قضية القومية العربية في فكر محمود أمين العالِم / صلاح عدلي
صلاح عدلي* ( مصر ) الجمعة 21/9/2018 م …
*أمين عام الحزب الشيوعي المصري …
سوف أحاول في هذه المقالات عرض المواقف الفكرية للمفكر المصري الكبير محمود أمين العالِم من بعض القضايا المهمة والملتبسة لتوضيح موقف الشيوعيين المصريين منها, خاصة وأنه يتعرض لمناقشتها بمنهج ماركسي علمي، ويتناولها من جوانبها النظرية والسياسية ويطرحها في إطار رؤية نضالية موضوعية وراهنية في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.
وفي دراسة مهمة بعنوان “الماركسيون المصريون والقضية العربية” الصادر في سلسلة كتاب “قضايا فكرية” التي أشرف على إصدارها هذا المفكر الموسوعي العدد (11-12) يوليو 1992، يتناول العالِم موقف الشيوعيين المصريين من قضيتين محوريتين في نضال الشعوب العربية، الموقف من قضية القومية والوحدة العربية، والموقف من القضية الفلسطينية. وسوف نقوم بعرض موجز لوجهة نظره في القضية الأولى في هذا العدد، مع التأكيد على أهمية قراءة النص الكامل لهذه الدراسة التي تم إصدارها في كتيب بنفس العنوان صادر من دار الثقافة الجديدة.
في بداية الدراسة يرى العالِم أنه من الضرورة تصحيح خطأ أو إزالة وهم يعلق بكثير من العقول حول موقف الماركسيين المصريين أو الماركسيين العرب من قضية الوحدة العربية، فالشائع أو الذي يشاع باستمرار وتسعى إلى ضخه في العقول مختلف الأجهزة الرسمية – وكتابات بعض المفكرين للأسف- أن الماركسيين المصريين (والعرب عامة) معادون للوحدة العربية، ومتهاونون -على أقل تقدير- في القضية الفلسطينية.
ويؤكد الرفيق العالَم بعد أن يضرب بعض الأمثلة على أن الحقيقة الواقعية التاريخية الناصعة تؤكد خلاف هذا تماماً، فالحزب الشيوعي المصري كان أول الأحزاب المصرية المنظمة في تاريخنا الحديث الذي نادى بالوحدة العربية منذ عشرينيات القرن العشرين، فهناك وثيقة صادرة عن “عصبة النضال ضد الإمبريالية” التي تأسست عام 1927 في بروكسل، وشارك فيها وفد من الشيوعيين المصريين والعرب، تتحدث “عن حق العرب في القضاء على تقسيم وطنهم، وتكوين دولة موحدة قوية مستقلة وحرة”، وتحيي هذه الوثيقة المناضلين الذين يدافعون عن حقوق الأمة العربية، ثم تنتهي هذه الوثيقة المبكرة عام 1929 بشعارات محددة تقول: “عاش النضال التحرري للشعب العربي، ليسقط الإمبرياليون، ليسقط تقسيم البلدان العربية، لتحيا الدولة الفيدرالية العربية الموحدة”.
وفي برنامج الحزب الشيوعي المصري الصادر عام 1931 ينص البند الثاني مباشرة على “النضال من أجل تحرير الشعوب العربية من القهر الاستعماري، ومن أجل وحدة عربية شاملة تنتظم فيها كل الشعوب العربية الحرة”.
وللتدليل على ثبات واستمرار هذا الموقف يشير محمود العالِم إلى حدث هام يتعلق بالوحدة المصرية السورية التي تمت عام 1958، حيث تؤكد الوثائق الثابتة أن الحزب الشيوعي المصري كان من دعاة هذه الوحدة ومن مؤيديها المدافعين عنها، وإن كان قد انتقد الأسلوب البيروقراطي العلوي اللا ديمقراطي في إنجازها، هذا الأسلوب الذي لم يراعِ الملابسات الشعبية والموضوعية الخاصة بسوريا، وهناك وثيقة تعرفها وتشير إليها مختلف الدراسات العربية والدولية التي تؤرخ لهذا الموقف، وهي وثيقة منسوبة إلى “فريد وسيد” وهما الاسمان الحركيان آنذاك لمحمود أمين العالِم وعبد العظيم أنيس. ثم يضيف العالم متعجباً فيقول “ومن العجيب أننا عندما قدمنا للمحاكمة عام 1959 كانت التهمة الموجهة إلينا هي تهمة العداء للوحدة المصرية السورية، وللقومية العربية عامة!”.
