روسيا بين السوفييتي والحديث / د. حسام العتوم
بحكم دراستي وترحالي ومصاهرتي لروسيا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، أجد نفسي وقلمي قريباً منها، ولم أعرف غيرها خارج وطني الأردني الغالي وعمقه العرب الكبير. ولدي حرص كبير للكتابة عنها بموضوعية، وحياد، وإنصاف، دون انحياز، او رغبة في تصعيد أزمة بينها وبين الغرب ما دام أمن العالم عندي هدفا وعنوانا وكل من اقترب
مثلي من الفدرالية الروسية يحلو له ويتساءل ما الذي اختلف على روسيا إبان الحقبتين السوفييتية والحديثة، وكيف هي الآن من الداخل؟
وماذا عن صورتها الخارجية وسط العرب؟ وعلى خريطة العالم؟ وباعتباري شاهد عيان سأجيب هنا على مثل هكذا تساؤل بوضوح وبالأدلة الدامغة، وبالتوثيق، وسأسمح لقلمي بممارسة النقد البناء وطرح البديل وبنوايا طيبة بكل تأكيد.
لقد قاد الحقبة السوفييتية مفكرون وزعماء رحل معظمهم وكان أولهم فلاديمير لينين، وعرف التاريخ منهم جوزيف ستالين، وجورجي مالينكوف، ونيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجنيف، ويوري اندروبوف، وقسطنطين تشريننكو، وميخائيل غورباتشوف.
والساحة الحمراء المطلة على قصر الكرملين التاريخي شاهدة عيان على ضريح لينين الذي لم يدفن حتى الساعة وإنما تم تحنيطه وبقي مسجى ببدلته الرسمية، بينما هي قبور الزعماء السوفييت الآخرون جاثمة في الجوار، وبقي منهم غورباتشوف حياً تلاحقه تهمة هدم الاتحاد السوفييتي الخندق المنيع للحرب الباردة مع الغرب ومنه أميركا، رغم أن أسباب الانهيار السوفييتي عديدة قادتها الصهيونية حتى يبقى صوت القطب الواحد الأميركي مسيطراً على خريطة الكون سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ولطمس اهم قضايا العالم العادلة والتي في مقدمتها الفلسطينية.
وما زال غورباتشوف يشير إلى أن النظام المركزي الإداري، وغياب الديمقراطية بسبب سيطرة الحزب الواحد الشيوعي الحكم، وحقبة ستالين الديكتاتورية القاسية، ويلتسين، وليس البيريسترويكا والجلاسنوت بالطبع، والغرب الأميركي من أهم الأسباب المباشرة لهدم البناء السوفييتي، والخلاف الذي نشب بين بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف إبان فشل انقلاب (1991 (سرّع من انهيار النظام الشيوعي السوفييتي وجاء بالبناء الروسي الجديد، ودفع باتجاه استقلال الجمهوريات السوفييتية التي اتحدت طوعاً في عمق التاريخ قبل (69 عاماً) وتحديداً عام (1922.(
شخصياً كنت قريباً من نهايات الاتحاد السوفييتي، وسجلت إعجابي وقتها بسيادة الطبقة الواحدة، وباستقرار، وبفتح أبواب التعليم على مصراعيه أمام طلبة العالم ومن بينهم العرب، وبانتشار الحدائق الواسعة الجميلة، وبتمسك الإنسان بالكتاب في كل مكان. وكانت في المقابل تأثيرات الحرب الباردة وسباق التسلح، ونزوات غزو الفضاء واضحة وضاغطة على حياة الناس وعلى مستوى دخلهم، وتقاعداتهم رغم أن سن التقاعد في حقبة ستالين السابقة في الحرب الوطنية العظمى سجلت (55 عاماً) للمرأة مقابل (60 عاماً) للرجال نجدها في عهد بوتين ارتفعت إلى (60 عاماً) للمرأة و(65(
للرجال. وكان كل الاتحاد السوفييتي المكون من (15 جمهورية) بقيادة روسيا يغذي موسكو العاصمة وجارتها ليننغراد (سانت بيتر بورغ) من وسط المركزية كنظام فعلاً للبناء الكبير فيهما، وكانت مدن الدرجة الثالثة بلا شوارع معبدة وبنسبة مئوية تفوق الـ(50 ،(%وكذلك البلدات الصغيرة المجاورة. والمساكن المرتفعة من دون مصاعد.
