من قصص التغريبة الفلسطينية … جسر الملك حسين رمز الصداقة بين الأردن واليابان / جمانة مصطفى
جمانة مصطفى ( الأردن ) الأحد 21/10/2018 م …
بثوبها المطرز ومشيتها الثقيلة، صعدت المرأة الستينيّة الحافلة، تنهدت وقالت يا الله، تفرسّت في وجوه الركاب واقتربت مني. افترضتُ أنها تُفضل الجلوس إلى جانب واحدة من بنات جنسها، لكنها حطمت فكرتي عن مثاليّة الحجات حين سألتني بأمومة متلهفة: ”تحمليلي معك كروزين هالدخان يمّا؟؟“. رغم صعوبة رفض طلب حجّة تناديني يمّا، لكنني اعتذرت، فتجهمّت وتمتمت ببعض الدعوات علي واستهدفت الراكب التالي.
الكاتبة / جمانة مصطفى
قليل من الحقيقة لا يضر، فذنوب الفلسطينيّين تبدو كشأنٍ سري حين يتم تناول سيرتهم في الأخبار والأدب، لذا فغالبًا ما تتحوّل الأشياء الفلسطينيّة من حالمة نقيّه إلى شديدة الواقعيّة بمجرد لمسها، فلا الحجات دائمًا طيّبات، ولا الشباب دائمًا مناضلون، ولا أبناء الشتات دائمًا متعاطفون. تلك الحجة هي واحدة من مئات المهربين الذين يعبرون الجسر يوميًا لتهريب الدخان والمعسّل من الأردن إلى الضفة الغربيّة كسبيل للرزق بتواطؤ من الأمن في النقاط الحدوديّة الثلاث.
أخرجت الكتاب الذي أحضرته تحسبًا لأي انتظار. والانتظار أمرٌ اعتيادي على الجسر، أحيانًا نعرف السبب كالأعياد وأفواج المعتمرين والأوامر الإسرائيليّة الغامضة. وأحيانًا يبقى الانتظار مفتوحًا على الوقت، عصيًا وضاغطًا بدون تفسير. ولأن الباص لا يتحرك من الجانب الأردنيّ إلّا إذا امتلأ، ولأني أفضّل السفر ليلاً تحاشيّا للأزمة وللمهربين وللطوابير، اكتملت ساعة في الانتظار، أكملت معها فصلاً من كتاب “خنازير حروب وساحرات”.
قبل الوصول إلى الماء، تجد يافطة كبيرة منصوبة كُتب عليها “جسر الملك حسين: رمز الصداقة بين الأردن واليابان“. ما الذي جاء بها وما علاقتها بهذا المقال أو بكل اللخمة التاريخيّة التي نعيشها؟ لا نعلم، لكنني أعلم أن سرياليّة الجسر ستكون ناقصة بدون هذه اليافطة، وأن اليابانيّين لا يكذبون. وعليه اخترتها لتكون عنوانًا للمقال للتأكيد أن المنطق لا يمت له بصلة.
عودة إلى الباص: على الكرسي الذي أمامي سمعت وشوشات شاب وأمه عن ضرورة “تضمين الزتون لحدا ثاني“. الأسنان البيضاء، حذاء الريبوك النظيف، والكلمات الأجنبيّة المعلوكة التي تنضم للجُمل تجعلنا خبراء في تمييزهم، إنهم فلسطينيّو أميركا. لا يشبههم إلا فلسطينيو الخليج، ربما في ذلك التباهي بتفوق ما، أو لعلها الماركات العالميّة التي لا يسافرون بدونها.
وصلنا إلى الجانب الآخر من النهر، المجندون الصغار أشاروا للسائق أن يتوقف، توقف هو ونظرت أنا من النافذة، حين ترى العلم الإسرائيليّ يرفرف فوق رأسك، اعرف أنك في فلسطين.
وضعت حقائبي، وانضممت إلى الطابور قبل نقطة التفتيش الإسرائيليّة، أحد الشباب الحمقى ممن لا يخلو الجسر منهم في كل وقت،أزعجنا بمزاحمته ومحاولات تخطينا بهدف الوصول إلى الباب الكهربائي قبلنا. بمجرد عبوره من الباب صدحت صفارات الإنذار في كل المبنى وصوّب الجنود بنادقهم نحوه، وانبطحنا أرضًا تنفيذًا لأوامرهم الصارخة.