وبرغم ما عاناه الشيوعيون من سجن وتعذيب في هذه المرحلة فعندما وقع الانفصال السوري عام 1961 خرج الشيوعيون بمظاهرة ضخمة في مكتب سجن الواحات الخارجة ينددون بالانفصال. وعندما تحدث عبد الناصر عن أخطاء الوحدة ودروس الانفصال بعد ذلك أشار بوضوح إلى ضرورة مراعاة الملابسات والقسمات الخاصة لكل بلد عند تحقيق أي وحدة. وكان بهذا يتبنى رأياً اتهمنا بسببه بأننا أعداء الوحدة!”
ويؤكد العالِم أن الشيوعيين المصريين يقفون بغير شك من هذه القضية موقفاً مبدئياً ويناضلون من أجلها بحسم وموضوعية ويقفون في مقدمة الصفوف في نضالهم الواعي من أجل إنجازها. ثم يثير العالِم سؤالاً كبيراً: “هل معنى هذا أن هناك اتفاقاً عاماً بين الماركسيين المصريين (والماركسيين العرب عامة) وبين بقية الفصائل القومية العربية بالنسبة لقضية الوحدة العربية وقضية تحرير فلسطين،وإجابته على هذا السؤال هي نعم ولا
نعم من حيث الهدف العام، وهو تحقيق الوحدة الشاملة وتحرير الوطن الفلسطيني.
أما لا .. فتتعلق بمفهوم الوحدة ومنهج وشروط تحقيقها، وكذلك الأمر بالنسبة للقضية الفلسطينية.. وإن كنا نركز في هذا العرض على قضية الوحدة والقومية العربية.
وهنا يحرص الكاتب الكبير على التمييز بين أمرين: الأول هو الفكر القومي والثاني هو القضية القومية. ويؤكد: نعم هناك قضية قومية تتعلق بها جهودنا ونضالنا وتضحياتنا، وهي تحرير البلاد العربية جميعها، وتقدمها ووحدتها، ويوضح أن هناك فارقاً بين القضية القومية وبين الفكر القومي الذي يتم الخلط بينه في أغلب الأحيان وبين القضية القومية إلى حد يصبح مرادفاً لها، وهذا غير صحيح وغير دقيق.. فالفكر القومي هو بالفعل فكر يتبنى القضية القومية ويناضل من أجل تحقيقها، ولكنه فكر يغلب عليه الطابع الانفعالي الاستعلائي المثالي، وهو فكر يفتقد الرؤية الموضوعية للتاريخ والمجتمع والواقع عامة، ويتحرك ويسلك متسلحاً بنظرة إرادوية تتغافل عن حقائق الاختلافات والتمايزات العرقية والطبقية والظروف الاجتماعية في بلادنا العربية.
ويرى العالِم -دون الدخول في التفاصيل- أن كثيراً من المشاكل والمآسي التي تعرضت، وما تزال تتعرض لها القضية القومية والقضية الفلسطينية، إنما هي بسبب هذا الفكر القومي. والقضية القومية يمكن بل ينبغي أن تعالَج بمنهج آخر هو المنهج العقلاني العلمي الموضوعي الذي تتعدد داخله الاجتهادات؛ والماركسية هي اجتهاد موضوعي جاد بين هذه الاجتهادات التي تتصدى لقضية القومية.
ثم يصل العالِم إلى نتيجة مهمة وموضوعية، وهي أن تسمية أصحاب الفكر القومي وحدهم بالقوميين وسحب هذه التسمية عن الماركسيين أمر غير صحيح وغير دقيق؛ فالماركسيون قوميون كذلك، إنهم ليسوا قوميين فكراً، ولكنهم قوميون نضالاً وهدفاً. ومن هنا ينبع الاختلاف بين الماركسيين وبين مختلف الحركات القومية حول قضية الوحدة العربية والقضية الفلسطينية.
إن الوحدة العربية واقع موضوعي تتوفر بعض مقوماته الأساسية من جذور عميقة مشتركة في قلب تاريخنا العربي الإسلامي القديم والحديث، ولغة مشتركة وأرض مشتركة ليس بالمعنى الجغرافي فحسب بل بمعنى التعامل والتفاعل والتبادل كذلك، ولكن هذا الواقع الموضوعي ما يزال يفتقد بعض المقومات الأخرى حتى يتحقق، ولهذا فهو ما يزال إمكانية نضالية وليس واقعاً متحققاً كما يذهب بعض المفكرين، فما أكثر ظواهر الاختلاف التي لا سبيل إلى تجاهلها والوثوب فوقها. إن القضاء على الاختلافات لا يكون بتجاهلها وإنما بالاعتراف بها وتفهمها تمهيداً للسيطرة المعرفية عليها.
