ظاهرة التدين الشكلي في المجتمع / د. عمر مقدادي
عانت المجتمعات منذ الأزل ولا تزال من بعض المظاهر الخادعة، ومن بين هذه المظاهر وربما أخطرها التديّن الشكلي، تلك الظاهرة التي خدعت الناس تارة بهدف كسب ثقتهم واحترامهم وبالتالي الوصول إلى أموالهم، وتارة إلى تحقيق مكانة جماهيرية مؤثرة توصل ممارسيها إلى مآرب وأهداف سياسية واجتماعية بوسائل غير مشروعة دينيا وأخلاقيًا، وتعد ظاهرة التدين الشكلي هي المسيطرة على الشريحة الواسعة من المجتمعات العربية ومنها المجتمع الأردني الذي تحول إلى تدين وهمي بلا عقل ولا منطق محكوم بالتواكل والخرافة وغياب المنطق وسيادة العشوائية وروح الاستسلام، ومع ذلك فإن الفرد يجد مقاومته الوحيدة هي الغطس في نوع من التدين يكفل له إحساسًا زائفًا بالإيمان وفي نفس الوقت تبريرًا كافيًا للاستسلام والسلبية والتواكل، وهو أمر لا يبتعد كثير عن مجمل البيئة العربية المسلمة، فما نراه في المجتمع من مظاهر الأفراد في مسك السبحة للتسبيح وإطالة اللحية والتزام الثوب بمواصفات خاصة بالرجال والنساء وغيرها من المظاهر، تجد منهم في ذات الوقت من يمارس السرقة ويتعامل بالربا المحرم، ولديهم تحرم البنات من حق التملك والميراث، ويذهب إلى المشعوذين والسحرة، ويرتشي ويتحرش ويكسر إشارة المرور ويشهد الزور ويقطع الأرحام ويكذب في الحديث ويفسد ويحسد ويظلم، ويغش في الامتحانات، كل هذه المظاهر وغيرها يرتكبها البعض تحت ستار من التدين الشكلي.
يعرف التدين الشكلي بأنه مجرد اتصاف بالمظهر الديني الشكلي لا الروحي (الإيماني)، وربما كان بهذا الشكل كثير الصلاة والصيام والعبادة، ولكنه مجرد من الأخلاق الحسنة والأسلوب الطيب في التعامل مع الناس، والرسالة المحمدية جاءت بإثبات الأخلاق الصادقة وحسن التعامل مع الناس، وبينت أن حقيقة التدين هو ما يكون في القلب من إيمان صادق ويقين جازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره، مع إعطاء الحقوق والتخلص من المظالم وعفة الفرج والعين وكف الأذى باليد واللسان، والعديد من النماذج الإسلامية ذات التدين الشكلي تغفل عن حقيقة التدين وأنه منظومة متكاملة بين يقين القلب وعمل الجوارح يخلط بين الإنسانية والإيمان وهما عنصران لا ينفكان عن بعضهما، لا مجرد إظهار التنسك وتربية اللحية، ولهذا يوجِد من المنتسبين للدين فاسدون وظلمة ومعتدون، ومحاربون للسلم والتعايش، مما شوه حقيقية التدين بسبب سوء الصورة المنتشرة عنه، فالتدين الحقيقي هو ما يعبر عن الإيمان بالمعتقدات ، وأن يكون الإيمان نابعًا من علم ومعرفة بالدين، كما أن الالتزام بأخلاقياته في التعامل والسلوك هو من صميم الدين، والدين يدعو كذلك إلى التحلي بمكارم الأخلاق، وجميل الصفات والأفعال الخيرة، فمن مظاهر التدين الحقيقي التحلي بهذه الأخلاق والصفات الجميلة، وكذلك الالتزام بأداء الحقوق لأصحابها، وحفظ الأمانة، ورد الأموال لأهلها، والصدق في القول والفعل، تصديقا لقول الرسول (ص): (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقوله كذلك (الدين المعاملة)، فالإسلام دين الاستقامة الدائمة على طريق الحق ، وهو دين يرفض الفهم الخاطئ أو الظاهري أو التجزيئي للنصوص ، ويرفض التعامل المتعسف معها، ويرفض توظيفها بما يخالف الواقع ، وهناك مسافة شاسعة جداً بين أنماط التديّن السائدة في مجتمعنا ومقاصد الشريعة الإسلامية وغايات الخطاب الديني تجعل الكثيرون يقولون أن ما نراه اليوم في غالبية أشكاله تتخذ طابعاً شكلياً وصورياً دون التزام حقيقي بالدين، لتحقيق أهداف نفعيه.
ولعل من أبرز أنماطه وأشكاله في المجتمع ما يأتي :
1- الاتجار بالدين، وهو أفه تصيب التدين فتقضي عليه أو تكاد ، ولا صله لها بالدين كوضع الهي، بل مرفوضة منه، قال تعالى:( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)، وللاتجار بالدين أشكال متعددة منها الاستغلال السياسي للدين، ومنها الاستغلال الاقتصادي للدين، والذي يتمثل في جعل الغاية من النشاط الاقتصادي هو الربح والوسيلة هي الدين، مع العلم بأن ما يطلب من المسلم أن يؤمن إيمانًا أبديًا بالكتاب كله ولا يكن من الذين عاب عليهم المولى عز وجل إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى أنصاف الحلول وإلى سياسة الترقيع وإلى خلط الأوراق وتلبيس الحق بالباطل وإلى التدين الشكلي المنتشر في المجتمع الإسلامي.