والتضخم المالي مقابل الدولار كان موجوداً والسوق السوداء بحكم (30 روبل) للدولار، وحاجات الناس يتحكم بها الدور والأبواب السوداء. ولم يعرف الاتحاد السوفييتي وبعد انهياره شخصية عاشت وأبدعت وخرجت من الحياة من دون أن يسجل التاريخ انتقادات لها مثل يفغيني بريماكوف المفكر والسياسي ورجل اللوجيستيا، والوطني والقومي بإخلاص، والقريب من العرب، والعارف بلغتهم مباشرة. وللإنصاف من وجهة نظر مقابلة كان الإنجاز السوفييتي حاضراً، وكان يخطط بشكل دائم من أجل رفاه الإنسان من حيث العمل والسكن والراحة والتقدير المعنوي والمادي، وفي العهد السوفييتي كان البناء الضخم من زاوية شبكة القطارات منذ عهد ستالين، وأنفاق المترو كذلك منذ عام 1935 ،والبناء العمراني الضخم، وغزو الفضاء، وامتلاك السلاح النووي عام 1949 بعدما امتلكته الولايات المتحدة الأميركية قبلهم عام 1945 ،رغم توفر المعلومات الذرية الانشطارية مسبقاً، وشبكة الطائرات الناقلة للإنسان (ايروفلوت)، ومع هذا وذاك
وبسبب الانغلاق التكنولوجي عن العالم لم يتمكن السوفييت من صناعة الضروريات لحياة الإنسان مثل الهاتف الجوال، والمركبات الأوتوماتيكية المتطورة كما الغرب، وتعذر توفير حتى المياه للنظافة في الحمامات العامة، وغياب الحاسوب، والاعتماد على الطباعة التقليدية.
نعم، لقد انفتح السوفييت عبر التعليم والاقتصاد والعسكرة على العالم وانغلقوا عنه ذات الوقت لصد سعير الحرب الباردة التي عصفت بهم من جانب الغرب وأميركا، وكان لهم تجربة في أفغانستان عام (1979 (بهدف منع أميركا وغربها من الاقتراب من حدودهم ندموا عليها لاحقاً رغم تقديمهم للشهداء وسطها، ومن وسط تلك الحرب ظهر تنظيم القاعدة الإرهابي مرتكزاً على الجناح السلبي للوهابية، وعلى استخبارات الغرب وتحديداً الأميركية ذات المصلحة المباشرة في محاصرة السوفييت والعمل على دفن بنائهم العملاق المهدد لمصالح الولايات المتحدة الأميركية وسط العالم. وفي الشيشان كان للسوفييت صولات وجولات قديمة ستالينية انتهت بالنفي المعروف، والمرفوض شيشانياً بالدرجة الأولى، وهو الذي يتطلب الاعتذار حالياً من أحفاد ستالين ومن السياسيين الروس ورثة الاتحاد السوفييتي، فمثلما كانت الاتهامات والأخطاء وتباينت بعض المواقف في الحرب الوطنية العظمى (1939 /1945 (كانت التضحيات الشيشانية ماثلة وكبيرة، وجنرالاتهم المشاركة في الحرب إلى جانب الدولة السوفيتية شاهدة عيان، ومثلي هنا خانباشا نور الديلوف، ويساييتوف، وابوحجي داريسوف، وخوادمي محاميد، ودشا ابراهيموفيتيش اكافييف، وخان سلطان داتشييف وغيرهم إلى جانب مشاركة نحو (30 ) ألف شيشاني في جبهات القتال ضد قوات أدولف هتلر.