فالبلاد العربية تختلف فيما بينها من حيث أشكال الحكم، والأيديولوجيات السياسية السائدة، ومن حيث الأبنية الاقتصادية والاجتماعية المختلفة المتعارضة، وهناك اختلافات شاسعة في مستوى المعيشة وحجم السكان ومستوى التطور الثقافي والحضاري والسياسي .
وإلى جانب هذا كله تتسم البلاد العربية جميعاً بسمتين مشتركتين، هما التخلف والتبعية للرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية العالمية، وهما سمتان تفرقان أكثر مما توحدان، وإن كان من الممكن أن تصبحا أرضية مشتركة للنضال المشترك إذ أنهما تضعان شعوب البلدان العربية جميعاً أمام مرحلة ومهمة ثورية واحدة مباشرة وعاجلة هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. إلا أن ما يحد بل يجهض هذه الإمكانية النضالية هو طبيعة الأنظمة العربية البرجوازية التابعة بمراتبها ومستوياتها وتوجهاتها المختلفة.
وفي ضوء هذا الواقع يرى العالِم ضرورة وضع إطار عام لاستراتيجية للوحدة العربية رغم هذه الصورة الزاعقة من التمايز والاختلاف والتفاوت بين البلدان العربية. ويحدد بعض العناصر والشروط الأساسية لهذا الإطار في النقاط التالية :
أولاً: لا سبيل إلى وحدة عربية شاملة أو جزئية أو محدودة بين بلدين أو أكثر إذا لم تقم أولاً على أساس وطني تحرري معادٍ للاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وهذه هي الأرضية السياسية الأساسية الأولى للوحدة، وهي المدخل الأول الضروري لطريق الوحدة.
ثانياً: لا سبيل إلى تحقيق الوحدة العربية شاملة أو جزئية أو محدودة دون أرضية مشتركة أو متقاربة؛ أي لا يمكن أن تتم وحدة بين دولة ذات توجه اشتراكي يسودها التخطيط والقطاع العام مع دولة ذات توجه رأسمالي تسودها قوانين السوق والمشروع الحر. وهذا هو الأساس الاقتصادي للوحدة الذي يتداخل مع الأساس السياسي الأول.
ثالثاً: لا سبيل إلى تحقيق الوحدة العربية بالباراشوت من أعلى بالقمع أو الغزو من الخارج؛ وإنما يجب أن تتم من خلال تلاحم وتفاعل القوى السياسية الوطنية والتقدمية والمنظمات الجماهيرية والاختيار الواعي الديمقراطي الحر بغير ضغوط ديماجوجية أو قمعية، وهذا هو الأساس الديمقراطي للوحدة.
رابعاً: لا يوجد شكل محدد جاهز للوحدة القومية. وإنما يختلف الأمر باختلاف البلاد وواقعها وظروفها ومستوى النضج الديمقراطي والاجتماعي فيها، فقد تتم الوحدة بشكل دمجي أو كونفدرالي أو فيدرالي بين بلدين أو أكثر، لكن ينبغي أن يخضع الشكل لضرورات الواقع وظروفه وإرادة الجماهير.
خامساً: لا يمكن أن تقوم وحدة صحيحة وصحية على حساب الأقليات العرقية ودون مراعاة لحقوقهم الديمقراطية كاملةً في اختيار شكل الحكم الملائم لهم وحماية تراثهم وثقافتهم. ولا يمكن أن تقوم الوحدة دون مراعاة للتراث الديني والروحي والأخلاقي والثقافي عامة واحترام ما فيه من اختلافات واجتهادات.
هذه هي الشروط الأساسية التي تشكل العناصر والشروط الإستراتيجية للوحدة كما يراها العالِم، ولكنه يشير إلى أن هذا وحده لا يكفي، إذ لا بد أن نحدد أولويات هذه العناصر وأساليب العمل في ظل الظروف الآنية، أي لابد أن يكون هناك برنامج عمل مباشر وتحديد أساليب إنجازه
التعليقات مغلقة.