بعد طول انبطاح، اتضح أن الحذق حاول تهريب السجائر عبر لفّها على خاصرته تحت القميص، فاعتقد الجندي من صورة الشاشة أنه يلف حزامًا ناسفًا وكان ما كان، لاحقًا ضحكنا طويلًا على الحادثة أولًا لغبائه الشديد وثانيًا والأهم لنجاته من الموت.
في خروجي شاهدت الحجة وهي تحاول استرجاع كروزين الدخان من الرجل الذي تطوّع لحملهما، اشتريت تذكرة الباص الذي سينقلنا إلى استراحة أريحا، دخنت سيجارتي وصعدت، فتحرك الباص من فوره. على الجانب الفلسطيني مر كل شيء بسلاسة، وبخروجي شاهدت أمير المهربين وهو ينتظر صبيانه وحجاته ليجمع غلة السفر.
مشوار الجسر لا يختلف كثيرًا في كل مرة، يمكن استبدال قصص بقصص، وأشخاص بأشخاص وتوقيت بتوقيت، لكنه دائمًا غريب وفوضويّ وينتهي بنفس الأصوات الساحرة التي تستقبلك وأنت خارج من باب الاستراحة لأصحاب السيارات العموميّة: الخليل، نابلس، رام الله، طولكرم، جنين.
يكاد الجسر أن يكون المكان الوحيد الذي يقدم لنا نموذجًا متخيلًا لما ستكون عليه فلسطين المحررة، حين يجتمع فيها الفلسطينيّون من كل الأرض وبكل الاختلافات التي زرعتها فيهم وبينهم المجتمعات الحاضنة.
المشهد عمومًا مرتبك ومشتت، كما هو هذا الشعب، فلاحات تفوح منهن رائحة البصل والصبر إلى جانب سيدات يفوح منهن عطر البرجوازيّة الفلسطينيّة التي لم يسلبها التهجير أناقتها. شباب من الخليل يتبجحون بصوت مرتفع عن بطولاتهم في خداع المستوطنين، ورجل عائد من الإمارات ينهي صفقة على الهاتف وتجلس بجانبه زوجة بيضاء محملة بالهدايا والأساور.
فلسطينيّو أميركا بأسنانهم الجميلة، وفلسطينيّو فنزويلا بلهجاتهم العائدة إلى ما قبل النكبة، وفلسطينيّو المخيمات، وفلسطينيّو الداخل، وفلسطينيّو القدس، وفلسطينيّو الأردن، وفلسطينيّو سوريا، وفلسطينيّو لبنان، وفلسطينيّو أوروبا وعشرات الهويات المتفرعة من هذا الجذر. هل سيتمكن هؤلاء من الاتفاق على قيم مشتركة في المستقبل لمجرد أن الماضي جمع بين أجدادهم؟
بعيدًا عن السياسة وقريبًا من الواقع، على الجسر يحدث هذا الاختبار في الطابور؛ المتحيزون للقانون غير معجبين باستهتار البقيّة بالطابور مهما كانت أعذارهم، وبينما لا يدرك المتسامحون لماذا كل هذا التشنج في حال قرر عجوز أن يذهب إلى الشباك مباشرة.
حدث مرة أن رجلًا حاول تخطي الطابور الطويل، وحين رفض البقيّة، وأنا منهم قال “أنا أبو شهيد” فخرسنا جميعًا. حدث مرة أن سياسيًا حاول تخطينا بمساعدة العمال على الجسر، فأجبره محامٍ شاب على الالتزام مثلنا. وحدث مرة أن حاملاً رفضت التجاوز حين عرض عليها البقية ذلك.
القصة ليست أن هذا الشعب عاجز عن الالتزام بقانون بسيط مثل الطابور بكل ما يحمله من امتحان للعدالة وتساوي الفرص، القصة أن من يدير القانون في تلك النقاط الحدوديّة يريد له ألّا يُنفذ، ويريد لهذا الشعب أن يظهر فوضويًا، أما الحقيقة المرّة فهي أننا كفلسطينيّين نجيد التعامل مع الفوضى أكثر من النظام.
لكن، مهما كان السفر عبر الجسر عصيبًا ومتعبًا، ومهما كان فوضويًا، يغفر له شيء واحد، إنه ينتهي في فلسطين.
التعليقات مغلقة.