ومع هذا وذاك كان الفكر الأيدولوجي الوهابي المتشدد والمتطرف ناخراً في الشيشان وضارباً في العمق الروسي لاحقاً ومثلي هنا من جديد مدرسة بيسلان وأحداث موسكو مع خالص المحبة لأهلنا في الشيشان بكل تأكيد واعتزازي بقيادتهم الجديدة برئاسة رمضان أحمد قديروف، واحترم في المقابل كل رأي مخالف لما أكتب هنا، وهو حق
مشروع.
وفي الوقت الذي حزن فيه الروس ومعهم السوفييت على انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 كونهم اعتادوا أن يعيشوا حياة عائلية واحدة، وتخندقوا سوفيتياً بقيادة روسيا لمواجهة رياح الحرب الباردة الغربية فوق مساحة تجاوزت الـ(22 مليون كم2 ،(نجد بأن روسيا الحديثة لم تتضرر كثيراً من الانهيار السوفييتي وبقيت تمتلك لوحدها ما مساحته أكثر من (17 مليون كم2 ،(وعودة إقليم القرم/الكريم إلى عرينه روسيا بعدما تلاحم لفترة زمنية طويلة مع أوكرانيا منذ زمن الزعيم السوفييتي نيكتا خرتشوف عام 1954 ،عزز من مكانة روسيا وهيبتها عالمياً والتي أثبتت دورها بأنها لن تفرط في الوقت المعاصر بشبر من أراضيها الاستراتيجية، فما بالكم إذا كان أسطولها النووي الأسود العملاق يرسو هناك منذ (225 عاماً)؟ وهكذا تصرفت روسيا مع اليابان التي طالبها الرئيس بوتين بتوقيع اتفاقية سلام أولاً ثم الشروع بحل كافة القضايا الخلافية العالقة، ولا حديث سياسيا في روسيا حول إقليم (الاسكا) الذي أجّرته روسيا القيصرية لأميركا وقيل بأن القيصر نيكولاي الأول عمل على بيعه لها.
وبدأ عهد الفدرالية الروسية الجديدة 1991 /1992 بشخص بوريس يلتسين معارضاً للبيريسترويكا والمعارض لغورباتشوف واستمر حتى عام 1999 ،واتهم مباشرة بهدم الاتحاد السوفييتي، وبمواصلة الفوضى في روسيا، والشروع من حيث لا يدري بمحاولة تفكيك روسيا نفسها، فذهب ببلاده إلى الخصخصة، فظهرت طبقة الأوليغارج (الأثرياء) وبطريقة غير شرعية، وهرب المال الروسي إلى الخارج وانتشر الفساد، وأصبحت مفاتيح روسيا بأيدي أسماء محدودة من الأغنياء الروس من أصل يهودي مثل بيريزوفسكي، وخاداركوفسكي، واحتدم مع البرلمان، وألغى الدستور، وعرف وسط الشارع الروسي آنذاك وحتى الآن بالمخمور، لكن ساسة روسيا بنوا له تمثالاً بعدما وافق طوعاً على تسليم السلطة لمسؤول فولاذي حماه وعائلته من المساءلة، قدم للسلطة في موسكو من جهاز المخابرات (B.G.K ،(ألا وهو فلاديمير بوتين الجالس على كرسي قصر الكرملين منذ عام 2000 ،والمتمتع بكاريزما قل نظيرها، وهي الشخصية الضامنة لوحدة روسيا وتطورها واستقرارها، ووقوفها صامدة بوجه التحديات أو العقوبات الأميركية المبرمجة الهادفة لإبقاء روسيا في الصفوف الخلفية في زمن منافستها بقوله لأميركا باعتراف الرئيس الأميركي ترمب في هلسينكي هذا العام 2018.
