من أساليب الهيمنة الأمريكية – الدولار سلاح فتّاك وصامت الطاهر المُعز
الطاهر المُعز ( تونس ) الجمعة 7/9/2018 م …
لا تقتصر أدوات الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على ترسانة الأسلحة الفَتّاكة، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النّوَوِي، واستخدمت المواد الكيماوية والنابالم ضد الشعب الفيتنامي واليورانيوم المُنَضّب وغيرها من “أسلحة الدّمار الشامل” ضد الشعب العراقي، بل تستخدم الإمبريالية عمومًا – والأمريكية خُصُوصًا- أسلحة أخرى أقَلَّ انكشافًا للجمهور العريض، ومن بينها سلاح الدّولار الذي يُسَمِّيه بعضهم “السِّلاح الصّامت”، ويُنْسَبُ إلى هنري كيسنجر تصريحه سنة 1970 “إذا كنت تتحكم في المال ، فإنك تتحكم في العالم”، فالدّولار يُهيمن على المبادلات التجارية العالمية وعلى النظام المصرفي العالمي، بدون مُنافس ذي وزن يُضاهِيه أو يقترب منه، وخاصة منذ 1971، عندما قررت الولايات المتحدة فصل قيمة الدولار عن الذّهب، مما يُشَكِّلُ أداة غير تقليدية للقتل الجماعي، يتحكم بها الاحتياطي الفيدرالي، المملوك للقطاع المصرفي الخاص، بالتنسيق مع وزارة الخزانة الأمريكية، ومجموعة صغيرة من الشركات الكُبْرى المًدْرَجَة في سوق “وول ستريت” المالية، هذا الإحتياطي الفيدرالي الذي يستخدم المال العام (عبر سياسة “التّيْسِير الكَمِّي”، أو مَنْح المصارف أموالاً بفائدة ضعيفة جدًّا تُقارب الصّفر، أثناء أزمة 2008 – 2009) لإنقاذ مصارف خاصّة (مملوكة للقطاع الخاص) أقدَمَتْ على عَمَلِيّات مُضاربة عقارية بأموال المُودعين والزبائن (“ليمان بروذرز” و”غولدمان ساكس” وغيرها)، كما عمل الاحتياطي الفيدرالي على إنقاذ النظام المصرفي العالمي، من خلال توفير كميات الدولارات المطلوبة (مئات المليارات)، في شكل خطوط ائتمان بالدولار الأمريكي، للمصارف المركزية الأوروبية التي أنقذت مصارف عديدة، ومن بينها ستة مصارف في منطقة اليورو، فاقت دُيُونها 100% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد الذي يوجد به مَقَرُّها… وتوسّعت سياسة الإقراض (أو الخط الإئتماني) الرخيص إلى كافة مناطق العالم، خلال العقد الأخير، من خلال ضخ استثمار المصارف الأمريكية كميات ضخمة من الدولارات – التي اشترتها من الإحتياطي المركزي بدون فائدة – في المصارف والشركات الأجنبية (غير الأمريكية) بفائدة أعْلَى، وقدَّرَ معهد التمويل الدولي في واشنطن (من مؤسسات مجموعة “البنك العالمي”) ارتفاع ديون الأسر والحكومات والشركات والقطاع المالي في أكبر 30 سوق “ناشئة” من نسبة 143% من إجمالي الناتج المحلِّي سنة 2008 إلى 211% في بداية سنة 2018، بينما تضاعَفَ حجم ديون هذه “الأسواق النّاشِئَة” سواء بالعُملات المحلِّيّة أو العملات الأجنبية (كالدولار واليورو) في أمريكا الجنوبية أو تركيا أو البلدان الآسيوية – باستثناء الصين – من نحو 15 تريليون دولار سنة 2007 إلى 27 تريليون دولار بنهاية سنة 2017، وفق البنك العالمي، وتجاوزت الديون الخارجية للشركات التركية لوحدها 300 مليار دولار (حزيران 2018)، أو أكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي للبلاد… من مهام الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي