العَـلمَـانيَّـة ، شعارٌ إيديولوجي أم استجابةٌ حضاريَّة؟ / كريم أبو حلاوة[1]
كريم أبو حلاوة[1] ( الأربعاء ) 3/10/2018 م …
تبدو استجاباتُ الفكر العربي المعاصر لأزمات الواقع العربي ومشكلاته متأخرةً ومرتبكةً وشكلانيةً في غالبيتها. فهي تتخذ شتى صيغ الوعظ والنصح تارة، وتلبس لبوس الحلول السحرية والوصفات الجاهزة تارة أخرى. وقليلة هي المحاولات التي تتعامل مع البحث والتنقيب كأسلوب لاستكشاف الجوانب المختلفة للظواهر دون تبنِّي مواقف مسبقة ومنهجياتٍ مُعَدة سلفًا، صالحةً في نظر أصحابها لكلِّ زمان ومكان!
لا تدعي هذه الدراسة إمكانيةَ تفسيرٍ ناجزٍ للَّوحة المرسومة بخطوطها العامة أعلاه، لكنها محاولة لتحديد التمفصُلات الرئيسية ولترتيب الأولويات قد تساهم في إعطاء العَلمانية، كواحدة من أبرز تلك الاستجابات وأكثرها مثارًا للجدل والخلاف، موقعَها وحجمَها، كما تطمح إلى استخلاص سماتها الأساسية وضروراتها.
فما هي العَلمانية؟ وكيف تعرف إليها الفكرُ العربي ومتى؟
أولاً: في مصطلح “العلمانية” ومسارها التاريخي
يستدعي التداولُ الواسع والانتشارُ المتعاظم لمفهوم العلمانية، المتزامنان مع معنى غامض وملتبس، العودةَ إلى أصل المفهوم، في محاولة لرصد مكوناته والتعرف إلى الانعطافات والسيرورات والانقطاعات التي شهدها في مجرى تكوينه وتطوره، وصولاً إلى صيغته الراهنة.
مفهوم العلمانية Laïcité, Secularism حاضر في الثقافة الغربية منذ النصوص الفلسفية الكبرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، ولكنه أقدم من ذلك بكثير من حيث الاشتقاق اللغوي: فكلمة laïkos اليونانية تعني الشعب خارج الإكليروس (رجال الدين)؛ أما في يونانية بيزنطة المتأخرة (القرن الثالث عشر)، فهي تسمِّي الحياة المدنية المضبوطة بقواعد الرهبانيات[2]. أما عبارة Secularism الإنكليزية، المستقاة من الكلمة اللاتينية sæculum، فإنها تعني لغويًّا الجيل من الناس؛ وقد أصبحت تشير لاحقًا إلى العالم الزمني في تميُّزه عن العالم الروحي.
ومنذ دخولها اللغةَ العربية، ثار خلافٌ حول نسبتها: فهناك مَن ينسبها إلى “العلم” (عِلمانية، بكسر العين)، في حين ينسبها فريق آخر إلى “العالم” (عَلمانية، بفتحها) – ولكلٍّ من الاتجاهين تفسيره ومبرراته. لن نتوقف عند هذا الخلاف لأن الأهم، في نظرنا، هو رصد الخصائص المشتركة للعلمانية عند الاتجاهين. فالبون ليس كبيرًا بين الاهتمام بشؤون العالم وبين الاهتمام بشؤون العلم: فالعلم الحديث مرتبط بالعالم لزومًا، إذ هو بطبيعته زماني لا يزعم الخلود، والحقائق العلمية نسبية وقابلة للتصحيح والتجاوز دائمًا. ولم يكن العلم الحديث ممكنًا إلا مع التحولات الاجتماعية الكبرى التي أفضت إلى انتزاع أمور الدنيا من المؤسسات الدينية التقليدية وإلى تركيزها في أيدي السلطة الزمنية. في حين يربط الرأيُ الآخر بين العَلمانية ومعنى العالم، أي بما يحدث في هذا العالم، على الأرض، في مقابل الأمور الروحانية التي تتعلق بالآخرة. وعليه، فالمعنيان مكمِّل كل منهما للآخر وملازم له[3] – إلا في حال النظر إلى العلم بمعناه الضيق الوضعي positivist واعتباره “عقيدة”: عندئذٍ يحدث استبدالٌ للعقيدة العلمية، في معناها الدوغمائي الضيق، بالعقيدة الدينية، فيكون الفضاء الدلالي والمعرفي لنسبة العَلمانية إلى العالم أرحب وأكثر دقة وضبطًا.
