الثقافة العقلانية التنويرية ضرورة تاريخية / د. عدنان عويد
د.عدنان عويد ( سورية ) الخميس 4/10/2018 م …
الثقافة في أحد مفاهيمها, أو تعريفاتها, هي كل ما قام بإنتاجه أفراد مجتمع ما أو أمة ما تاريخياً في الاتجاهين المادي والروحي معاً, من خلال العلاقة الجدلية بين أفراد المجتمع أو الأمة مع الطبيعة ومع بعضهم. أو بتعبير آخر: إن الثقافة في أعلى تجلياتها هي تلك المنظومة المعرفية المترابطة مكوناتها (فكراً وممارسة) بعلاقات جدلية, ممثلة هذه المكونات بكل ما هو (محفور أو منقوش أو مرسوم أو مدون أو مخطوط أو مقال أو مشاد أو منتج.. وغير ذلك.), ومن خلالها – أي المنظومة الثقافية- يستطيع الباحث أو المتابع التعرف على هذا المجتمع أو الأمة من حيث المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبسيكولوجية التي وصلا إليها في مرحلة تاريخية محددة, أو عبر مراحل تاريخية متعددة.
نعم, إن المنظومة الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم, تشكل البوصلة التي يهتدي أو يتعرف أفراد هذا المجتمع أو الأمة ومكوناتهما الاجتماعية من خلالها على درجة تطور أو تخلف مجتمعهم أو أمتهم. أي هي القوة الكامنة والنشطة التي تحرك أفراد المجتمع أو الأمة بمكوناتهما في إطار حدودهما الجغرافية بشكل خاص, مثلما هي تشكل هوية هذا المجتمع أو الأمة التي تميزهما بالضرورة عن بقية المجتمعات أو الأمم, وتحدد رؤية هذه المكونات وكيفية قراءتها لهذا العالم. كما تقوم هذه المنظومة الثقافية أيضاً بكشف مجموعة ولاءات هذه المكونات وانتماءاتها ومرجعياتها الدينية او العقيدية او الاثنية أو الحزبية, وبالتالي نسق قيمها الأخلاقية الثابتة (المعيارية), والمتحركة, التي على أساسها يحدد المجتمع أو الأمة ما هو الحلال وما هو الحرام, أو ما هو الصح وما هو الخطأ في طبيعة العلاقات القائمة والمتداولة بين أفراد هذا المجتمع أو الأمة. أو بتعبير آخر تستطيع هذه المنظومة تحديد جملة المعطيات الفكرية والسلوكية, ودرجة قدرتها على استيعاب الآخر والتواصل أو التفاصل معه. مثلما تستطيع هذه المنظومة من جهة أخرى أن تبين قدرة هذا المجتمع أو هذه الأمة ممثلة بالحوامل الاجتماعية صاحبة الفعالية السياسية بشكل خاص, على بناء المجتمع وتحريك طاقاته الابداعية, من حيث المواجهة والتحدي لما يتعرض له هذا المجتمع من محن وانتكاسات وتحديات داخلية أو خارجية, والقدرة على تجاوز هذه التحديات والانفتاح على المستقبل بكل ما يمثله هذا المستقبل من طموحات مشروعة في تجديد هذا المجتمع أو الأمة وتحقيق نهضتهما والسير بهما قدما نحو النهضة والتطور.
