فيلم «فيتزكارالدو»: الغسل الرومانسيّ لجرائم الاستعمار، واستعلاء الحداثة / د. هشام البستاني
تنويه: تحتوي هذه المراجعة على «حرق» لأحداث الفيلم.
«الأرض التي لم يُكمل الرّب خلقها». على وقع هذه الجملة المنسوبة، حقًّا أو زورًا، لسكّان غابات الأمازون الأصليّين، يبدأ فيلم المخرج الألماني فيرنر هيرتزوغ «فيتزكارالدو» (1982) مهمّته في أخذ هذه الأسطورة إلى نهايتها «المنطقيّة». هذه الأرض البدائيّة تحتاج إلى استكمال، إلى إنضاج، إلى نقل من حقبة «الهمجيّة» إلى حقبة «المدنيّة». ومَن غير الرّجل الأوروبيّ الأبيض، «الإله الأبيض»، كما يرد في الفيلم، سيكون أكثر مناسبةً لإحداث هذه النّقلة؟ مَن غير الحداثة، بإمكانيّاتها التصنيعيّة، وآلاتها التي تُنجز المعجزات، يقدر على عبور جبل التخلّف نحو الحركة، نحو نهر «التقدّم» المتواري خلفه؟ مَن غير الفنّ، وقوّة الفن، ممثلّة بالأوبرا، الفن الرّاقي، المهذّب، فن أبناء وبنات الذوات، فن بلاط الأمراء والملوك، سيُنقذ «عراة الأقفية»، كما يرد في الفيلم، من جهلهم ووحشيّتهم، ويزيّن المشهد بمسحة رومانسيّة حالمة؟
هذه هي أطروحات الفيلم المركزيّة التي تتعامى عن تاريخ طويل من القمع والقهر والاستعباد الذي مارسه المستعمِرون، وتدميرهم المُمنهج للطبيعة، ولأسس حياة وثقافة السكّان الأصليين في حوض الأمازون وأميركا الجنوبيّة عمومًا، وللسكّان الأصليّين أنفسهم، محوّلةً كلّ ذلك إلى حالة من الرومانسيّة الصّرفة: المستعمِر مهووس أو ممسوس بمُثُلٍ عليا يسعى لتحقيقها (في حالتنا هذه: بناء دار للأوبرا في الأمازون، و«البناء» عنصر مركزيّ من عناصر التطوّر والحداثة)، نبيٌّ منبوذٌ مُلقىً في بيئة مُعادية، يبشّرُ بالخلاص (الأوبراليّ، الفنيّ، الأوروبيّ)، بينما يتحرّك بكثير من الارتجال بين مجاميع لا تفهمه، تهذر بما لا يُمكن فهمه، وليس عليه سوى الاعتماد على أثر السّحر المخدّر الذي تفعله مُثُله العليا بهؤلاء الذين يجهلونها، ويتماسّون معها للمرّة الأولى.
نستعيد الفيلم هنا اليوم لعدّة أسباب، ففي اليوم الخامس من هذا الشهر، مرّت الذكرى السّادسة والسّبعين لولادة هيرتزوغ، مخرج الفيلم الذي يعتبر أحد أهم مخرجي السينما الألمانيّة الجديدة، وأحد أهم مخرجي أوروبّا، فيما حاز الفيلم مدار الحديث على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان، أرفع مهرجانات السينما شأنًا، لعام 1982، الأمر الذي يعني أن أطروحات الفيلم حظيت عمومًا بالتّكريم بدلًا من النّقد، فيما تستمرّ مثل هذه الأطروحات، وتطبيقاتها، بالفعل في الواقع المعاش لملايين الناس في قارّات جنوب العالم، بلا أي تغيير حقيقيّ، أو اعتراف.
