الحرية البرجوازية لن تجعلنا احراراً / يوسف عبدالله محمود
هل الحرية البرجوازية الممنوحة لكل إنسان وفق ما يشتهي ستجلعنا أحراراً حقيقيين؟ هل مثل هذه الحرية التي تدعو اليها الثقافة البرجوازية ستقيم مجتمعات انسانية متوازنة لا يشوّهها استغلال، ام انها ستُسلم رقابنا للحظ والصدف؟
ان مثل هذه الحرية البرجوازية مرفوضة اخلاقياً وانسانياً لأنها تغري سلطة رأس المال على المزيد من التغول والاستغلال البشع.
‘الثقافة البرجوازية’ –كما وصفها الكاتب البريطاني كريستوفر كودويل – هي ‘ثقافة محتضرة’ لأنها لا تلبي المتطلبات الحياتية الضرورية للبشر، بل هي مكرسة لخدمة طبقة معينة متعالية لا تجد من يحاسبها على تغولها.
نعم خُلق الانسان حراً ‘لكن الحرية ليست من نتاج الغرائز، بل هي من نتاج العلاقات الاجتماعية بالذات، إن الحرية مخبوءة في ثنايا علاقات الانسان بالانسان’. (كريستوفر كودويل: ‘الحب، دراسة في قيم مبتذلة’، ص 14، ترجمة: فاضل السباعي، دار الفارابي، بيروت)
إن ‘الحرية البرجوازية’ كما تدعو اليها الثقافة البرجوازية تجعل الانسان العادي تحت رحمة السوق ورأس المال، تجعله عبداً لهذا السوق ولسادته من البرجوازيين.
أعود فأقول: إن الحرية كما تطرحها الثقافة البرجوازية لن تجعلنا كبشر أحراراً، هي بحق مجرد ‘وهم’ لأنها ‘تغمض عينيها عن كل العلاقات القائمة بين الناس الذين يؤلفون المجتمع’.
وهم –كما يقول كودويل- ‘مادّته وجوهره الحقيقيان’. ما ذكره هذا الكاتب من ان ‘الحرية ليست من صنع الغرائز حقيقة لا يمكن لناقد منصف ان ينكرها.
ان الثقافة البرجوازية بقيمها المبتذلة لن تسود الى الابد لانها لا تخاطب الانسان والشرط الحقيقي للحياة الانسانية’.
يقول احد الفلاسفة المعاصرين موجهاً خطابه الى انصار الثقافة البرجوازية المعاصرة ‘نحن لسنا الاطباء، نحن المرض بعينه!’
إن عدم الحدّ من الغرائز الحرة وضبطها يؤدي بالضرورة الى متناقضات خطيرة حيث تغدو ‘الحرية’ ‘بلا فرامل’ تضبطها اذا ما هي تجاوزت القيم الانسانية.
‘الثقافة البرجوازية’ –مع الاسف- تُؤلّه ‘السلعة’ ‘لا ترى في العلاقة بين الناس الا علاقة بين الاشياء’. هي على هذا النحو المبتذل بلا اي دفء انساني، فارقتها ‘المودة’ التي دعت اليها أديان السماء. سكنتها ‘الكراهية والحقد’.
إن البرجوازي وفق ثقافته يطالب الانسان ان يقيم علاقته بالاشياء. الوُدّ مطرود بالكامل من هذه العلاقة، يطالبون ان تظل عبداً لسيد!. صحيح ‘ان بؤس العالم المعاصر اقتصادي’ لكن ذلك لا يعني انه قدرُ لا مفر منه. إن تفعيل العلاقات الاجتماعية بين البشر من شأن ذلك ان يكسبها ‘الحميمية’ والطُهر. اما تحويلها الى مجرد علاقات بين الاشياء، كما تسعى ‘البرجوازية’ فإن ذلك يعني تكريس ‘الطبقية’ ونشر المقولة الكاذبة بأن الفقراء هم الذين صنعوا فقرهم بأنفسهم لانهم تخلوا عن الطموح والعمل!
في ظل الثقافة البرجوازية، لا تكون العلاقة بين الانسان والآخر قائمة على اسس انسانية بل هي ‘علاقة مُستثمِر –بكسر الميم- بمستثمَر –بفتح الميم’. الاستعباد هو العنوان الابرز لهذه الثقافة.
‘لقد أدت المدنية البرجوازية الى تحويل العلاقات الاجتماعية الى روابط نقدية (نسبة الى النقد) بعد افراغها من كل حنان’. (كولدويل، المرجع السابق ص 36).
‘المدنية البرجوازية’ تضطهد الانسان العادي، لا تقيم اعتباراً لإنسانيته، هو في نظرها كَمُّ مهمل لا يؤبه به.
قد يقال هنا إن ‘الثقافة البرجوازية’ حققت الكثير من الاختراعات، هذا صحيح ولكن هذه الاختراعات لم تقضِ على الاستغلال والجشع، بل فاقمته.
فعلاً هناك زيادة لا نظير لها في القوى المنتجة، لكن هذه الزيادة –مع الاسف- ‘لم تُنجب السِّلم والوفرة والسعادة، بل الحرب والمجاعة والبؤس’. إن كل هذه الزيادة والوفرة لم يتم توظيفها في خدمة السلام العالمي، بل استفادت منها طبقة بيروقراطية معينة. من هنا نكتشف أن دعوة ‘الثقافة البرجوازية’ الى ان يمتلك الانسان الحرية المطلقة هي دعوة تلتف على القيم الانسانية والاخلاقية، لأنها لا تبني مجتمعات انسانية فاضلة، بل انها تُفرِغ الحياة من اي مضمون انساني، تقف عقبة في وجه ‘انسنتها’.
إن’تسليع’ الانسان يُفقده انسانيته وفق الثقافة البرجوازية.
اختم بالقول: إن الثقافة البرجوازية لا تحمل خيراً للإنسانية. ‘هي تخلو من كل شيء عدا الإكراه الاعمى’. ‘الإكراه الأعمى’ هو شعار هذه الثقافة.
التعليقات مغلقة.