اتفاق إدلب.. روسيا بين خيارين / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد ( فلسطين ) الخميس 4/10/2018 م …

عند توقيع اتفاق إدلب في سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان، لم يكن من الصعب على أي سياسي، خاصة من يعرف خفايا السياسة الروسية، الخروج باستنتاج أن الاتفاق كان تأجيلا للمشكلة وليس حلّاً لها! وبالفعل بمجرد مضيّ عشرة أيام فقط على توقيع الاتفاق غير القابل للحياة منذ ولادته، بدأت التناقضات تدبّ في أوصاله، وجرى الحديث علنا على الافتراق بين الجانبين الروسي والتركي.
ووفقا لما نُشر فإن هناك أربع نقاط خلاف بين موسكو وأنقرة على تفسير الاتفاق. لقد نص الاتفاق على إقامة «منطقة عازلة» في مناطق المعارضة شمال سوريا، وليس ضمن خطوط التماس بين قوات النظام والمعارضة. كما تضمن جدولاً زمنياً لسحب السلاح الثقيل في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، كما التخلص من الإرهابيين في منتصف الشهر ذاته. وقالت مصادر مطّلعة إن موسكو أبلغت طهران ودمشق وأنقرة، أنه «في حال لم يتم الوفاء بالموعدين، سيتم فوراً بدء العمليات العسكرية والقصف الجوي». وحسب المصادر ذاتها، يتعلق الخلاف الأول بعمق «المنطقة العازلة» بين 15 أو 20 كيلومتراً، وقد سعت موسكو لضم إدلب ومدن رئيسية إليها مقابل رفض أنقرة. ويتناول الخلاف الثاني طريقي حلب ـ اللاذقية، وحلب ـ حماة، ذلك أن روسيا تريد أن تعودا إلى دمشق قبل نهاية العام، في حين تتمسك أنقرة بإشراف روسي – تركي عليهما.
أما نقطة الخلاف الثالثة، فتتعلق بمصير الإرهابيين، بين رغبة أنقرة في نقلهم إلى مناطق الأكراد، وتمسك موسكو بـ»عزل الأجانب منهم، ومحاولة تسليمهم إلى دولهم». يختلف الجانبان أيضا حول مدة اتفاق سوتشي. قالت المصادر، «موسكو تريده مؤقتاً مثل مناطق خفض التصعيد في درعا وغوطة دمشق وحمص، فيما تريده أنقرة دائماً»، لهذا كانت قد قامت بما سمته عمليتي «درع الفرات»و»غصن الزيتون»، اللتين ضمنتا لها احتلالا مباشرا لبعض مناطق الشمال السوري. وتأمل أنقرة وموسكو في أن تساهم القمة الروسية – التركية – الفرنسية – الألمانية الشهر المقبل، في حل الخلافات حول إدلب.
يقول مثلٌ دارج «لا تعبث مع الرّوس» فالرئيس بوتين يتمثل دوما مرحلة «العزّ» السوفييتية، فهو مختلف تماما عن يلتسين وعن سلفه غورباتشوف، فهو تلميذ نشيط تربّي في مدرسة المخابرات (كي. جي. بي) إبان عصر روسيا الذهبي، ووفقا لأقواله، فإن أسوأ حدث مرّ في حياته هو انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية. إن طبيعة السياسة الروسية، تتحلى بالنفس الطويل والصبر، من دون نسيان ما حدث. ثم في لحظة مناسبة يأتي الرد، الذي قد لا يكون مباشرا تجاه المخطئ، بل يتخذ شكلا لولبيا في صعوده وأهدافه، فمثلا الرد الروسي على دولة الكيان الصهيوني لم يأت مباشرة ضد إسرائيل، بل التفافيا من خلال سوريا، كذلك الأمر بالنسبة لإسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية عام 2015. فبعد اعتذار أردوغان، تمحور الرد الروسي في سوريا. وهنا يجب التأكيد على أن الاتفاق الروسي – التركي حول إدلب، لن يكون اتفاقا طويل الأمد، بل بانتظار ظروف مواتية لاتخاذ قرارات، تتمكن فيها سوريا من استعادة سيادتها على كل أراضيها. أيضاً، بالنسبة لإسرائيل، فإن من يطالع الصحف الإسرائيلية، بعد إسقاط الطائرة الروسية، يدرك حجم القلق الإسرائيلي من رد الفعل الروسي، فمثلا كتب أليكس فيشمان في صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقالة طويلة تحت عنوان «لهذا الخلل سيكون الثمن باهظا». أما مقالة أسرة التحرير في صحيفة «هآرتس» فكتبت مقالة تحت عنوان «سوريا ليست ميدان تدريب». من زاوية أخرى، قالت مصادر إسرائيلية، إن حكومتها وقيادة جيشها تنتظر بقلق رد فعل روسيا على إسقاط طائرتها، على الرغم من «البيان الهادئ الذي أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حسب الوصف الإسرائيلي. والأمر الأساسي الذي يدخل في التوقعات الإسرائيلية، هو أن تتخذ روسيا إجراءات جديدة في سوريا، من شأنها منع الهجمات العدوانية الإسرائيلية في الأجواء السورية. وقالت أيضا صحيفة «هآرتس»، في اليوم التالي مباشرة للحادثة، إن إسرائيل ترى نفسها، أنها حاليا «واقعة في ورطة مع الروس، التي من شأنها التأثير بصورة سيئة على حرية العمل الاستراتيجي التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي في سوريا».