نستخلص مما سبق أن العَلمانية ليست بالظاهرة التي يمكن لنا توصيفها في بساطة ويسر. فهي جملة من التحولات التاريخية (السياسية والاجتماعية والثقافية)؛ وهي تندرج في إطار أوسع من مجرد التضاد بين الدين والدنيا (كما هو شائع)، وتنطوي على وجوه عدة:
- وجه معرفي: يتمثل في نفي واستبعاد الأسباب الخارجة على الظواهر الطبيعية والتاريخية – أي الظواهر الميتافيزيقية – وفي التشديد على التحول التاريخي الدائم؛
- وجه آخر مؤسَّسي: يتمثل في النظر إلى المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة خاصة تضم دور العبادة وأنظمتها ومستلزماتها؛
- وجه سياسي: يتمثل في عزل الدين عن السياسة (الدولة)؛ وأخيرًا،
- وجه أخلاقي قيمي: يربط الأخلاق بالتاريخ وبالضمير.
مما يعني أن للعَلمانية أشكالاً ومساراتٍ تعتمد على الظروف التي نشأت عنها، وتنطوي على تواريخ حقيقية غير إيديولوجية. لذا فهي ليست شأنًا ناجزًا تامَّ التحقق أو غير ممكن التحقق، بل هي سيرورة تاريخية قابلة للاستمرار والتقدم كما أنها قابلة للانتكاس والتراجع، بحسب القوى التي تساندها أو تعارضها على أرض الواقع الاجتماعي.
يعود تعرف الفكر العربي إلى العَلمانية إلى اللقاء الأول مع الغرب في أواخر القرن الثامن عشر، حيث كان العلم الأوروبي في أوج زخمه وعطائه، فتمكن آنذاك من إبهار العقول وبناء آمال وطموحات أوصلت إلى استخلاص نتائج غير دقيقة، بل ومتعارضة مع العلم ذاته. وقد عبَّر مفكرون عرب كبار عن هذا “الانبهار”، فتبنوا الرؤيا العَلمانية، مؤكدين أن الخلاص من تخلف العصور الوسطى لن يتم إلا بأخذ النموذج الأوروبي وتبنِّيه بعناصره كلِّها[4]. وقد اتسمت تلك العِلمانية بسمات ثلاث هي أنها:
- كانت إيجابية، بمعنى أنها تسعى إلى تحقيق هدف حضاري هو بناء المجتمع على النموذج الأوروبي؛ و
- كانت مشروعًا متكاملاً يستهدف تحديث جوانب الحياة العربية كلِّها على النمط الغربي (تجربة محمد علي)؛ و
- كانت موجهة ضد أوروبا – وهاهنا المفارقة: فالاقتداء بأوروبا كان يهدف إلى التخلص منها، باعتبار أن التقدم العلمي والتقني في الغرب يمثل تحديًا لا يمكن مواجهته وقهره إلا بتقدم مماثل.