ثقافة الماضي وحظوتها:
لاشك أن لثقافة الماضي حظوتها وحضورها وقدسيتها لدى أبناء المجتمع أو الأمة, بيد أن الماضي يستحيل أن يظل هو المهيمن على حياة المجتمعات والأمم ويتحكم في حاضرهما ومستقبلهما. فحركة التاريخ بكل مضامينه هي في حالة سيرورة وصيرورة لا تقف عند حدود, وحالات الإبداع والتطور, لا تنقطع في حياة المجتمعات طالما أن حاجات الناس في تطور دائم. لذلك نقول : إن المجتمعات أو الأمم التي تتمسك بثقافة الماضي على حساب كل ما هو جديد وإبداعي, سيُحول هذه الثقافة الماضوية إلى حقائق ثابته مقدسة, يعتقد حملتها بأنها هي وحدها سر وجودهم ومنطلقهم لكل ما هو تال, وبالتالي فأي محاولة لتغيير هذه الثقافة أو النيل من مكوناتها هو نيل وانتقاص من كرامة هذا المجتمع أو هذه الأمة. وهذا الموقف المتزمت والمتعصب أو المنافق للماضي وتراثه بعجره وبجره سيعرض هذه المجتمع وتاريخ حركته حتماً لإخفاقات وتأرجحات وترددات لا نهاية لها. وللخروج من هذا المأزق الماضوي يظل العلم والتطور العلمي والتعلم أحد العوامل الرئيسة الكفيلة بهز قناعات المجتمع الوثوقية المقدسة, والمنافية للعلم والانفتاح على الحياة والقدرة على تجديد الأدوات المعرفية والإدراكية لأبناء المجتمع وفهم العالم. مثلما تظل الحرية المشروطة بالمسؤولية وممارستها بعيداً عن أي منع وقمع وإقصاء من قبل القوى السياسية الحاكمة, أو الموروث الثقافي التقليدي الوثوقي, الأساس الثاني الذي يفسح في المجال واسعاً للتعامل مع الجديد والابداعي الذي يفجر طاقات الشعب ومبدعيه ويساهم في فتح باب مشاركة جميع أبناء المجتمع أو الأمة في البناء والتطوير.
من هذا المنطلق المنهجي والمعرفي معاً, لا بد إذاً من وعي جديد لمراجعة مكونات المنظومة الثقافية للمجتمع باستمرار. فوعي المراجعة وإعادة الاستلهام لهذا التراث ضرورة تاريخية لاستخلاص المعارف وفهم الواقع المعيش والتفكير فيه ونقده باستمرار, بل ونقد الوسائل والمناهج المعرفية ذاتها التي تتعامل معه.
ملاك القول: إن أي فعل يبذله مجتمع من المجتمعات من أجل التغيير والتطوير وتنمية المجتمع وتحقيق تقدمه ممثلاً بحوامله الاجتماعية المسؤولة عن ممارسة هذا الفعل وعلى كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, يفرض على هذه الحوامل الاجتماعية المناط بها فعل التطوير والتحديث, أن تدرك أن التغيير لن يتحقق على طريقة افلاطون في مدينته الفاضلة, أو سان سيمون في مدينة الشمس, كما أنه لن يتحقق عن طريق حزب أو طائفة أو عشيرة تتمتع وحدها بالسلطة. أو بتعبير آخر: إن فعل التغير والتحديث لن يقوم على آراء حزب أو كتل اجتماعية/سياسية يشعر أي منهم بأن الوطن له وحده وهو صاحب القرار في رسم طريق الشعب الذي عليه أن يسير وفقه, واعتبار كل مخالف لقناعات هذه الأحزاب أو الكتل المتحكمة في السلطة, أو خارج السلطة, خائناً أو عميلاً أو معادياً للدولة والمجتمع. إن التغيير الحقيقي لا يتم إلا من خلال تجذير المواطنة وحق المشاركة للجميع في التخطيط لبناء الدولة والمجتمع وقيادتهما, وهذا لن يتحقق إلا بممارسة الديمقراطية والعلمانية بكل ما تحمل هذه الممارسة من حق واحترام للرأي والرأي الآخر, وللتعددية السياسية وتداول السلطة, ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. أو بتعبير آخر لن يتم هذا الفعل إلا بالقضاء على كل القوى الانتهازية والوصولية المشبعة بالروح الأنانية والتسلط والاستبداد والفساد, التي تعتبر نفسها هي القوى الوحيدة التي منحها الله والتاريخ مشروعية قيادتها للدولة والمجتمع كما تريد هي وتشتهي.
كاتب وباحث من سورية
التعليقات مغلقة.