الفن الاستعماريّ: إعادة إنتاج القهر الماديّ كحماسة اهتياجيّة رومانسيّة
في الفيلم، فيتزكارالدو (يؤدي دوره الممثّل الألمانيّ كلاوس كِنسكي) رجل حالم، أوروبيّ أبيض، عاشق للأوبرا، يريد أن يبني دارًا لها داخل الأمازون، في بلدة إكيتوس، المعتمدة على تصدير المطّاط، ليحلّ بها إنريكو كاروسّو، أعظم مُغنّي الأوبرا في زمانه، ومعبود صديقنا. يحاول فيتزكارالدو أن يجمع أموالًا من بارونات المطاط الأغنياء بمساعدة عشيقته مولي (تؤدي دورها الممثلة الإيطاليّة كلوديا كاردينالي)، امرأة بيضاء تدير ماخورًا راقيًا للذّوات، كلّ عاهراته من النساء المحليّات، ولا ينجح؛ فيقرّر، بتمويلٍ منها، أن يستحوذ على غابة من أشجار المطّاط، لم يستغلّها أحد من البارونات بعد، لوجود مقطع مضطرب من رافد النّهر الواصل إليها لا تُمكن الملاحة فيه. اقتضت خطّته أن يشتري سفينة، ويُبحر بها في رافد نهريّ موازٍ، وعند نقطة يقترب فيها النّهران بعضهما من بعض، يقوم بإقناع السكان الأصليين بجرّ السفينة فوق المرتفع الأرضيّ الفاصل بينهما لينقلها من جهة إلى الثانية. لكن خطّته تفشل بعد نجاحها، إذ يقوم السّكان الأصليّون، بعد نقلها إلى النهر الآخر، بإفلات السّفينة أثناء نوم طاقمها، فتنجرف عائدة إلى المقطع المضطرب من النهر، وتعبره، بعد لَأْيٍ، إلى نقطة البداية، محطّمة بذلك أحلام فيتزكارالدو. لكن، وكنصرٍ ترضويّ في نهاية الفيلم، يبيع فيتزكارالدو السّفينة لأحد بارونات المطّاط، ويموّل بثمنها إحضار فرقة أوبرا أوروبيّة متواضعة، تقدّم عرضها مبحرةً فوق السّفينة ذاتها.
في الحقيقة، كان كارلوس فيرمِن فيتزكارالد (1862 – 1897) بارون مطّاط، بجيشٍ من المرتزقة يعدّ خمسة آلاف رجل، يهيمن على مساحة من غابات الأمازون بمساحة بلجيكا، وكان مركزه مدينة إكيتوس، عاصمة تصدير المطّاط في القرن التاسع عشر، وعاصمة الأمازون البيروفيّ، والتي كانت تهيمن عليها، كما في العديد من المستعمرات، شركة، هي هنا: شركة الأمازون البيروفيّ، المعروفة أيضًا بشركة مطاط الأمازون الإنجليزيّة البيروفيّة. في تلك الفترة، كان عمّال المطّاط من السكّان الأصليين يشتغلون في ظروف استعباد فظيعة، حقَّق بها، ووثّقها، وفضحها، القنصل البريطانيّ روجر كايسمِنت (1864 – 1916)، وشبّهها بظروف الاستعباد في الكونغو المُلحقة بالملك ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، وهي ظروف كان له دور في فضحها أيضًا؛ كما وثّقها المهندس والمُستكشف والكاتب الأميركي والتر إرنِست هاردنبرغ (1886 – 1942) في كتاب صدر عام 1912 بعنوانٍ واضح: «البوتومايو، جنّة الشيطان: رحلات في منطقة البيرو، وسرد للفظاعات المرتكبة بحق الهنود هناك».
فيتزكارالدو الحقيقيّ كان جزءًا من المساهمين بهذه الأوضاع الجحيميّة، ويُروى عنه، في استحضار لواحدة من آليّات الاستعمار المفضّلة، أنّه افتعل (أو عزّز) الخلافات بين شعبين من السكّان الأصليّين (الماشيجينجا والياميناهوا، وهو خلاف ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم)، وسلّح جزءًا منهم في مواجهة الجزء الآخر، ليتمكّن من السّيطرة على المنطقة وإخضاعها بالكامل. ومن المآثر المرويّة عنه، أنّه، وتحت التهديد بالموت، أجبر قبيلة من السكّان الأصليّين، بتفكيك سفينة، ونقلها فوق جبل يفصل أحد روافد نهر الأمازون إلى رافد آخر، أثناء فورة صناعة المطّاط نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
فظاعات الاستعمار «مادّة فقيرة لفيلم»
كلّ هذا التاريخ الدمويّ لفيتزكارالدو الحقيقيّ، كلّ العذاب الذي سبّبه لعشرات آلاف البشر، وسلالاتهم، كلّ الحقبة الفظيعة التي يُمثّلها، يصرفها فيرنر هيرتزوغ بلا اكتراث: «مادّة فقيرة لفيلم»، يقول في كتاب «هيرتزوغ عن هيرتزوغ»، متابعًا: «كان مجرّد رجل أعمال بشعٍ آخر؛ بينما لم يُثر تاريخ حقبة المطّاط اهتمامي على الإطلاق (..) لقد فكّك قاربًا، حمله فوق الأرض من نهر إلى آخر، وأعادة تجميعه، فجأةً: وجدت قصّتي». أمّا موضوع حبّ بارون المطّاط للموسيقى، يقول هيرتزوغ، فقد كان «من بنات أفكاري، رغم أن بارونات المطّاط في القرن الماضي بنوا فعلًا دار أوبرا»، هي مسرح الأمازون في ماناوُس في البرازيل التي ما تزال قائمة اليوم.