وبعد مرور المجتمع العربي بتجارب متعددة إبان الاستقلال، لم يعد التحرر من الاستعمار هو الهدف المسيطر، بل أخذت قضايا الوحدة والتنمية والعدالة تستقطب صراع اتجاهات عدة، ليبرالية وقومية ويسارية ودينية. بذلك أصبحت للعَلمانية خصائص جديدة، من أبرزها أنها دفاعية، لا تمتلك ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص بقدر ما تعبِّر عن رفض التصور السلفي الديني الذي لن يؤدي، برأي العَلمانيين، إلى حلِّ المشكلات الحقيقية للمجتمع. بهذا بات من مطالب العَلمانية توفير الشروط الصحيحة التي يدور في إطارها أي صراع أو حوار اجتماعي، بحيث يصير صراعًا على أرض “بشرية”، فيمكِّن من الاختيار بين البدائل العديدة ويزيل احتكار الاستناد إلى مرجعية “سماوية” الذي يلغي شروط الصراع أصلاً[5].
هذا المطلب الأخير، تحديدًا، هو الذي فتح باب الانتقادات الموجهة للعَلمانية. ونظرًا لأهمية تحليل هذه الانتقادات فسوف نستعرض أبرزها ونناقشها، خصوصًا الانتقادات التي تمتلك مسحة “علمية” أو مستوى معرفيًّا – وإنْ في الحدود الدنيا –، علمًا أن الانتقادات الخطابية ذات الطابع الإيديولوجي الدعائي للعَلمانية لا تقل تأثيرًا عن سابقاتها. فما هي الانتقادات الموجهة للعَلمانية؟ وما مدى مطابقتها للواقع بمعيارين: معيار المشروعية التاريخية، أولاً، ومعيار المصداقية المعرفية، ثانيًا؟
ثانيًا: الانتقادات الموجهة للعَلمانية
أ. العَلمانية خاصية أوروبية: يؤكد نقاد العَلمانية أنها اتجاه ظهر في المجتمعات الأوروبية كتعبير عن ضرورة تاريخية مرتبطة بالظروف الخاصة التي مرت بها أوروبا في أثناء انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وأن اعتناق العَلمانية وتبنِّيها في مجتمعات غير أوروبية يعني، بالتالي، محاكاةً ببغائيةً تنم عن انعدام الشخصية[6]. ثم إن الصراع بين العلم والدين خاصية كاثوليكية، مثلها مثل وجود الكنيسة ورجال الكهنوت، الأمر الذي لا يوجد له مقابل في الإسلام باعتباره دينًا ودنيا. وبالاعتماد على الاعتبارات السابقة، فإن
[…] العلمانية ليست سبيلنا إلى التقدم […] بل ولا حتى لمواجهة قوى التخلف […] وإنما السبيل هو الوعي والفقه لحقيقة موقف الإسلام: الدين.[7]
وعليه، يرى محمد عمارة أن “المستعربون استعاروا مشكلةً أوروبية كي يستعيروا حلاًّ أوروبيًّا”[8].
إن أول ما يلاحَظ على الانتقادات السابقة هو فهمها السطحي للعَلمانية، حيث تُختزَل فيها إلى مجرد الفصل بين الدين والدولة، وبالتالي، إلى رفض وصاية المؤسسة الدينية على الشؤون الدنيوية للمجتمع، – وهذه إحدى خصائص العَلمانية “النضالية” التي سادت فرنسا، بظروفها الخاصة وثورتها (1789)، والتي أدت إلى انفصال الكنيسة عن الدولة نهائيًّا، – في حين ينطوي الفهم الأعمق والأشمل للعَلمانية على اعتبارها مجموعة من القيم العقلية تستهدف إحراز استقلال الفكر وضمان حريته حيال تحليل ونقد العقائد والإيديولوجيات (سياسية، دينية). إنها موقف للروح أمام مشكلة المعرفة؛ فكما يقول محمد أركون:
[…] بمعنى حق الإنسان في معرفة أسرار الكون والمجتمع اعتمادًا على عقله وخبراته. بهذا لا تكون العَلمانية موقفًا من الدين فقط […] بل من قضية المعرفة. والعَلمانية الفلسفية ليست الكفر؛ إنها بحث عن المعرفة، يدخل فيه الدين أيضًا، تقول بالدين وتبحث فيه بحثًا علميًّا ولا تقصد هدمه البتة. فهدف كلِّ موقف علمي هو فضح الثوب التنكري التمويهي الذي ارتداه الفكر الإسلامي العربي.[9]
ثم هل يشكل الاضطهاد الذي مارستْه المؤسسة الدينية على العلماء في أوروبا العصور الوسطى حالةً خاصة فريدة، أم أنه سلوك لأصحاب كلِّ عقيدة توتاليتارية يستدعي محاربة كل مَن يخرج عليها بذريعة البدعة أو الكفر أو الهرطقة (الزندقة) أو الانحراف؟
فبالعودة إلى التاريخ العربي الإسلامي، يمكن لنا العثور فيه على فترات لاقى فيها العلمُ والعلماءُ كلَّ الرعاية والتشجيع (وهذا ما تحاول السلفية تعميمه على التاريخ الإسلامي كلِّه)، كما يمكن العثور على فترات أخرى عانى فيها العلماءُ والفلاسفةُ شتى ضروب الاضطهاد والقمع. وإلا فكيف نفسر الاضطهاد الذي عاناه المعتزلة وإخوان الصفا والعديد من الصوفية (كالحلاج وابن عربي والسهروردي وغيرهم)؟ وبماذا نفسر إحراق كتب ابن رشد واضطراره إلى إنكار الاشتغال بالفلسفة أمام خليفة الموحدين أبي يوسف، ثم اعترافه بذلك بعد أن طمأنه الأخير بأنه هو الآخر على صلة وثيقة بها؟ وكيف استطاعت فلسفة أبي حامد الغزالي أن تتسيد مع التيار الأشعري وتصبح الممثلة الرسمية للفكر العربي الإسلامي طوال قرون عديدة، في مقابل انحسار التيار العقلاني من هذه الفلسفة؟
وبالانتقال إلى العصر الحديث، ماذا نقول عن هروب عبد الرحمن الكواكبي إلى مصر وعن مصادرة كتاب الشيخ الأزهري علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم وفصله من هيئة الأزهر؟ وهل يكفي التذكير بما حلَّ بكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي والموقف من مؤلفات كلٍّ من محمد أحمد خلف الله وصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد وغيرهم؟
المشكلة، إذن، في العقائد المغلقة التي يعتقد أصحابُها أنهم يملكون الحقيقة كلَّها، فيقسمون البشر إلى “أهل الحق” – وهم أصحاب هذه العقيدة أو تلك، كل بحسب انتمائه – وإلى “أهل الباطل” الذين لا ينتمون إلى هذه العقيدة. بهذا يحسم مناهضو العَلمانية والتفكير الحر أيَّ نقاش حتى قبل أن يبدأ!
وعليه، لا تكون العَلمانية ضروريةً للتخلص من عصور الظلام في أوروبا القروسطية فقط، بل هي ضرورية للتخلص من التعصب والجمود الفكري ومحاصرة الحريات. إذ إن “العصور الوسطى” ليست مرحلة زمنية فقط؛ إنها حالة ذهنية وعقلية متكلسة تستدعي العَلمانية، أينما وأنَّى وجدت، لمواجهتها وتجاوُزها.
ب. الإسلام دين ودنيا: إن عبارة “الإسلام دين ودنيا”[10]، التي يتم تداوُلها كبديهية غير قابلة للنقاش، هي الأساس الذي يستند إليه نقادُ العَلمانية: فبما أن الدين الإسلامي يخلو من المؤسسة الدينية ومن رجال الكهنوت، تكون الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة دعوةً مستوردة، غريبة عن روح مجتمعنا وجوهره الأصيل[11].