2 – العبادة الموسمية وهي عبارة عن أداء شريحة واسعة من المسلمين للعبادة في أوقات دون أوقات وفي أمكنة دون أمكنة ، يتجلى هذا خاصة في شهر رمضان حيث يهرع الجميع للاستجابة لأوامر الله وتشهد المساجد اكتظاظاً لا مثيل له وحركة عجيبة وأجواء منعشة تسر الناظرين ( هذا راكع ، هذا ساجد ، هذا يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ، هذا يلهج لسانه بذكر الله ، هذا يدعو بإلحاح وبكاء وخشوع ، هذا يطلب العفو والصفح عما اقترفت يداه في الأيام الخالية ، هذا معتكف ، هذا يطلب العلم ، هذا يتهجد ، هذا ينفق بسخاء لجوعي الصومال ومحاصري غزة وغيرها من مشاريع الخير، هذا يفطر صائم ….)، لكن المصيبة العظمى والمتكررة سنويًا أن يتفلت هؤلاء من العبادة بمجرد انقضاء شهر الرحمة بعد أن تذوقوا حلاوة الإيمان ولذة القرب من الله ومتعة الطاعة والمناجاة ، يعودون من جديد إلى الذنوب والمعاصي.
3 – الاهتمام بالسنن والمستحبات وتقديمها على الأصول والفرائض :
كأن يحضر المصلون صلاة التراويح بكثافة وبأعداد هائلة ويتركون الصلوات المكتوبة ( الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ) ، ومنها أن يخوض البعض معارك طاحنة من أجل عدم حلق اللحية ووجوب ارتداء السراويل القصيرة، والقول بأن ختم القرآن جماعة بدعة، والدعاء للميت بعد دفنه بدعة، والاحتفال بالمولد النبوي بدعة ، وقولك لأخيك بعد أداء الفريضة تقبل الله بدعة،……. وغيرها الكثير.
4 – عدم تأثير العبادة في سلوك المسلم أثناء حركته في الحياة الخاصة والعامة :
نفس الشخص الذي يصلي في الصف الأول ويذرف الدمع خشوعًا ويأتي بالنوافل والأوراد كلها هو نفسه الذي يكذب في السوق ويغش في البضاعة ويطفف في الميزان ويمارس عقوق الوالدين ويأكل حقوق الناس ويؤذي إخوانه وأهله وجيرانه.
5 – تعظيم بعض الشعائر وبالمقابل تعطيل أحكامها وأدوارها وأهدافها.
يتنافس المسلمون على بناء المساجد والمعابد وإنفاق مبالغ ضخمة لزخرفتها، هذه المبالغ الخيالية كان بالإمكان تخصيص أجزاء منها لتأسيس مدارس نموذجية ودور حضانة متطورة ووسائل إعلام تعنى بقضاياهم وتعبر عن آرائهم ، ومشاريع اقتصادية تمول تحركاتهم وتشغل العاطلين عن العمل ومنظمات حقوقية تدافع عن مظالمهم ، يبنون المساجد ويهملون بناء الساجد ، يشيدون المعابد ويهملون تشييد العابد ، كما يتنافس الكثير من الدول والأفراد على طباعة المصحف الشريف وتوزيعه بملايين النسخ، ولكن من حارب أحكامه وعطل حدوده أكثر منهم.
6- التفاخر يجتاح وسائل التواصل الاجتماعي
هل نصوم ونصلي ونزكي ونتصدق على المحتاجين ونطعم الفقراء والمساكين في رمضان دون أن تتباهى أو تتفاخر بذلك؟ أم أنك تفاخرت وتباهيت كما فعل البعض على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة التي حفلت بملايين من صور (السلفي) للمعتمرين والمتصدقين من الأفراد والمؤسسات والجمعيات الخيرية، وكنت من هؤلاء الذين تباهوا بأداء العبادات وصلاة التراويح، والتقطوا الصور بملابس الإحرام عند الكعبة المشرفة وكل هذا يعد من المفاخرة والمباهاة التي قد تؤول إلى الرياء المنهي عنه شرعًا، حيث يقول علماء الدين: أداء العبادات في السر أعظم أجرًا.
هذا التدين الشكلي كان ولازال وسيظل أحد الأسباب الرئيسية لتخلف المسلمين وانحطاطهم في الدول العربية الإسلامية، حيث مظاهر الفساد في المجتمعات تنخر فيها وتؤدي إلى تأخرها عن ركب الحضارة والتطور ، وللخلاص من التدين الشكلي يجب تعزيز الأمن الفكري، والقضاء على خطاب الكراهية وتصحيح الخطاب الديني والإيمان بالتعايش وحرية الفكر التي لا تنفك عن حرية الجسد، وتقبل الآخر وعدم تقديس غير المقدس، وإقامة المراكز التي تهتم بملء أوقات الفراغ لدى الناشئة من الشباب، وتحسين وتطوير المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وتعزيز مراكز وبرامج التوعية والإرشاد والثقافة.
وختامًا …….. إن ما نحتاجه ليس قياس مدى انتشار التدين، بل نوعيته ومدى تأثيره في تغيير الأوضاع العامة وسلوك الأفراد والتغير الإيجابي في المجتمعات نحو المدنية والحضارة والمعرفة والإنسانية والمسؤولية المجتمعية والمدنية والأخلاقية.
التعليقات مغلقة.