بعد اتفاق إدلب في سوتشي، فإن أمريكا وإسرائيل والبعض من الدول العربية عادت تراهن على حدوث معجزة، بعودة عقارب الساعة إلى الوراء، والاستمرار في مخطط تقسيم هذه الدولة العربية، وإفشال المساعي الروسية لإحلال السلام في سوريا، والتشكيك في إمكانية سيطرة الحكومة السورية على كل أراضي بلدها، كما محاولة توريط روسيا في مستنقع شبيه بالمستنقع الأفغاني الذي تورط فيه الاتحاد السوفييتي السابق، كذلك لم تكن موسكو عندما جاءت الى سوريا، معنِية بتصعيد خلافاتها العاصفة مع إدارة دونالد ترامب الأمريكية وحزب الحرب في واشنطن، بعد الاتهامات المركّزة لهؤلاء حول التدخل الروسي في أوكرانيا في عام 2014 ومسارعة واشنطن الى فرض عقوبات قاسية على روسيا، ما يعنى ـ ضمن امور اخرى ـ ان موسكو حريصة على عدم جعل سوريا ساحة مواجَهة عسكرية منفلتة مع واشنطن، المنخرطة بحماسة في الحرب في سوريا وعليها، عبر دعمها للمجاميع الإرهابية وافتضاح ادعاءاتها بأنها تحارب الارهاب.
للأسف، هؤلاء لا يدركون حقيقة الموقف الروسي، بأن موسكو لم تأت لمحاربة إسرائيل، ولا للاصطفاف مع إيران وحزب الله، وهي أيضا تعي عمق حجم الصراعات والتنافس المحموم بين القوى الاقليمية، وبين بعض العرب أنفسهم، ودولهم التي تفتقِد اي بُعد تأثيري على أحداث المنطقة، والتي تتحكم في خلافاتها عقلية ثأرية قائمة على تصفية الحسابات.
وبالعودة إلى اتفاق إدلب، فإن روسيا عندما دخلت في أتون الصراع السوري بطلب من الحكومة السورية في سبتمبر/أيلول 2015، حددت الأهداف من دخولها بالتالي: ضرب محور الإرهاب الذي لو انتصر في سوريا، لا سمح الله، لأصبح يهدد الجمهوريات الآسيوية (التي كانت ضمن النفوذ السوفييتي) والحليفة لروسيا حاليا، لذلك، فإن موسكو ترى في دمشق خط الدفاع الأول عن الفيدرالية الروسية. الهدف الثاني الذي حدّده بوتين هو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، لأن ترك أي منطقة للإرهابيين، يعني استمرار عملياتهم الإرهابية، وموسكو عانت من هذا الإرهاب بضع مرات في السنوات القليلة الماضية. ما لم تقله موسكو صراحة في دخولها السوري، هو أن النظام السوري الحالي هو الكفيل بالحفاظ على وجودها وتحقيق مصالحها في المنطقة، بعد فقدانها صداقات العديد من الدول العربية، مثل مصر وقواعدها وخبرائها فيها، الذين طردهم السادات. سوريا تحقق بعدا جيوسياسيا لروسيا في المنطقة المليئة بالقواعد الأمريكية والناتوية بالطبع.
إن أقصى ما تطمح إليه روسيا بالنسبة لسوريا هو وجود نظام علماني فيها، بغض النظر عن اسم هذا الزعيم أو ذاك، لذا، تراها تحاول المساعدة في تهدئة الوضع السوري: مؤتمرات، إيجاد دستور، محاولة إيجاد حلول وسط بين كافة الأطراف، لذا فإن آخر اقتراحات بوتين، هو إجراء مباحثات إسرائيلية – إيرانية غير مباشرة (بواسطة وسطاء) لتخفيف التوتر بين الجانبين. كذلك ليس ببعيد عن كل هذه الوقائع، إعلان ترامب بقبوله دولة فلسطينية، والتقاط نتنياهو لهذا التصريح بالقول: إنه يوافق على دولة فلسطينية لا تهدد إسرائيل. بالطبع فإن التصريحين الأخيرين هما للاستهلاك المحلي ليس إلّا! إنهما رد على المحاولة الروسية لتبريد الأجواء الساخنة والمحتقنة في سوريا، التي لو انفجرت من جديد، فستدخل فيها عوامل دولية، حيث من الصعب تصور شكل الصراع، ولا مدته أو نهايته أو نتائجه. التصريحان الأخيران لترامب ونتنياهو هما شبه تسليم من الطرفين الأمريكي والإسرائيلي لدور روسيا في سوريا، مقابل إنهاء النفوذ الإيراني فيها. لهذا السبب صرّح ترامب بأن إخراج إيران من سوريا لا يتم من خلال القوة وإنما بالضغط.
لكل ما سبق، فإن اتفاق إدلب ليس ذا عمر طويل للاعتبارات السابقة، وعلى الرغم من التأكيد الروسي على أن الضربات ستستأنف في حال مضي الموعدين من دون تنفيذ مثلما اتفق عليه في سوتشي، لكن من المتوقع تمديد المهلة لمرة أخيرة لاستيعاب الاعتراضات التركية. أردوغان فعليا يقع بين نارين، فعلاقات تركيا الأمريكية في أدنى مستوياتها، بل محكومة بالتوتر، وهو إن لم يستجب للضغوط الروسية، التي تلخص المطلب الروسي التالي بسحب قواته من سوريا، فإن الخيار الروسي الثاني سيكون جاهزا، خاصة أن من الاستحالة بمكان تناسي موسكو، إسقاط أنقرة لطائرة السوخوي الروسية في عام 2015، على الأغلب فإن الخيار الثاني هو الأقرب للواقع.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.