هكذا يختار هيرتزوغ قصّته: «ليست قصّة عن المطّاط [أي عن الاستغلال، والاستعمار، والعبودية]، بل عن الأوبرا العظيمة في الأدغال [أي عن «التّحضير» و«التّنوير» بوساطة الفنّ الأوروبيّ «الرّفيع» في مكان بدائيّ، همجيّ]». ليست عن الـ«1100 من المتوحّشين الهنود» (نعم، يستعمل هيرتزوغ هذا الوصف في فيلم لِس بلانك الوثائقيّ: عبء الأحلام، 1982) الذين استعبدهم البارون لنقل سفينته، بل عن فعل النقل نفسه باعتباره معجزةً بيضاء، تحقيقًا لحلم أوروبيّ لا يمكن إلا أن يتحقّق («الحالمون يُحرّكون الجبال» تقول مولي في الفيلم)، والنشوة البيضاء المصاحبة لذلك، بينما يظل النّاس الذين تم الأمر على أكتافهم، ورغمًا عنهم، متوارين في الخلفيّة، أو، أسوأ من ذلك، مصفّقين لـ«إنجازاته» ببلاهة، كما يحصل في المشهد الختاميّ للفيلم.
المستعمِر المَرْكز، الواحد، الفرد، الصمد؛ والمستعمَر الخلفيّة، المجموع، القطيع، الغابة
مقابل الشخصيّات البيضاء المحدّدة، الواضحة، الفردانيّة، صاحبة الإرادة، صاحبة الأسماء والأفعال والحركة والتّأثير، الموجودة دومًا في مقدّمة الصورة ومركزها، تُعطي التّعليمات والأوامر، لديها زمن، تفكّر وتمارس العمل الذهني دون أن تلوّث نفسها بأيّ شيء يديويّ؛ يبدو السكان الأصليّون في حالة مجاميعيّة دائمة في الخلفيّة، كقطعانٍ في الضّباب، أو غابةٍ من الأشجار المتحرّكة: ليس لهم أسماء، وجوههم متماثلة كأنّهم نسخة مكرّرة لشخصٍ واحد، بُلهاء، يتصرّفون كالأطفال، انفعاليّون: يتجمّعون للتصفيق والتّهليل بلا سبب واضح، أو يقفون على مدخل دار الأوبرا عراة حفاة بلا سبب واضح، يتأمّلون خيول السّادة تشرب الشامبانيا دون أدنى صوت، لا زمن لهم: زمنهم بطيء، طويل، ساكن، كزمن الطّبيعة؛ يكدحون مجّانًا، يرضون بتربيتة كتفٍ أو ابتسامة، أو حفنة من الثلج، فوجودهم مجانيّ (كالطبيعة أيضًا وأيضًا)، وهم نوع من الامتداد الطقسيّ لها، في حالة من النشوة الذّهوليّة أو المضاجعة الجماعيّة الدائمة؛ متفرّجون، جاهزون دومًا لتأدية هذا الدور الكومبارسيّ الأبديّ دون أن يُسمع لهم رأي أو موافقة أو اعتراض؛ هم الخدم والعمّال والحرس والحمّالون، لا وجود مستقلّ لهم، ولا حياة خاصّة، ولا شيء، خارج دائرة خدمة الرّجل الأبيض، ينتظرونه عندما يختفي، يحرسون مشروعه بإخلاص حين يُفلس، ويرقصون لرجوعه حين يعود.
