التقسيم بين القرائن الحسية… والقرارات الاستراتيجية / أمين حطيط
أمين حطيط ( لبنان ) الجمعة 26/6/2015 م …
في ظلّ تصاعد الحديث عن التقسيم المتعدد الوجوه لدول المنطقة باعتباره الحل لمشاكلها وحروبها والبديل لمشروع الهيمنة الأميركية الكاملة عليها وإلى جانب الصمود السوري الأسطوري مع محور المقاومة، برز التحرك الإقليمي الثلاثي السوري ـ العراقي ـ الإيراني بشكل معاكس للمشروع التفتيتي، كونه مسار انتحار وتدمير تتوجب مواجهته وإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة مهما كان الثمن.
وفي سياق المشروع، أي التفتيت لا ننكر وجود الكثير من العلامات التي قد تتخذ قرائن وأدلة حسية تدعم فكرة من ينادي أو يهوّل بالتقسيم على أساس أنه بات الحلّ الوحيد الذي ستؤدي إليه العمليات الاحترابية الجارية في المنطقة منذ خمس سنوات ونيف ظاهراً ولأكثر من عقد باطناً.
وفي الآونة الأخيرة، برز بشكل قاطع أنّ نجاح مشروع التقسيم الامتلاكي الذي عملت أميركا وملحقاتها على فرضه على المنطقة بات أمراً مستحيلاً، فكان انقلاب أميركي استراتيجي إلى مشروع التقسيم التناحري الذي يجد اليوم أكثر من قرينة على البدء بتنفيذه.
وفي هذا السياق، تدخل المساعي الأميركية للتعامل مع كيانات عراقية ثلاثة مفككة، بدل التعامل مع دولة مركزية موحدة، ويدخل وبشكل لافت الدعم الذي قدمته أو قيل إنها قدمته طائرات أميركية للأكراد السوريين في الشمال الشرقي من سورية، مساعدة أدّت ـ كما يحلو للبعض القول ـ إلى هزيمة «داعش» أمام الأكراد الذين تمكنوا من توسيع حدود منطقة نفوذهم من عين العرب كوباني إلى تل أبيض ثم الحسكة ثم إلى ريف الرقة الشمالي. ولا يخرج من لائحة القرائن ما راج الحديث عنه في الآونة الأخيرة، من نية «إسرائيل» إقامة الحزام الأمني في الجنوب السوري واللبناني، مستنداً إلى الطائفة الدرزية ثم كان أخيراً الموقف «الصدمة» التي أحدثها العماد ميشال عون الزعيم المسيحي الأبرز لبنان، بحديثه عن الفدرالية كمخرج من الأزمات التي يتخبط بها لبنان.
إن رسم المشهد الإقليمي بالاستناد إلى هذه القرائن وغيرها قد يقود إلى القول بأن التقسيم بات حقيقة واقعة، وأن ما تبقى من عمل في الميدان لم تعد له وظيفة إلا تحسين شروط هذا الفريق أو ذاك أو توسيع منطقة هذه الفئة أو تلك على حساب الآخرين. ولكن تبرز وبشكل أكثر خطورة مسائل تعني المسيحيين في الشرق خصوصاً أن مشاريع التقسيم المطروحة لكل من سورية والعراق لا تعطي المسيحيين شيئاً أو موقعاً فيها، فالعراق كما يروّجون سيكون مقسماً بين الشيعة والسنة والكرد، أي لا وجود للمسيحيين فيه، وسورية ستكون بحسب المشروع موزعة بين السنة والعلويين والدروز والكرد، ما يعني أن لا محل للمسيحيين فيها. أما المسيحيون في كل المنطقة فيتجاذب مصيرهم قولان بحسب ما يروّجون:
الأول، يقول بأن ليس للمسيحيين محل في بحر إسلامي متناحر بما في ذلك لبنان، وبالتالي عليهم الرحيل، ويستدلون على ذلك بما حصل لمسيحيي فلسطين ثم العراق وأخيراً سورية. يبقى مسيحو لبنان. ويؤكد أصحاب القول أن البابا استشعر هذا الخطر ورأى أن بقاء المسيحيين في الشرق رهن ببقاء سورية موحدة وفي ظل نظامها القائم، ولذلك كانت رسالة الدعم المعنوي المهمة التي وجهت للنظام في سورية عبر لقاء القمة الذي عقد في دمشق بمشاركة جميع بطاركة أنطاكية وسائر المشرق للطوائف المسيحية كلها.
والثاني، يرى أن في ظل تعذّر الوقوف في وجه المشروع التقسيمي التناحري، يجب البحث عن مخرج يحفظ للمسيحيين وجوداً مشرقياً معقولاً بعيداً من التهديد بشتى وجوهه الوجودي أو الوظيفي، وأن هذا الأمر غير ممكن إلا بإعطاء المسيحيين فرصة في لبنان عبر فدرالية طائفية تحفظ شكلاً للبنان وحدته، لكنها تقسمه فعلياً إلى كيانات طائفية ذات استقلالية ذاتية. ويستشهد مروّجو هذا الرأي بما ورد في إعلان النيات المسيحية بين التيار الوطني والقوات اللبنانية من تأكيد اللامركزية الموسعة، ثم ما أعجبهم من مواقف مسيحية كان آخرها تصريح للعماد عون عن الفدرالية والنظر اليها كمخرج لا بد منه للخروج من أزمه الخطر الوجودي والتهميشي للمسيحيين.