تستدعي الإجابة المتأنية على هذه النقطة إجراءَ دراسات ومقارنات تهدف إلى توضيح وجوه التشابه أو التباين بين أوروبا القروسطية ودور الكنيسة وموقعها فيها وبين علاقة الإسلام بالمؤسسة الدينية. وهذه الدراسة لا تدعي إمكان قيامها بمثل هذه الدراسات والمقارنات، غير أن ذلك لا يمنعنا من طرح بعض التساؤلات: ألم تكن الكنيسة الكاثوليكية سلطةً روحيةً وزمنيةً في آنٍ معًا؟ ألم يؤوَّل قولُ السيد المسيح: “أدوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله” (إنجيل متى 22: 21) تأويلاً مختلفًا عند مسيحيي العصور الوسطى؟ ثم ما هو دور مؤسسة الأزهر وهيئة كبار العلماء وهيئة الإفتاء وصلاحياتهم فيما يتصل بشؤون الحياة والمجتمع الإسلاميين؟ وبعد، ماذا يبقى من كلام الذين يعتبرون العَلمانية “مؤامرة على الإسلام” ونتاجًا يهوديًّا تلموديًّا أصيلاً، ثم يصرون على الربط بين العَلمانية والماسونية ومخططات الصهيونية والثورة الفرنسية وعصر التنوير؟! كيف تسنى لهؤلاء وضع اليهود والماسونية مع الثورة الفرنسية وعصر التنوير في سلَّة واحدة؟! ألا ينم هذا عن جهل بالتاريخ أو، في أحسن الأحوال، عن تجاهُل لعقل القارئ؟
إن الكلام على عصر التنوير والثورة الفرنسية بهذه الطريقة الهجائية الرعناء لا يقلِّل من أهمية الإنجازات التي تحققت في هاتين اللحظتين التاريخيتين: فالنقلة التي قام بها مفكرو “الأنوار” les Lumières في مجال الفكر والوجود، بجعلهم الإنسان الفرد مركز الاهتمام، بغضِّ النظر عن مشروعيته الدينية أية كانت، جعلت منه قيمةً في حدِّ ذاته. ومن الواضح أن التقدم العلمي والتقني وازدهار البرجوازية في القرن الثامن عشر قد أتاحا لمفكري التنوير تحقيق هذه النقلة النوعية الكبرى. كانت تلك المقدمات، إضافة إلى الحروب الدينية الطويلة بين الپروتستانت والكاثوليك طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر، هي الأسس التي نهضت عليها إيديولوجيا مستنيرة ترتفع فوق الحساسيات المذهبية والدينية وتفتح أفقًا للمستقبل شكَّل قطيعة معرفية مع مفاهيم العصر الوسيط وتصوراته، أفضت إلى تشكُّل المجتمع المدني في دول أوروبا على أساس المُواطَنة القومية. كذلك قامت الثورة الفرنسية بتغيير نظام المشروعية: فبعد أن كان يستند إلى القاعدة اللاهوتية والمذهبية، أصبح يرتكز على قاعدة الاقتراع العام والتصويت وإرادة الأغلبية. هذه السيرورة التاريخية التي استغرقت أكثر من قرنين، وسال من أجل تحقيقها الكثير من الدماء والحبر أيضًا، تجعل من الصعب القبول بتهميشها وهجائها في بساطة[12].
ج. العَلمانية تتجاهل التراث وتنسفه: القول بالعَلمانية لا يعني تجاهُل التراث أو نسفه. فتاريخ أوروبا شهد تطور العَلمانية جنبًا إلى جنب مع دراسة التراث وإحيائه على يد أصحاب المذهب الإنساني Humanism. ولم يكن هناك تعارُض بين التوجهين، كما يحلو لنقاد العلمانية عندنا، الذين يعتبرون أنفسهم “حماة التراث”، أن يزعموا. لهذا لا نستطيع، في رأيهم، أن نحافظ على هويتنا ونتمسك بجذورنا إلا برفض العَلمانية، متجاهلين أن قوام العَلمانية مرتكز إلى مجموعة من القيم العقلية وامتلاك روح النقد والتمسك بالمنطق العلمي، وأن هذه القيم لا تقتصر على الحضارة الأوروبية وحدها، بل إن لها جذورًا في عمق الحضارة العربية الإسلامية، وهي امتداد لتراث المعتزلة والفارابي وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم.