أيْضًا مُحاولة تشديد الحصار وخَنْق اقتصاد بعض الدول المغضوب عن حكوماتها (أو أنظِمَتِها) مثل إيران وروسيا والصين، وكوبا وفنزويلا وكوريا الشّمالية، وأَلْحَقَ بها تُرْكيا مُؤَخّرًا، ولم تشفع لتُرْكيا عضوية حلف شمال الأطلسي ولا العلاقات العسكرية والإقتصادية المُتَطَوِّرَة مع الكيان الصّهيوني، ولهذه الأسباب تُحاول بعض الدّول، ومنها روسيا والصين وإيران ودول أخرى الإبتعاد عن الاعتماد على الدولار الأمريكي في معاملاتها التجارية الخارجية، لكن ذلك ليس بالأمر البسيط، حيث تقارب نسبة الدولار 88% من إجمالي معاملات الصرف بالعملات في العالم، ونحو 65% من احتياطي المصارف المركزية في العالم، ولم تتجاوز حصة “اليورو” 20% من احتياطيات العالم، وتجري معظم الصفقات الدّولية لتجارة النفط والذهب والسلع بالدولار…
استغلّت الولايات المتحدة الأزمة المالية والإقتصادية العالمية للعام 2008، لتوسيع رقعة هيمنة الدولار، عبر سياسة التّيْسِير النّقدي، كما أسلفنا، وزادت هيمنة الاحتياطي الفيدرالي على المنظومة المصرفية العالمية (وبالتالي على الإقتصاد) مع الإرتفاع التّدْرِيجِي لسعر الفائدة، ما يَدْفَعُ العديد من الشركات والحكومات لاقتراض المزيد من المبالغ المُقَوّمَة بالدولار، لإعادة تمويل الديون القديمة بالدولار، ولكن القُروض الأولى كانت أَرْخَصَ من الثانية، مما رفع من حجم إجمالي الديون المستحقة على أسواق الدول “الناشئة” إلى أكثر من 1,3 تريليون دولارا، سنة 2019، وكُلّما ارتفعت قيمة دُيون شركات وحُكُومات العالم، المُقَوّمَة بالدّولار، انخفَضَ حجم ديون وزارة الخزانة الأمريكية التي اشترتها من المصارف والشركات التي اعترَضَتْها صُعُوبات، وارتفع حجم سندات المصارف التي جَمَعها الإحتياطي الفيدرالي، من المصارف (بفعل سياسة “التّيْسِير الكمِّي”) من حوالي 900 مليار دولار سنة 2008 إلى نحو 4,5 تريليون دولارا، سنة 2014، ويُخَطِّطُ (الإحتياطي الفيدرالي) لخفض حجم حيازة السّندات، وخَفْضِ قيمة هذه الديون بأكثر من 30% قبل نهاية 2018. في الأثناء استثمرت المصارف الأمريكية هذه القُروض الرخيصة التي وَفّرَها لها الإحتياطي الفيدرالي، في النّفط الصّخري الذي جعل من الولايات المتحدة مُصدّرا للنفط والغاز الصخريّيْن، ومنافسة غاز روسيا في أوروبا وآسيا (بفضل الضّغط الأمريكي على أوروبا)، استثمرت جُزْءًا من هذه السُّيُولة في قطاع الإسكان الذي خَرَجَ من أزمته الحادّة، وجُزْءًا آخَرَ في الأسواق “الناشئة”، التي كانت تُوَفِّرُ أربَاحًا مُرْتَفِعة، رغم ارتفاع المخاطر، ومن بينها الهند وتركيا وإندونيسيا والبرازيل والأرجنتين، وكذلك في الصين وروسيا، وأي مكان آخر يُوَفِّرُ نسبة أرباح تفوق أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان، قبل الرفع التدريجي لسعر الفائدة بنهاية 2017، وقبل تشديد العقوبات الأمريكية ضد الصين وروسيا، وقبل إعلان الحرب التجارية الشاملة ضد الحُلَفاء والمنافسين والخُصُوم، ويُؤَدّي رفع الفائدة في الولايات المتحدة إلى خُرُوج الإستثمارات من الإقتصادات “النّاشِئَة” وتدفقها (بالدّولار) من جميع أنحاء العالم نحو الولايات المتحدة بقيمة أربعين إلى خمسين