عصاب الفحولة (1) / عايدة الجوهري
عايدة الجوهري ( الأحد ) 28/10/2018 م …
في اللغة المعجمية الخالصة، الفحولة هي الذكورة، هي مجموع الصفات الخاصّة بجنس الذكر.
من الناحية اللغوية البحت، كلمة فحولة مشتقّة من «فحل»، و«الفحل» هو الذكر القوي من كل حيوان، ولمّا كانت اللفظة مستوحاة من عالم الحيوان، باتت الفحولة في مبناها ومعناها قوّةً، والرجل الفحل هو الرجل الشّبق القادر على ممارسة الجنس دون كلل، وباتت محصورة بالوجه الجنسي للذكورة، وبقوّة الرجل الجنسية، دون غيرها من صفات الذكورة، خلافًا لما تقوله المعاجم من أنّها مجموع الصفات الخاصّة بالذكر.
إنّ موضوعة الفحولة شغلت وتشغل مِساحة كبرى من حياة الرجل العربي، القديم والحالي، وربما من حياة رجال آخرين في ثقافات أخرى، باعتبارها عاملاً مؤسِّسًا في هويته العضوية النوعية، وهي تشكّل بحدّ ذاتها، منظومةً لغوية شعبية، تجعل منها إحدى القضايا المركزية في حياة الرجال الشخصية.
وتكتسي هذه القضية أهميّةً مزدوجةً موروثةً عندما تنتقل التمثّلات حولها، من المحسوس إلى اللامحسوس، من المادي إلى الرمزي، فيتمّ آنئذٍ إدغام القوّة الجنسية بالشجاعة، وروح المواجهة، والبطولة، والسيطرة على الذات وعلى الآخرين، والقدرة على الصمود والفوز، ففي التراث، الفارس الفحل هو الذي يتّصف بالقوّة والغلبة، والذي لا يهاب الموت، وهو كذلك الكريم والعظيم، وهو السياسي الفحل الذي لا يقدر عليه خصومه، والشاعر الفحل هو القادر على اجتراح المعاني والمباني، ويملك طاقةً إبداعيةً مميّزة، والذي يُحسن القول في شتّى الفنون والأغراض الشعرية.
إنّ هذا الانزياح الدلالي، الذي ينقل مفهوم الفحولة من حقل البيولوجية إلى حقل الرمز والتجريد والمعنى، إنّما يقوم على التسليم بوجود صلات وثيقة، حتميّة، بين نوع الفرد ونفسه وعقله، بين قوة الذكورة الممثّلة بالفحولة، والقوة النفسية والعصبية والذهنية التخييلية (الشعر)، وبألفاظ حديثة، بين النوع والخصال والأدوار الجندرية.
إنّ الفحولة الجنسية التي هي امتدادٌ لحالة الذكورة الطبيعية التكوينية التشريحية البحت، والتي تحوّلت مع تقسيم العمل بين داخل أنثوي وخارج ذكري، واكتشاف الرجل دوره الإخصابي، واستتباب النظام الأبوي، إلى أبرز علامات الذكورة، قد تتّخذ بُعدًا صراعيًّا إشكاليًّا في الحالات التالية:
عندما يعيش الرجل جلّ حياته، تحت وطأة اختبار فحولته، والرغبة في توكيدها، واستعراضها، والتباهي بها، وتقويتها بالوسائل والنصائح المتداولة، وإذا أمكن تأبيدها، فتتحوّل إلى عصاب ينهبه ويُنهكه، وينهب ضحاياه ويُنهكها.
وعندما يشعر الرجل الذي يعاني من إحباطات جنسية بفقدان الكرامة الهوياتية، وبالوهن والدونية، ويسعى إلى التشفّي بأوخم الوسائل.
وعندما تصبح هذه الفحولة وسيلة المهزوم والمهمّش الوحيدة، لإثبات ذاته، والبرهنة على قوّته.
وعندما يتمركز الرجل حول فحولته، محوّلاً المرأة – الشريك إلى أداة صمّاء تتلقّى وتستقبل، وتُذعن، وتُؤمَر، وتُعاقَب إرضاءً لهذه الفحولة ونزواتها، دون أدنى افتراض أنّ المرأة كائن بشري يشعر، ويرغب، ويتفاعل، ويفرح، ويتأذّى.