هنا تبرز أهمية القراءات المعاصرة للتراث التي قام بها عددٌ من الكتاب والمفكرين العرب، من أمثال محمد أركون، طيب تيزيني، نصر حامد أبو زيد، وغيرهم – تلك القراءات التي تنظر إلى التراث في إطاره التاريخي ولا تعتبره مثلاً أعلى يجب تطبيقه على الحاضر، بل خبرة بشرية بكلِّ ما تنطوي عليه من مزايا ومثالب. ومن هنا فهي لا تستبدل بالحاضر السلبي الماضيَ الإيجابي استبدالاً ذهنيًّا، كما يفعل السلفيون، بل تؤكد أنه لا يمكن الاستفادة من التراث، لا بل يصعب حفظه حتى، إلا من خلال دراسته ونقده، وإلا فسنبقى في إسار التبعية للماضي في مواجهة الحاضر (هذه واحدة من أبرز خصائص الخطاب السلفي المعاصر). ولا يقل عن هذه المثلبة سوءًا مطلبُ التأسي الأعمى بالغرب واعتباره النموذج الذي يُحتذى عِبْرَ استحضار مرجعياته ونقل مفاهيمه ومنهجياته على عواهنها، بغضِّ النظر عن حاجات مجتمعنا ومشكلاته، أي عِبْرَ التفريط بالعلاقة بين العام والخاص، بين الداخل والخارج، أي عِبْرَ الوقوع في إسار التغريب westernization والتطويح بخصوصيتنا الاجتماعية والتاريخية.
ثالثًا: خصائص العَلمانية
والآن، كيف يمكن الانتقال من عَلمانية الشعار الإيديولوجي واللغة السجالية، التي كثيرًا ما وسمت الفكر العربي المعاصر، إلى عَلمانية أخرى أرحب وأكثر إيجابية، تشكل موقفًا شاملاً ومتماسكًا حول قضايا الإنسان والدين والمجتمع، فتفسح المجال للتنوع والتمايز، مرتكزة على التعددية والاعتراف بالآخر، وتكون، بالتالي، مبدأ أصيلاً وضروريًّا للبشرية كلما نشب الصراع بين استقلالية الفكر وخضوعه[13]؟ ما هي الخصائص الأساسية التي تشكل قوام هذه العَلمانية؟ وما هي ضروراتها؟
- أولى خصائص العَلمانية هي:
القدرة الاستيعابية التي توفِّرها للمجتمعات المعاصرة، المتكثِّرة الأديان والطوائف والأعراق. إنها توفِّر لها جميعًا الأطُر المرجعية المحايدة للحوار فيما بينها، وتوفِّر لها الأرضية العمومية للمصالح المشتركة التي يمكن الاحتكام إليها عند اللزوم، كما توفِّر لها المقولات الكلِّية والتصورات المعرفية العابرة للخصوصيات الدينية، التي تتحول إلى أدوات تتوسط التناقضات الإيمانية وإلى ميكانزمات وآليات عمل لامتصاص الصدمات والهزات التي لا بدَّ أن تعصف بمثل هذه المجتمعات من حين لآخر.[14]
- ثانية هذه الخصائص:
الحياد الإيجابي للدولة، بأجهزتها وأدواتها وممثليها ومؤسساتها، إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والأعراق.[15]
تتبدى أهمية هذه الخاصية في أثناء غياب دور الدولة وفي فترات اندلاع الحروب الأهلية: فمن لبنان، إلى أفغانستان، إلى جمهوريات يوغسلافيا السابقة، إلى رواندا[16]، وانتهاءً بالوضع المأساوي في العراق[17]، يتبين في وضوح كم هي مرعبة ولاعقلانية محاولاتُ السيطرة وتكريس التفرد لأيِّ طرف عبر العنف وإلغاء الآخر، حتى لو كان الثمن دفع الجميع إلى الهاوية! فهل ينطوي هذا الخراب كله على “حكمة” ما؟! وهل لنا أن نكلِّف أنفسنا عناء البحث عنها؟!