مقابل الشخصيّات البيضاء المحدّدة، الواضحة، الفردانيّة، صاحبة الإرادة (..) يبدو السكان الأصليّون في حالة مجاميعيّة دائمة في الخلفيّة، كقطعانٍ في الضّباب، أو غابةٍ من الأشجار المتحرّكة.
ومقابل الكلام الواضح، الكوزموبوليتيّ، للأوروبيّين البيض (لغة الفيلم هي الإنجليزيّة، رغم أن المخرج ألمانيّ، والممثّليْن الرئيسيّين ألماني وإيطاليّة، وحيث تدور أحداث الفيلم، في البيرو، اللغة هي الإسبانيّة)، لا أصوات للسكّان الأصليين سوى همهمات غير مفهومة، لم يحفل مخرج الفيلم بترجمتها (وبالتالي: بتحويلها إلى لغة)، مصرًّا على إبقائها في صيغة أصوات حيوانيّة مُبهمة؛ فالأصليّون «حيوانات»، جزء من الطبيعة التي يجب إخضاعها وترويضها وتشذيبها وتحويلها من وجودها القديم البطيء السّاكن، إلى وجود حيّ، سريع، فعّال، عبر نبشها وقلبها واستخراج ما في بطنها بالقوّة. في أحد مشاهد الفيلم: ثمّة خنزير مع أطفال الأصليّين، جزء من مجموعتهم، يُضيف مسحة من التماهيّ الحيوانيّ لهم، فهو يتحرّك معهم، ويصدر أصواتًا غير مفهومة مثلهم، ويستمع إلى الأوبرا، ذلك الصوت الإلهيّ الخارج من الصندوق السحريّ: الفونوغراف، دون أن يفهم معناها، بذهول، مثلهم. وتأخذ الحيونة شكلًا أعلى حين يَعِد فيتزكارالدو الخنزير، ولا أحد غيره من أطفال السكّان الأصليّين، بالحصول على بلكونة خاصّة، وكرسيّ من المخمل، في دار أوبراه المتخيّلة.
الصورة الحيوانيّة للمُستعمَرين ليست مجازيّة فقط، بل واقعيّة على أشد ما تكون الواقعيّة، عندما يتحسّر هيرتزوغ، في وثائقيّ بلانك، على ضياع وانقراض ثقافة الأصليّين: «…لا أريد العيش في عالمٍ خالٍ من الأُسود، أو عالمٍ خالٍ من بشرٍ كالأسود، وهم [أي السكّان الأصليين] أُسود». يُحَيوِن هيرتزوغ الأصليّين هنا بشكل مباشر، ينسجم مع وصفه السّابق لهم بـ«المتوحّشين». الأمر ذاته، وبالأسلوب الاستعلائيّ نفسه، وإن بوضاعة أكبر، يعبّر عنه كلاوس كِنسكي في الوثائقيّ، إثر انتهاء مشهد في السّفينة يتجمّع فيه السكّان الأصليّون حوله. «إنهم يقفون حولنا كمجموعةٍ من الدّجاج»، يقول مع ابتسامة ساخرة.
ثمة مشهد آخر في الفيلم من هذا النّوع، فاضحٌ في دلالاته: فبينما تمخر السّفينة أجزاء عميقة من النّهر، يسمع المُشاهد في الخلفيّة، قادمًا من عمق الغابة، صوتًا جماعيًّا غير مفهوم، وصرخات، وأصوات طبول، سيحلّله أوتوماتيكيًّا بأنّه نوع من نداء الحرب، يبني خوفًا متصاعدًا مع تقدّم القارب أكثر وأكثر. أمام هذا الخوف المتصاعد، ولجوء بعض ملّاحي السفينة إلى امتشاق بنادقهم لمواجهة هذا الخطر غير المرئيّ، يُقرّر فيتزكارالدو أن ينصب فونوغرافه على سطح المركب، وأن يردّ على صرخات «الهمج» بإجابة «الحضارة»: صوت كاروسّو. وطبعًا، أمام صوت المدنيّة هذا، ستصمت أصوات الهمج عُراة الأقفية، باعتبارهم –مرّة أخرى- أطفال بلهاء، يختبرون «سحر» الحضارة وفنونها للمرّة الأولى.