وعندما تنهض دلالات هذا المفهوم الرمزية – النفسية – الأخلاقية، على افتراض التناقض الجندري الجوهري بين مترتبات الفحولة الرمزية ومترتبات الأنوثة، فمفهوم الفحولة مفهوم ذكوري محض، منزّه من الأنوثة، متبرّئ منها، ولقد جاء في لسان العرب أنّ عمرًا، لمّا قدم الشام تفحّل له أمراء الشام، أي تلقّوه غير متبذلين، غير متزينين، لأنّ التزيين والتصنُّع في الزيّ من شأن الإناث والمتأنّثين، والقوة والتسلُّط من شيم الرجال، وإذا حدث وأبدت المرأة القدرة على المواجهة، والغضب، والدفاع عن نفسها، فهي، على ما يقول لسان العرب، «امرأة فحلة»، «سليطة اللسان». بمعنى أنّ التداخل بين العالمين، الأنثوي والذكري، محظور ومدان.
انحسرت حاليًّا وإلى حدّ كبير استعمالات مصطلح «فحولة» الرمزية، وتوشك اللفظة ألاّ تدلّ إلاّ على نفسها، ليحلَّ محلَّ المصطلح المذكور، مصطلح «رجولة»، حاملاً كمًّا أكبر من المواصفات والخصال والأدوار، فرضها التطوّر والتحضّر وتعقُّد الحياة، ولا تُحيل هذه المواصفات والخصال والأدوار بغالبيتها إلى مفهوم الفحولة، بصفتها قوّة الرجل الجنسية الفائقة، بل إلى الذكورة، كنوع مغاير للجنس الآخر الأنثوي.
وهي تستفيض في دلالات الفحولة الرمزية القديمة، الضئيلة، من مثل الفحولة الشعرية التي تنهض على الإبداع، والمغايرة، والتفرُّد، لا على القوة الجنسية، ولا العضلية، فحسب.
ولكنّ حلول استعمالات مصطلح رجولة، على نطاق واسع، محلّ استعمالات الفحولة، لا يحول دون تداخل المفهومين في بعض التمثّلات الخاصّة بالرجولة، كمنظومة مفاهيم تُقاس على أساسها هوية الرجل، ولكنّ هذا التداخل لا يعني الإدغام، وتحوُّل الفحولة كمعيار مادي، فيزيقي، لازب، إلى قطب الدائرة الذي تدور حوله وترتكز إليه، كما في الأزمنة الغابرة، كلّ الخصال والمواصفات والأدوار المتوقّعة من الرجل، للاعتراف بهويته ومكانته الوجودية والاجتماعية، ما خلا في بعض البيئات السلطوية، أو الشعبية المعدومة، أو بعض الحالات التي يعاني فيها الأفراد من الاستلاب والانجراح. والدليل اللغوي على ذلك هو ميل الناس إلى نعت الرجل الخائب اجتماعيًّا بالذكر فيقال «هو ذكر وليس رجلاً».
إنّ الربط العضوي بين دلالات الفحولة، الفيزيقية التشريحية، والرمزية، يُعدّ افتئاتًا نسبيًّا على دلالات منظومة مفاهيم الرجولة المعاصرة، التي تشتمل على مروحة واسعة من الأدوار والخصال، لا تحتلّ «الفحولة» فيها المكانة الأثيرة، رغم استناد هذه المنظومة إلى مسلّمة الفوارق الجوهرية بين الرجال والنساء.
ولفهم أسرار المكانة الأثيرة التي لازالت تشغلها منظومة الفحولة في المخيال والوجدان العربيَّين في بعض البيئات والذهنيات والحالات الخاصّة، وفي الثقافة العربية الإسلامية على الأغلب، سوف نُلقي نظرة سريعة على جذور هذه المكانة الثقافية، للنتقلَ بعدها إلى إظهار أبرز ارتدادات عصاب الفحولة، الاجتماعية، والتباسات علاقة الرجل المأخوذ بفحولته على المرأة، وصولاً إلى موضوعة الربط القهري بين فحولة الرجل وقوّته النفسية والوجدانية، والعقلية
التعليقات مغلقة.