- وثالثة هذه الخصائص:
المساواة بين جميع المواطنين، ذكورًا وإناثًا، أمام القانون ومساواتهم في الفرص والمسؤوليات والواجبات والحريات إلخ، بغضِّ النظر عن قناعاتهم الدينية، وبغضِّ النظر عن انتماءاتهم المذهبية أو الطائفية أو الميتافيزيقية أو غيرها.[18]
فالعَلمانية، بهذا المعنى، ضرورة اجتماعية وسياسية، لما توفِّره من اتساع في مجال الحريات بالمقارنة مع أيِّ حكم ذي طابع ديني أو مذهبي يمكِّن الأغلبيةَ من اضطهاد الأقلِّيات ويقوِّي المذهب السائد على المذاهب المَسُودة الأخرى. فالحريات العامة، وخصوصًا حرية الاعتقاد والتفكير، يمكن أن تقيَّد وتُهدَر إذا كان الحكمُ مستندًا إلى حقائق مطلقة تعتبر كلَّ مَن يخالفها منحرفًا. ووفقًا للاعتبارات السابقة، تكون العَلمانية حاجةً دائمة تفرض نفسَها كضرورة معرفية على كلِّ مجتمع مهدد بطغيان التفكير الغيبي السلطوي ومهدد بقولبة التفكير وانتزاع القدرة على التساؤل والنقد والبحث المستقل[19].
رابعًا: العَلمانية بين الشعار الإيديولوجي والاستجابة الحضارية
لكي تكون العَلمانية استجابة حضارية بالمعنى الشامل، لا بدَّ لها من مواجهة بعض التحفظات ومن تجاوُزها:
- يتعلق التحفظ الأول بقدرة العَلمانية، في إطار مواجهة العقائد الأخرى، على عدم التحول إلى عقيدة جامدة جديدة. ولا يفيد هنا تمسُّكها بصفة “علمية”، مما يجعل نقدَها متعذرًا والخروج عليها انحرافًا. وتاريخ الإيديولوجيات الكبرى مليء بالأمثلة على هذا النوع من الدوغمائيات.
- في حين يقوم التحفظ الثاني على تحول العَلمانية من سيرورة تاريخية، قابلة للتقدم والازدهار كما أنها قابلة للانحسار والتراجع، إلى صيغة جاهزة لحل جميع المشكلات؛ أي أن تتحول إلى مجرد “شعار” إيديولوجي سرعان ما يُفرغ من مضمونه أسوةً بالشعارات الإيديولوجية الأخرى.
- أما ثالث هذه التحفظات فإنه يكمن في تبني العلمانية لمواجهة الدين، علمًا أنها لا تساوي الإلحاد، بل تعني التصرف وفق مقتضيات العقل المتحرر والنقدي. فالتعارض بين العلم والدين، بين العقل والشريعة، أو التوافق بينهما، مقولة قروسطية بائدة لم تعد تُناقَش. والعلم الحديث يهتم، في جملة ما يهتم به، بطبيعة المعرفة الدينية ويحاول فهمها وتفسيرها؛ وهناك العديد من الفروع العلمية المتخصصة في هذا النوع من المعارف، ليس علم الاجتماع الديني غير واحد منها.
- آخر هذه التحفظات هو أن يبقى ارتباط العلمانية بالديموقراطية شكلانيًّا وألا يطال الاهتمامَ ببُنى المجتمع المدني Civil Society ومؤسساته: فتعميق البعد الديموقراطي للعَلمانية، بما ينطوي عليه من تعددية واعتراف بالآخر وبحقِّه في التمايز والاختلاف، وصولاً إلى الاهتمام بالفاعلين الاجتماعيين، يشكِّل أعمق مضامين العَلمانية وأكثرها جوهرية[20]. وقد شهدت العديد من تجارب التاريخ أن العَلمانية يمكن لها أن تكون غير ديموقراطية في بعض المراحل أو المجتمعات، بينما تبقى الديموقراطية عَلمانية ومنفتحة دومًا.