أمّا الأزياء فمدروسة لإعطاء هذا التأثير أيضًا: ففي غابة استوائيّة، وبيئة رطبة مائيّة طينيّة، يظلّ فيتزكارالدو مرتديًا بذلة بيضاء (أيضًا!)، وربطة عنق، وتظل هذه البذلة في حالة معقولة من النّظافة واللّمعان حتى في أشد الأوضاع قذارة؛ وكذلك أمر مولي التي تظلّ دوما بقمّة أناقتها الأوروبيّة: فالمستعمِر حالة خاصّة، منفصلة، عن المحيط المستعمَر، ومُتعالية عليه، يقعان على مستويين مختلفين، لا يختلطان أو يتماسّان؛ أما المستعمَر فرثّ الثياب، عارٍ جزئيًّا دائمًا، يظهر (كما تريده الحداثة الاستعماريّة مرّة أخرى)، مُحيوَنًا، امتدادًا للطبيعة الوحشيّة، وجزءًا منها.
الوثائقيّ كأداة عميقة لفهم المتخيّل: فيتزكارالدو باعتباره هيرتزوغ
لا يجب أن يُشاهد فيلم«فيتزكارالدو» دون أن يُشاهد معه الوثائقيّ المتعلّق به، والذي يوثّق الكثير من خفاياه، ويقول ما يسكت عنه:«عبء الأحلام»، للِس بلانك.
في الوثائقيّ: يصل فيرنر هيرتزوغ المنطقة الأمازونيّة الحدوديّة بين الإكوادور والبيرو نهاية عام 1979، والوضع هناك في حالة تأزم عسكريّ شديد بين البلدين. يحلّ هيرتزوغ على شعب الأجوارونا الأصليّ، وهم شعب كان العمل يجري حثيثًا على استئصالهم من خلال توطين آخرين في أرضهم لتحويلها إلى مزارع. في ذلك الوقت، كانت غابات الأمازون تختفي بسرعة.
السُّكان الأصليّون لا يملكون سندًا قانونيًّا بملكيّة أراضيهم التي عاشوا عليها لآلاف السّنوات، وهم حسّاسون جدًّا لأي بناء يُنشأ عليها، مثل القرية التي أقامها هيرتزوغ لإسكان كادر الفيلم دون موافقة ممثّليهم في مجلس القبائل الذي تشكّل لتوحيد السكّان الأصليين وتنظيمهم، إضافة إلى اعتراض المجلس على فيلم لن يخدم قضيّتهم.
لم يحترم هيرتزوغ السكّان الأصليين وممثّليهم، وعمل، مثل بارونات المطّاط قبله، على تعزيز النّزاع بين من يريد العمل معه منهم، وبين البقيّة المُلتزمة بقرار المجلس بمقاطعته، ويظهر بعض من كادر الفيلم من الأوروبيّين، وهم يطمئنون والدة أحد السّكان الأصليين بأن ضررًا لن يصيب ابنها العامل معهم، بينما يتعهّد لها هيرتزوغ شخصيًّا بحمايته، بينما تجهش الأمّ بالبكاء.
إذ يتجاهلهم هيرتزوغ ويمضي قدمًا، يقوم السكّان الأصليّون بإحراق موقع التصوير بعد إخلائه من الناس، في حين نسمع هيرتزوغ وهو يضع نفسه موضع الضحيّة: «لن يتجرَّؤوا على مهاجمة مخيّمات العسكر، لن يتجرّؤوا على مهاجمة شركات النفط، لكن لأنّنا صغار، يمكن أن نكون الخاسرين هنا». حس النبوّة الفيتزكيرالديّ يبدو واضحًا عند هيرتزوغ وهو يقول لمموّليه بعد أن تركه أغلب كادر الفيلم بعد الحادث: «إن تخلّيت عن هذا المشروع، سأكون رجلًا بلا أحلام، وأنا لا أريد الحياة هكذا»، أو وهو يُعلن: «ستستمرّ حياتي أو ستنتهي بهذا المشروع». وينتقل الفيلم إلى موقع آخر، في منطقة أخرى، لقبيلة أخرى من قبائل السكّان الأصليّين: الماشيجينجا، الذين استعبدهم فيتزكارالدو الحقيقيّ.
