بين روسيا الأمس وروسيا اليوم ثمة فوارق غير قليلة في الجوهر والمحتوى والدلالة، فروسيا السوفييتية هي ليست روسيا الاتحادية، مثلما روسيا الآيديولوجية هي غير روسيا البراغماتية، وروسيا السابقة كانت تقدّم المعيار الآيديولوجي وتضع الاشتراكية هدفاً في إطار المصالح العليا للدولة السوفييتية ، أما اليوم فـ “المصالح الحيوية” هي ما تريد روسيا تأمينها بغض النظر عن الآيديولوجيا، والمصالح قبل الصداقة وليس العكس.
وعلى سبيل المثال تقف روسيا اليوم موقفاً وسطاً بين العرب و”إسرائيل”، وهي وإنْ ساهمت في تأسيس الأخيرة بتأييدها قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947، وكانت أول دولة اعترفت بها في 15 مايو/أيار 1948، إلاّ أنها قطعت علاقاتها معها في العام 1967 وظلّت مقطوعة إلى أواخر الثمانينات، لكن أمس ليس اليوم وربما غير غد، وعلينا أن ندرك أن روسيا الحالية “دولة رأسمالية” بكل معنى الكلمة لا تختلف في البحث عن مصالحها عن الدول الرأسمالية الأخرى في الغرب. صحيح أنها تتناقض مع المصالح الرأسمالية الغربية، ولاسيّما الولايات المتحدة في الكثير من الأحيان والمواقع، لكن مصالحها الخاصة والحيوية تبقى هي الأساس في علاقتها مع العرب ومع أعدائهم في الآن ذاته.
حين نتحدّث اليوم عن روسيا ” العربية”، فإنما نقصدُ مضي قرن من الزمان على العلاقات العربية – الروسية، فبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العام 1917 التي تصادف ذكراها المئوية هذه الأيام، تلقّف العرب الدعوة لحق تقرير المصير التي أطلقتها بحماسة شديدة، خصوصاً بعد فضح اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية 1916 بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية التي انسحبت منها. وهي دعوة سابقة لمناداة الرئيس الأمريكي ويلسون بحق تقرير المصير في العام 1918.
وكانت روسيا قد وقفت ضد نظام الانتداب الاستعماري الذي اعتبره فلاديمير لينين “شكلاً من أشكال اللصوصية”، الأمر الذي انعكس إيجاباً على العالم العربي. أما النداء “إلى جميع الكادحين المسلمين في روسيا والشرق”، فقد ترك هو الآخر صدىً إيجابياً ، خصوصاً حين ناشد مسلمي الشرق من فرس وترك وعرب وهنود.
وابتدأت أولى العلاقات العربية مع الاتحاد السوفييتي الذي تأسس العام 1922 مع المملكة العربية السعودية في إبريل/نيسان/1924 واعترفت موسكو بالمملكة في العام 1926 وزار الأمير فيصل موسكو العام 1932، وتعكس رسائل حكيموف “القنصل العام” في جدّة مثل هذه العلاقات التي عملت الدوائر الغربية على تقطيع أوصالها. أما مع اليمن فقد تأسّست العلاقات في العام 1927 ووقع الإمام يحيى في العام 1928 على معاهدة صداقة وتجارة مع الاتحاد السوفييتي ودخلت حيز التنفيذ في العام 1929، وحاولت بريطانيا عرقلتها.
وفي العراق أرسل الشيخ مهدي الخالصي رسالة إلى لينين لتأييد النداء الخاص بمسلمي روسيا والشرق، وكان زينوفيف قد رحّب بإرسال وفد إلى موسكو باسم الكومنترن الذي كان رئيسه، كما كان الشيخ محمود الحفيد في القسم الكردي من العراق قد كتب رسالة إلى قنصل روسيا في أذربيجان وتبريز (إيران) في العام 1923، واعترفت موسكو بحركة رشيد عالي الكيلاني العام 1941 وتم الاعتراف الرسمي بين البلدين العام 1944. وكان الاتحاد السوفييتي أول بلد اعترف بالثورة العراقية في 14 يوليو/تموز 1958 وتم توقيع معاهدة صداقة وتعاون العام 1972.
وكذلك الحال في سوريا حيث حصل الاعتراف في العام 1944 وتعزّزت في سنوات الستينات والسبعينات وتم توقيع معاهدة صداقة وتعاون العام 1980، وكان دخول الروس على خط الأزمة السورية العام 2015 قد أعادهم إلى المنطقة ، حيث تم تأسيس قواعد عسكرية دائمة في اللاذقية وطرطوس، وقد يكون الاندفاع الروسي تعويضاً عن خسارة نفوذهم في العراق وليبيا.
أما في مصر فالعلاقات كانت حذرة ومعقدة منذ ثورة يوليو 1952 ، لكن الأمر تطور بعقد صفقة الأسلحة في العام 1955، وكان إنذار بولغانين العام 1956 وتأييد تأميم قناة السويس دوراً مهماً في التعاون الاقتصادي والفني والعسكري (1958-1960) بعد الوحدة المصرية- السورية، وفيما بعد في بناء السد العالي وحرب الاستنزاف، ولكن المرحلة من 1971-1975 شهدت انحساراً بعد طرد الخبراء السوفييت وإلغاء المعاهدة المصرية- السوفييتية، لاسيّما بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ، حيث أخذت ترجح كفة العلاقة مع الغرب حتى انهيار نظام حسني مبارك، إلّا أنه بعد الإطاحة بحكم الأخوان العام 2013، اتسمت بحرارة جديدة نسبياً.
وإذا كانت العلاقات العربية – الروسية قد شهدت محطات باردة وسلبية قبيل وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أبرزها عودة العلاقات الروسية -“الإسرائيلية” وانكفاء الدور الروسي عموماً، ولاسيّما في العراق خلال الحصار وفيما بعد الاحتلال وكذلك في ليبيا التي تُرك أمرها للناتو، إضافة إلى ضعفه في مصر وبقية البلدان العربية، إلّا أن العودة الروسية إلى سوريا أكدت حقيقة لا بدّ من الإقرار بها والتعاطي معها هي أن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس.
التعليقات مغلقة.