الأردن السمين والأهداف المرعبة : وداعاً للعروبة وفلسطين / د.لبيب قمحاوي
د. لبيب قمحاوي* ( الأردن ) الأربعاء 24/6/2015 م …
وأخيراً أعلن الأردن عن نواياه المستقبلية تجاه سوريا والعراق . وإذا كان هذا الإعلان يمثل سياسة الأردن الجديدة ، فإنه يعني في الحقيقة موافقته على تقسيم كلاً من العراق وسوريا ، بل وأكثر من ذلك ، موافقته على قضم أجزاء منهما وضمها إليه .
فالهمس الذي كان يدور في أوساط العديد من الأردنيين والعرب عن ماهية الدور الأردني في الحقبة المقبلة والسر وراء الهدوء الذي ينعم به هذا الوطن الضعيف في موارده وإمكاناته ، ابتدأ يتحول إلى حديث مفتوح ومُعـْلن قد يؤشر إلى عاصفه جديدة تهدد المنطقة وقد تؤدي إلى الأطاحة ببقايا بعض الدول العربية المحورية والمترنحة المجاورة للأردن . وقد جاء التصريح الأخير للملك عبدالله الثاني ملك الأردن يوم الأحد 14/06/2015 ، عن نوايا الأردن “لدعم العشائر شرق سوريا وغرب العراق” أو بحديث آخر “العشائر في الإقليم الداعشي” ، بمثابة إعلان لهذه السياسة وتحولها من موقف هامس إلى سياسة رسمية مُعـْلـنة تأتي من أعلى المستويات .
إن إعلاناً كهذا لا يمكن أن يكون نتيجة تطورات داخلية في سياسة الأردن تجاه جيرانه . فهو إعلان سياسي بإمتياز وذا تبعات خطيرة على الأردن وعلى الأقليم ، ولا بد أن يكون منبعه من الخارج على شكل تعليمات واردة إلى الأردن لتنفيذها ، يُغـَلـِفها إما قبولا إقليمياً صامتاً أو مُـعْلَنـْاً ، أو رفض إقليمي ضعيف لا يُـعْـتدﱡ به . أما بالنسبة لرأي الأردنيين في هذا الموضوع المصيري والخطير ، فإن أحداً لم يستشرهم ولا يبدو أن هنالك أي نية لذلك .
وفي سياق محاولة فهم هذا التطور السياسي الخطير ، علينا إستيعاب بعض المؤشرات والشواخص الهامة حتى نتمكن من فهم المسار الأردني وطبيعته في المرحلة المقبلة .
أولاً : يشكل الإعلان عن هذه السياسة قبولاً أردنياً رسمياً بتقسيم كلاً من العراق وسوريا . وهي سابقة خطيرة في العلاقات بين الدول العربية . ولكن هل يريد الأردن فعلاً أن يكون جزأ ً من مخطط خارجي يهدف إلى تقسيم دولتين عربيتين محوريتين وتسمين دولة ثالثة هي الأردن على حساب تلك الدولتين ؟ وما مصلحة الأردن في لعب هذا الدور ؟
ثانياً : أمام الأردن خيارات متعددة لتحقيق ذلك منها الأكتفاء بدعم عوامل التقسيم داخل كلا الدولتين من خلال تقديم الدعم العسكري (التسليح والتدريب) للعشائر السنية هناك والأنتظار حتى تصبح تلك العشائر قادرة على الإنفصال عن الدولة المركزية مما قد يؤدي بالنتيجة إلى طلبهم الأنضمام للأردن تحت ترتيبات مختلفة قد تكون من خلال دمجها في دولة مركزية مذهبية ، أو من خلال ترتيب فدرالي يسمح بقدر من التمايز وحرية الحركة . وقد يقوم الأردن بتحويل تلك السياسة إلى معركة ضد “الإرهاب” من خلال رفع شعار إنقاذ تلك المناطق من الحكم الداعشي مع أن داعش قد لا تمانع أصلاً في تسليم تلك المناطق للأردن كون ذلك لا يتعارض مع مهماتها الحقيقية . أما الخيار الأخير والأخطر فقد يتمثل في تدخل أردني عسكري مباشر وبناء على طلب شكلي من تلك العشائر وتوجيهات ومساعدات خارجية ضد الحكومات المركزية في تلك الدول .