إضافة إلى ذلك، نجد كيف برز الأردن إقليمياً بخاصة في سورية والعراق بعد إغرائه بتوسيع حدوده مقابل رعاية السنة في شرق سورية وغرب العراق، والتمهيد لإقامة المملكة العربية المتحدة الجديدة التي تستوعب إضافة إلى سكان الإقليم فيها الفلسطينيين الموجودين في الأرض المحتلة، وتحلّ بذلك مشكلة «إسرائيل» الديمغرافية بالتهجير الذي تحلم به وتراه مطلباً ليهودية «دولة إسرائيل».
في ظل هذا الواقع، نطرح السؤال عن حقيقة أو جدية مشاريع التقسيم ومتطلباتها، وفي الإجابة نرى أولاً أن التقسيم ليس حلاً لمشكل المنطقة كما يتوهم البعض، بل المدخل الأكيد لنوع جديد من الصراعات الدموية التي ستتوالد بشكل مضطرد ولا تتوقف، فبعد تآكل الجميع ودمارهم التقسيم هو «مشروع الحرب الدائمة»، والمستجير بالتقسيم هو كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولذلك نرى أن من يسعى للتقسيم أو يتقبل فكرته إنما يسعى إلى إفناء ذاته قبل إفناء الآخرين حماية لـ«إسرائيل».
ولأن للتقسيم في طبيعته مخاطر، فإننا نجد أن محور المقاومة يضع في رأس أولوياته محاربة هذا المشروع الخبيث، واستراتيجيته في ذلك باتت واضحة لا لبس فيها وتقوم على الأركان التالية:
المحافظة على الدول القائمة بحدودها الحالية بخاصة في سورية والعراق وفي كل المنطقة بشكل عام، ورفض البحث في إعادة النظر في الحدود أو رسم جديد للخرائط وتحصين الدول بكل ما يمكن من القوة والمنعة، ويشمل ذلك الرفض أي نوع من أنواع التقسيم المقنع تحت عناوين فدرالية الطوائف أو الأقاليم المتفوقة القوى على المركز.
مواجهة أدوات المشروع بعمل إقليمي أمني منسق. فالخطر لا يتوقف عند حدود الدول القائمة، وبالتالي ينبغي ألا تكون تلك الحدود عائقاً أمام المواجهة، وهنا نجد أن السعي الإقليمي الذي يقوم به كل من سورية والعراق وإيران ومعهم حزب الله من لبنان، لإقامة منظومة عمل أمني إقليمي، إنما هو سعي في الاتجاه الصحيح من شأنه أن يسقط قيوداً ومحاذير قيدت العراق بشكل خاص في الأشهر الماضية.
تعزيز عوامل الرفض الشعبي لمشروع التفتيت على أكثر من صعيد، وهنا يشكل ردّ الفعل الدرزي في سورية وفي فسطين المحتلة نموذجاً لفعالية الرفض الشعبي المعطل للمشروع. كما نرى في الغضب «الإسرائيلي» المترجم تهديداً للدروز في «إسرائيل» وإقصاءهم عن القطاع العسكري والوظائف الميدانية بمجرد اعتراضهم على دخول الإرهابيين إلى مستشفيات «إسرائيل»، إن في هذا الغضب دليلاً حسياً على عدم اطمئنان «إسرائيل» على مشروعها وخوفها من إجهاضه.
متابعة العمل الميداني الفاعل الذي يحصل الآن ضد الإرهاب في سورية والعراق، ونرى في ما تحقق أخيراً في هذا المجال بخاصة في القلمون والجنوب السوري دليلاً على مستوى القدرة على المواجهة الميدانية المؤثرة.
إن المشروع الانتحاري المسمى «مشروع التقسيم التناحري» الجديد وعلى رغم كل الأدلة والقرائن التي تؤكد جديته والبدء بتنفيذه، وعلى رغم ذلك لا نعتبر نجاحه قدراً بل إن مستلزمات نجاحه حتى الآن هي أدنى بكثير من المطلوب، وبالتالي نرى أن الحديث حوله والتركيز عليه هو أقرب إلى التهويل منه إلى الحقيقة، فالموانع والعراقيل التي تعترضه وتواجهه ليست بالأمر الهين الذي يمكن تجاوزه. ولكن هذا لا يعني إمكان الاسترخاء، فالفيروس يفتك بالجسم إن كان ضعيفاً بينما الجسم القوي يخنقه. وفيروس التقسيم لن يفعل فعله إن كان جسم المنطقة منيعاً قوياً ومع وجود محور المقاومة تبقى الطمأنينة قائمة.
التعليقات مغلقة.