يحتقر هيرتزوغ السّكان الأصليين رغم محاولاته إظهار التعاطف معهم، كما مرّ معنا، وهو يصفهم بالهمج ويشبّههم بالحيوانات، وبينما يتحسّر عليهم بأنّهم «ينقرضون»، وبأن حضارتهم وثقافتهم ستُفقَد وتضيع إذ تسود ثقافة كوزموبوليتانيّة استهلاكية أميركيّة بدلًا منها، نجد أن فيلمه، وبعكس لحظة التعاطف هذه، لا علاقة له بثقافة السكان الأصليين المُهدّدة، بل هو تحديدًا عن تلك الثقافة «الكونيّة»: ثقافة الرّجل الأوروبيّ الأبيض، المستعمِر، مع إفراغها من عنفها الفجّ الواضح، وتحويلها إلى رومانسيّة حالمة.
ويتّخذ احتقاره للسّكان الأصليّين شكلًا ماديًّا، يتجلّى باستغلاله لهم بعدم دفع أجور تكافئ أجور نظرائهم الأوروبيّين، «أقل بما لا يوصف مقارنة بنظرائهم الأوروبيّين»، يقول هيرتزوغ، «لكنّه ضِعف ما يأخذونه في الحقول»، ويبرّر الأمر لنفسه إذ يعدهم بمساعدتهم على الحصول على اعتراف قانونيّ بأرضهم بعد انتهاء الفيلم، وهو وعد، مثل كلّ وعود المستعمِرين، الانتهازيّين، كاذبٌ، لم يتحقّق.
ويتجلّى انفصال المستويين (المستعمِر والمستعمَر)، وعدم تماسّهما/تلوّثهما، ببناء هيرتزوغ مخيّمًا لإسكان الأصليّين معزولًا عن مخيّم البيض، مستواه أقلّ بكثير، الأمر الذي استدعى تدخّل أحد مسؤولي المنظّمات التبشيريّة، ممّن تُعنى بحقوق السكّان الأصليّين (أو تدّعي ذلك)، ليحسّن هيرتزوغ من ظروف مخيّمهم. جزء من هذا التّحسين تضمّن إحضار عاهرات لهم! يبرر هيرتزوغ هذا بالقول: «هنا، هذه [الممارسة] هي التوقّع المُعتاد والسّلوك المعتاد (…) حتى أنّه لا يُعتبر فاحشًا، من الممكن أنّها الخصوبة أو شيء من هذا الذي يحصل هنا في الغابة». السكان الأصليّون فاحشون بطبعهم، شهوانيّون، غريزيّون. هكذا هي الغابة، هكذا هم المتوحّشون، بحسب هيرتزوغ.
لكن الاحتقار الرئيسيّ يتجلّى بعدم اكتراث هيرتزوغ لتعريض حياة السكّان الأصليّين لخطر الموت، دون أي إحساس بالمسؤولية، فقط لتحقيق «حلمه» أو «جنونه»: يصرّ هيرتزوغ على سحب السّفينة، فعليًّا، فوق تلّة، زاوية انحدارها أربعون درجة. يرفض استخدام نماذج، أو استخدام المؤثّرات البصريّة، أو التصوير في موقع مجاور لمدينة إكيتوس، حيث التجهيزات أكثر سهولة ويُسرًا؛ يرفض استخدام منحدر بزاوية أقلّ، وحين يحذّره المهندس البرازيليّ الذي صمّم آلية سحب السّفينة بأن النّظام سيفشل على هذه الزاوية من الانحدار، وبأن أناسًا سيموتون، يقرّر هيرتزوغ الاستمرار؛ وعندما يستقيل المهندس لأن كارثة ستحلّ دون شكّ، يستمرّ هرتزوغ دونه؛ ويفشل النّظام فعلًا، لكن يبتسم الحظّ في وجه هيرتزوغ لمرّة بأن أحدًا لم يُصب، وتظل السّفينة مغروزة أسفل المنحدر إلى أن ترفعها البلدوزرات، آلات الحداثة الخلاصيّة.