ثالثاً : ما هو الهدف الحقيقي من كل ذلك ؟ هل هو تقسيم العراق وسوريا أو تسمين الأردن ؟ الهدف الحقيقي لا مصلحة فيه لأي دولة عربية بما في ذلك الأردن . فإسرائيل ومستقبلها وأمنها ومصالحها هي الهدف الحقيقي . وإذا كان مخطط المنطقة يقتضي تقسيم كلاً من العراق وسوريا كدولتين عربيتين محوريتين فهو بالضرورة هدف إسرائيلي . ولكن ما علاقة الأردن بذلك ؟
المطلوب على ما يبدوا أن يتخلى الأردن عن دوره العربي التقليدي وأن يلعب دور الحاضنة لإستيعاب إفرازات عملية التقسيم الجارية على حدوده من لاجئين وبقايا أراضٍ وإحتواء نتائجها وتبرير أساسها المذهبي . وهذا الدور قد يتطلب تعزيز موارد الأردن من خلال عملية تسمين الدولة الأردنية إن كان هنالك من ضرورة لذلك حسب الرؤيا الإسرائيلية والأمريكية . مرة أخرى ، يجب التأكيد على أن كل ما جرى ويجري يتم بإرادة أمريكية وإسرائيلية ويصب في مصالحهما المشتركة مباشرة ، وأي حديث عن حماية عشائر أو مذاهب أو إنقاذهم إنما هي أعذار لإرتكاب المعاصي .
إن ما نحن بصدده هو ضم أراضٍ وسكان لدول عربية مجاورة بعد تفتيتها وتمزيقها ، وليس وحدة عربية أساسها الرؤيا القومية العربية وهدفها في توحيد الأرض العربية . وأي محاولة لتقديمها كذلك هي محاولة لطمس الحقيقة بل وتشويه صورة القومية العربية من خلال الإيحاء بأنها أداة بيد قوى أجنبية تستعملها للتقسيم والغزو والضم . إن الدولة الأردنية السمينة سوف تكون في الواقع تجسيداً للرؤيا الأمريكية الجديدة لما يجب أن تصبح عليه المنطقة العربية والتي يجب أن تخلو دويلاتها من أي صفة سياسية وأن تتحول إلى هويات مختلفة مبعثرة ليس منها العروبة . وفي حال نجاح تفتيت أي دولة عربية فإن هذا سوف يصب في مصلحة خليط من الهويات المذهبية والدينية الطائفية والعرقية التي سوف تطفوا على السطح بشكل أوتوماتيكي .
أما الهوية السياسية الأردنية فسيتم إستبدالها كما يبدو عليه الحال بهوية مذهبية وعائلية ولتكن على سبيل المثال الهوية السنية الهاشمية براية هاشمية وليس أردنية والتي قد تكون مدخلاً لتقديم “الأردن السمين” كمثال على نمط دول المنطقة في الحقبة المقبلة . فهوية الدولة ستكون هاشمية وليس عربية كون العروبة هي المستهدفة أصلاً من التفتيت الجاري لدول المنطقة . فالمرحلة المقبلة إذن هي مرحلة القضاء على العروبة وعلى الدولة ذات الهوية العربية كون تلك الهوية في صلب حالة العداء لإسرائيل . فإذا لم يعد هنالك من عروبة فلن يعد هناك من يناصب إسرائيل العداء . وإسرائيل سوف تتحول إلى دولة يهودية في سياق الهويات الجديدة لدول المنطقة والمبنية عن الدين والمذهب والطائفة .
إن شعار يهودية الدولة الذي طرحته إسرائيل بإعتبارها دولة لليهود هو مؤشر مبكر على ما ستؤول إليه الأمور في المنطقة من ناحية النقاء الديني أوالمذهبي وربما العرقي أحياناً . وهكذا يتم إلغاء القضية الفلسطينية بإعتبارها تـًعدياً على يهودية الدولة الإسرائيلية بل وعدوانا على نقاءها الديني وتصبح إسرائيل اليهودية بالتالي هي الدولة المُعـْتدى عليها . وهكذا يتم سحب القضية الفلسطينية من التداول وإلغائها عوضاً عن حَـلِّـها . ولكن هل يريد الأردن أن يلعب دوراً مساعداً في تسهيل تطور الأمور إلى هذا الحد ؟ إن التطورات الأخيرة في منطقتنا قد أثبتت أن لا شيء مستحيلاً وأن ما كان بالأمس ضرباًَ من ضروب الخيال أو الجنون قد أصبح الآن حقيقة مـُرﱠة وواقعاً دموياً مؤلماً ساهم العديد من الحكام العرب في جعله ممكناً من خلال تحالفهم مع جهات خارجية لا تعمل لصالح العرب .