وفي الوقت الذي استند فيه بوتين عبر سلطته في (الكرملين) على حزبه الحاكم (روسيا الموحدة)، وهو الذي انفرد بالسلطة حتى الآن رغم وجود الحزب الشيوعي المعارض باني الاتحاد السوفييتي، والمنقسم على نفسه سياسياً أمام الانتخابات الروسية الرئاسية، وفي الزمن الذي ارتكز فيه بوتين على نظيره دميتري ميدفيديف لتبادل السلطة معه احتراماً للدستور الروسي الذي لا يسمح للرئيس بدخول انتخابات رئاسية لأكثر من جولتين متتاليتين تراوحت مدة كل جولة من (4–6 سنوات)، ذهب بوتين في الانتخابات الجديدة هذا العام 2018 إلى خوض انتخابات رئاسية شجاعة من دون الاعتماد على الحزب الحاكم (روسيا الموحدة) في وقت صوتت له معظم روسيا بما في ذلك الجيش والبحرية والأجهزة الأمنية وبنسبة مئوية بلغت (75 (%من الأصوات، ومكنته من البقاء في السلطة حتى عام 2024 بهدف المحافظة على صعود الدولة الروسية واستقرارها، ووحدتها تحت شعار (روسيا أولاً)، وهو نفس الشعار الذي طرحه الرئيس الأميركي ترمب أمام بلاده بعد انتخابه مؤخراً في المقابل.
والأزمة السياسية المفتعلة مع لندن ومع الغرب الأميركي عموماً بعد القضية المفتعلة للعميل الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال وابنته، والتي تزامنت مع انتخابات موسكو شدت الشارع الروسي المليوني إلى جانب بوتين، ولم تؤثر سلباً على أولمبياد موسكو الذي حققت فيه نجاحات كبيرة فطبولية مباشرة، وسمعة متميزة، واستقطاباً لجماهير العالم، وعشاق روسيا، وتكلفة الأولمبياد المادية المليارية لم تذهب هدراً وشكلت بنية تحتية قوية روسية لخوض جولات أولمبية مقبلة في قطر وأميركا، وسبق لروسيا أن عقدت أولمبياداً شتوياً في مدينة سوتشي على البحر الأسود وكان ناجحاً بامتياز.
وكل من يدخل روسيا في عهد بوتين لا بد له وأن يلاحظ حجم الإعمار العملاق في المدن الكبيرة فوق الأرض وتحتها حيث أنفاق الميترو في موسكو العاصمة وسانت بيتربورغ (ليننغراد)، ويتدرج البناء في روسيا ومنه تعبيد الطرق وينقسم إلى مدن الدرجة الأولى، والثانية، والثالثة، وهمس وسط الشارع الروسي يمكن للعارف بالروسية سماعه بسبب تغول النظام المركزي الإداري على اللامركزية ومطالبة بالدمج بين النظامين لترتفع رواتب وتقاعدات القطاع العام، وليتم تعبيد الطرق الداخلية وسط مدن الدرجة الثالثة والثانية بشكل أفضل، ولتتطور الخدمات التعليمية، والطبية، والسياحية بشكل أفضل. وليس معقولاً أن تبقى السياحة الروسية الصيفية وبحجمها الملياري الدولاري موجهة لتركيا بينما السياحية الروسية محدودة ومتراجعة الخدمات، والمستشفيات مكتظة وسعر العلاج فيها مرتفع حتى على الروس أنفسهم، وكذلك التعليم الذي يعاني من غياب لغة مرافقة مثل الإنجليزية وللتكنولوجيا الحديثة.
وبكل تأكيد يقابل ذلك صعود روسي في تكنولوجيا العسكرة والفضاء، وفي تمسك السياسة الروسية بالقانون الدولي، وأوراق مجلس الأمن والأمم المتحدة، والمحكمة الدولية. ونجاحات روسية في كوريا الشمالية، وفي
سوريا، وفي غير مكان على خريطة العالم. وأمن العالم هدف وعنوان رغم العقوبات الأميركية المتكررة على روسيا وتفكيرها بالعدول عن الدولار والبحث عن عملة جديدة بمشاركة تركيا والصين وغيرهما من الدول القريبة.
التعليقات مغلقة.