إصرار هيرتزوغ على سحب سفينته فوق منحدر حادّ، وداخل الغابة لا في أي مكان آخر، والتدمير الذي أحدثه من أجل ذلك، يدلّ أيضًا على موقف الحداثة نفسها من الطبيعة، حيث هي التحدّي الأوّل، والأشرس، للمستعمِر الحداثيّ؛ جهودهُ كلّها موجّهة لتطويعها، وإخضاعها، وتغييرها، والتحكّم بها، باستخدام «الآلة»، مُدلّلته التي تخدمه دون اعتراض، وتستجيب لأوامره. العُنف الممارس هنا من قبل هيرتزوغ هو فعلٌ مقصودٌ لذاته، يُرمنسه بقوله إنّ الغابة ستُخرِج من الممثّلين أداءً مختلفًا عن ذاك الذي سيقدّمونه بظروف أكثر راحة، لكن «العبثيّة» الظاهريّة للفعل، ووجود بدائل له أكثر معقوليّة، وأقل ضررًا، تُخفي خلفها فلسفة الاستعمار الحداثيّ الأعمق، والتي تتكشّف إذ يصاب المستعمِر الحداثيّ بحالة إحباط شديدة، وكراهية عميقة للطّبيعة، في حال فشل، أو فشلت آلاته، في إخضاعها، كما في حالة هيرتزوغ.
الحداثة في مواجهة الطبيعة: إما الإخضاع، أو لعنة اللّاجدوى
بينما يتحدّث هيرتزوغ بكثير من الحبّ عن سفنه الثلاث التي اشتراها واستخدمها في الفيلم، نجده لا يعبّر عن أيّة مشاعر شخصيّة دافئة تجاه السكّان الأصليين، بينما يعبّر صراحةً عن احتقاره للغابة، حين يصفها بأنّها «مليئة بالبذاءة»، مسترسلًا: «الطبيعة هنا مثيرة للاشمئزاز، وخسيسة. [هنا] أرى الفسق، والاختناق، والتحشرج (…) الأشجار في حالة بؤس، الطّيور في حالة بؤس، هي لا تزقزق لكن تزعق بألم (…) هذه أرض غير مُكتمِلة، ما قبل-تاريخيّة، الشيء الوحيد الذي ينقص هنا هو الديناصورات، إنها لعنة تحلّ بثقلها على كامل المشهد الطبيعيّ الممتدّ، ونحن ملعونون بما نفعله هنا».
«اللّعنة» رمنسةٌ أخرى يُقدّمها هيرتزوغ في سعيه لإعادة إنتاج انتصاره الأوليّ على السكّان الأصليين، وهزيمته النهائيّة أمام الطبيعة، حيث تسود الفوضى التي يسعى المستعمِر الحداثيّ إلى ترتيبها، وتنظيمها، ونقلها من حالة انعدام الجدوى إلى حالة الفائدة: «[في الغابة] هناك انعدامٌ ساحقٌ للنّظام، حتى النجوم في السماء هنا في الأعلى تبدو في حالة من الفوضى … [الانسجام الوحيد هنا] هو انسجام القتل الجماعيّ»، وهذه الملاحظة الأخيرة مصمَّمة، بشكلٍ لا واعٍ، لتبرير العنف الذي يمارسه المستعمِر الحداثيّ باعتباره ردًّا على «جرائم» الطّبيعة، بمكوّناتها التي تشمل أيضًا السكّان الأصليّين، باعتبارهم جزءًا وحشيًّا آخر منها.
في فيتزكارالدو الفيلم، يصف أحد بارونات المطّاط بطلنا المهووس بالأوبرا، في معرض إهانته، بأنّه «قاهر اللاجدوى» (Conquistador of the Useless) في إشارة إلى عبثيّة أحلامه، وعبثيّة الفن بالمجمل، في مكان مثل غابة أمازونيّة؛ لكن العبارة تأخذ شكلًا جديدًا حين يتبنّاها هيرتزوغ نفسه عنوانًا لكتابه عن يوميّاته وتجربته في إخراج هذا الفيلم: (Conquest of the Useless) – «قهر اللّاجدوى» لا يمكن أن يكون إشارة إلى الفن حين يقولها فنّان، بل تصبح انعكاسًا لمفهومه عن الطبيعة التي ينبغي أن تُقهر وتُروّض وتُفتح بالحداثة، بالآلة، بالعُنف، وهو ما تعبّر عنه مشاهد الفيلم الرئيسيّة وثيمته الأساسيّة، إذ لا جدوى ولا فائدة من الطبيعة خارج إطار هذا القهر.
«إنّها الأرض الوحيدة التي لم يكتمل فيها الخلق بعد» يقول هيرتزوغ، نبيّ الحداثة، وهو يلبس لبوس فيتزكارالدو، منتهِك الطبيعة، وقاتلها، ومستعبد السكّان الأصليين، ممسوحًا بخرقة مغمّسة بمحلول الرومانسيّة السطحيّة.
التعليقات مغلقة.