الدور الوظيفي للأردن كان دائماً مبعثاً على التساؤل مع أن هنالك قناعة عامة بإرتباط ذلك الدور بأمن إسرائيل . ولكن هل حدث مؤخراً ما لا نعلم به وأدى إلى تغيير هذا الدور مما إستوجب الدعوة إلى تسمين الدولة الأردنية وتعزيز دورها الأقليمي ؟
تشير تطورات الأمور إلى أن تفتيت الدول العربية ، خصوصاً المحورية منها وتحويلها إلى دول صغيرة مذهبية قد يشكل قاعدة الحل للمشكلة الإسرائيلية . ولكن ما علاقة هذا بتحول الأردن إلى دولة سنية سمينة وهو عكس ما يجري العمل عليه بشكل عام في المنطقة من تفتيت للعديد من الدول العربية ؟
قد يكون في تسمين الدولة الأردنية وتغيير هويتها السياسية من عربية أردنية إلى مذهبية سنية وعائلية هاشمية تفسيراً للدور الوظيفي الجديد للدولة الأردنية السمينة . فمثل هذه الدولة قد توفر الحزام الحاجز بين إسرائيل اليهودية والعمق العربي المضطرب الذي بدأ يزول لصالح منطقة سوف تصبح مزدحمة بموزايك من الدويلات المذهبية والطائفية والعرقية التي لم تستقر أمورها بعد والتي قد يشكل أي تماس حدودي بينها وبين إسرائيل اليهودية فرصة أمام بعض القوى فيها لتهديد الأمن الإسرائيلي . وهكذا فإن الدور الوظيفي الجديد للدولة الأردنية السمينة قد يعود إلى أصوله في حماية أمن إسرائيل ولكن بعد أن يتخلص من عبئ العروبة والمسؤولية التاريخية والأخلاقية عن ما جرى للفلسطينيين ولفلسطين . وبالأضافة إلى ذلك فإن أعداد سكان الدولة الأردنية السمينة سوف تتضاعف بشكل يجعلها تعج بالعديد من اللاجئين من أصول عرقية مختلفة حتى ولو كانت من مذهب واحد سني ، مما يجعل قبضة أي مجموعة سكانية على مقدرات الدولة الجديدة ضعيفة ويبقى النظام هو بيضة القبان والقوة الحقيقية الوحيدة في الدولة . ولكن الأمور لن تسير بمثل هذه النعومة والهدوء . فمع أن هنالك بعض من التأييد بين العشائر السنية في منطقة الأنبار غرب العراق لعلاقة ما مع الأردن ، إلا أن العشائر السورية تبدي معارضة واضحة لذلك إذا كان الثمن تفتيت الدولة السورية . أما موقف الأردنيين فيتنازعه الرفض المبدأي الوجداني أو الخوف من النتائج التي قد تترتب على تلك السياسة من جهة ، وقبضة النظام القوية على مفاتيح الرأي العام والأعلام والقرار من جهة أخرى .
إن دور الأردن كحاجز بين حدود إسرائيل اليهودية والمنطقة الملتهبة لا يعني أن هذه الدويلات الجديدة سوف تشكل خطراً على إسرائيل . ولكن هذه الدويلات نفسها هي في حالة عدم استقرار ، وسيطرة إسرائيل عن بعد على معظمها ليست صعبة ولا تحتاج لنقاط تماس حدودي . وهذا قد يفسر المحاولات الإسرائيلية الجادة لدعم تأسيس حزام درزي حصراً على طول حدودها من جهة الجولان ، بالأضافة إلى مساعدة وحماية هذا الحزام حتى يتطور إلى دويلة درزية عازلة تقوم بنفس الدور الذي يبدو أنه مخطط للأردن والذي إذا ما تم فلن يبقى بعدها من يطالب بتحرير الجولان . ويبدو أن زيارة وليد جنبلاط الأخيرة إلى الأردن تأتي في سياق بحث هذا الخيار والتنسيق مع الأردن .
وأخيراً ، من المهم التأكيد على عدم وجود استـثـناآت من التغيير الدموي الجاري في المنطقة . والسعودية ليست ببعيدة عن ما يجري . وإذا كانت مصر قد نجحت في النجاة من مخطط تدمير الدولة المصرية وتقسيم مصر ، فإن من المشكوك به أن السعودية ، وهي رابع وآخر الدول المحورية العربية ، ستتمكن من النجاة . ففصل الإسلام عن النفط في الجزيرة العربية هو حلم أمريكي قديم . والسعودية بحربها على اليمن ساهمت في التعجيل بإحتمالات تقسيمها حيث أن أمريكا ما كانت لتسمح بتقسيم السعودية قبل إفراغ مخازنها من ترسانتها العسكرية التي دفعت ثمنها مئات المليارات من الدولارات حتى لا تقع تلك الأسلحة في الأيدي الخطأ . هذا بالأضافة إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق أمريكي مع إيران تضمن أمريكا بموجبه أن لا يقع النفط السعودي تحت النفوذ الإيراني ، خصوصاً وأن معظم ذلك النفط يقع في المنطقة الشرقية للسعودية وغالبيتها تدين بالمذهب الشيعي .
العالم العربي قيد التشكيل الآن من خلال تغيير شامل في بنية النظام السياسي العربي . إسرائيل هي نقطة الأرتكاز ومصالحها هي التي ستتحكم بالتشكيل النهائي الجديد للعالم العربي . فالسعودية على أهميتها وغناها لن تستطع أن تقاوم ما هو قادم . والأردن على صِغـَرِهِ وفـَقـْرِهِ يبدو أنه بصدد لعب دور أكبر من واقِعِهِ وإمكاناتِهِ بكثير . وقوة هذا الدور مرتبطة بشكل طردي مع مصالح إسرائيل وتطلعاتها .
* مفكر ومحلل سياسي
التعليقات مغلقة.