مليار دولارا شهريًّا، وأدّت سياسة رَفْعِ قيمة الفائدة إلى انخفاض قيمة العُملات الأخرى مقابل الدّولار، وعلى سبيل المِثال فقد انخفضت قيمة الليرة التركية بحواليْ 50%، خلال ثمانية أشهر من سنة 2018، مقارنة بالدولار الأمريكي، مما يعني إن شركات الإنشاء والعقارات وغيرها من الشركات الكبيرة في تركيا لن تستطيع اقتراض دولارات رخيصة (بلغت دُيونُها الخارجية نحو 300 مليار دولارًا )، ووجب عليها أن تَتَدَبَّرَ ضعف مبلغ الدولارات الأمريكية لخدمة تلك الديون، أو ما يُعادِلُ نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ما حَصل في تُركيا، حَصَل أيضًا (مع اختلاف في التّفاصيل) في بلدان آسيوية أُخرى (باستثناء الصِّين)، وضَخّت المصارف الأمريكية بين سنتيْ 2008 و 2015، حوالي 2,1 تريليون دولارا في اقتصادات البلدان الآسيوية، عندما كان سعر الدولار منخفضًا، لكن ارتفاع سعر الدولار بمعدّل 7% مُقابل العملات الآسيوية خلال ثمانية أشهر من سنة 2018، قد يُؤَدِّي إلى أزمة في بلدان مثل باكستان أو تايلند أو حتى كوريا الجنوبية، بداية من سنة 2019، شبيهة بأزمة أسواق المال الىسيوية سنة 1997، بفعل تأثير ارتفاع الدولار، وكذلك بفعل تأثير الحرب التّجارِيّة…
تُؤَدِّي هيمنة الولايات المُتّحدة على النظام المالي والنظام المصرفي العالمي، إلى إضعاف المُنافِسين والخُصُوم من الحُلفاء، ناهيك عن الأعداء، وهي حرب اقتصادية ومالِيّة عالمية، دون استخدام الأسلحة التقليدية (الحرب العسكرية)، وتأمل الولايات المتحدة انهيار النظام في إيران أو روسيا أو فنزويلا من الدّاخل، عبر العقوبات وعبر ارتفاع سعر الدولار وعبر خروج الأموال “الساخنة” والإستثمارات من “الأسواق الناشئة” نحو الولايات المتحدة، بمجرّد ارتفاع سعر الفائدة في الإقتصادات الرأسمالية المتطورة (التي تَقُودُها الولايات المتحدة)، وتحاول أمريكا تنظيم نقص كمية الدّولارات المُتداولة في أسواق الخُصُوم (إيران وروسيا…)، بالإضافة إلى التّهديد بمعاقبة كل من يشتري النفط الإيراني، والضغط على من يشتري الغاز الروسي…
إنها الحرب بوسائل أُخْرَى، ويَقُودُ الإحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) الحرب على الجبهة المالية والنّقْدِيّة، بسلاح اسمه “الدولار” ونسبة الفائدة، لأن الدولار يُشكّل القسم الأكبر من احتياطي المصارف المركزية العالمية من العملات الأجنبية، ومن المبادلات التجارية العالمية، وهو العُملة المرجعية لقُروض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ولا توجد لحد الآن عملات قادرة على منافسته، لأن قُوّة الدّولار مُقْتَرِنَة أيضًا، بل بدرجة أولى، بالقوة العسكرية الأمريكية، ويستمد الدّولار قُوّته من امتلاك أمريكا “أسلحة الدّمار الشّامل” والقواعد العسكرية المنتشرة في العالم، والمقدّر عددها بأكثر من 800 قاعدة عسكرية، خارج الولايات المتحدة الأمريكية…
البيانات مُقْتَبَسَة عن “وليام إنغدال” – بحث بعنوان (Washington’s Silent Weapon for No-so-quiet Wars – A World Full of Dollars ) – نشر موقع “غلوبل ريزرش” (كندا) – ترجمة تقريبية وغير احترافية، بتصرف وإضافات 21/08/18 + وكالة “بلومبرغ” 05/09/18
التعليقات مغلقة.