بهذا فقط يمكن للعَلمانية أن تتحول من مجرد شعار إيديولوجي إلى استجابة حضارية من شأنها أن تضيء سبيلاً في هذا الليل العربي الطويل!
*** *** ***
تنضيد: دارين أحمد
[1] باحث من سوريا، اختصاصي في الفلسفة ومهتم بقضايا المجتمع المدني.
[2] عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص 18.
[3] فؤاد زكريا، “العلمانية ضرورة حضارية”، قضايا فكرية، الكتاب الثامن، تشرين الأول 1989، ص 273.
[4] عزيز العظمة، مرجع سابق، ص 27.
[5] فؤاد زكريا، مرجع سابق، ص 274.
[6] انظر: محمد مهدي شمس الدين، العلمانية، المؤسسة الجامعية للأبحاث، بيروت، 1983، ص 162؛ وكذلك: محمد يحيى، في الرد على العلمانيين، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1988، ص 11-13.
[7] انظر: محمد عمارة، الإسلام والعروبة والعلمانية، دار الوحدة، بيروت، 1982، ص 61-64.
[8] محمد عمارة، جريدة الحياة، عدد 22/08/1989.
[9] محمد أركون، في حديث لمجلة الإحياء العربي، العدد 5، تشرين الأول 1979، ص 13. وانظر أيضًا طه حسين: “إن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الدين عندما يصبح أداةً من أدوات السلطة.” (عن كتاب قضايا وشهادات، صيف 1990، ص 416)
[10] انظر الحوار بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي على صفحات اليوم السابع، 3 نيسان 1989. هكذا نجد أن المفكر العربي، بدلاً من أن يشكك في بديهية الأفكار الاجتماعية الشائعة، يصادق عليها ويأخذها دون مناقشة! فبما أن الجميع يقولون: لا كهنوت في الإسلام كما هو موجود في المسيحية، وبالتالي فإن العلمانية ليست واردة في الإسلام، فإنه يقول قولهم!
[11] أنور الجندي، سقوط العلمانية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص 107.
[12] هاشم صالح، “الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات”، الوحدة، العدد 101-102، 1993، ص 20-21.
[13] فؤاد زكريا، مرجع سابق، ص 289.
[14] صادق جلال العظم، “العلمانية في الفكر العربي الحديث”، محاضرة ألقيت في “الأسبوع الثقافي الأول”، جامعة دمشق، نيسان 1994، ص 5.
[15] صادق جلال العظم، المرجع السابق، ص 6. انظر أيضًا: عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، لندن، 1993، ص 400، حيث ورد تعريف شبلي العيسمي بأنها “جملة من التدابير جاءت وليدة الصراع الطويل بين السلطتين الروحية والزمنية […] واستهدف فك الاشتباك بينهما واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، مما يضمن حياد الدولة تجاه الدين، أي دين، ويضمن حرية الرأي، ويمنع رجال الدين من إعطاء آرائهم صفة مقدسة”.
[16] كانت حصيلة المليون ضحية في رواندا، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، شاهد يطال أكثر من بُعد من أبعاد الحضارة الإنسانية على مشارف القرن الحادي والعشرين.
[17] ضحايا الاقتتال اليومي في العراق، التي تقدَّر بمئات الألوف، تفوق قطعًا كل ما تفتقت عنه ممارساتُ الاحتلال الأمريكي.
[18] صادق جلال العظم، المرجع السابق نفسه.
[19] فؤاد زكريا، مرجع سابق، ص 294.
[20] أحمد برقاوي، “العلمانية بوصفها إيديولوجيا”، محاضرة ألقيت في “الأسبوع الثقافي الثاني”، جامعة دمشق، 1995، ص 24.
التعليقات مغلقة.