثي -في شهداء البعث- عن اقلام تسطرها، وتبحث جنائزهم ”المهربة” عن اوتار تعزف لحن الرجوع الاخير

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.