الأمن الغذائي العربي – من المُعاينة إلى الحُلُول / الطاهر المعزّ
الطاهر المعزّ ( تونس ) الأربعاء 7/11/2018 م …
تقديم:
من أهداف هذه الورقة معاينة وضع الزراعة – كرمز للإستقلال أو للتبعية – في الوطن العربي، هذه المجموعة البشرية التي تجمعها الجغرافية والتاريخ واللغة، والأهداف والطموحات المُشتركة، لأن العمل (الشّعبي والقَاعِدي) المشترك من أجل أهداف مُشتركة، يزيد من فرص النجاح، بعكس العمل المُنعزل في إقليم أو منطقة صغيرة، حيث ترتفع احتمالات الفشل، وتنخفض احتمالات النّجاح، وتحاول هذه الورقة وضع خطوط عريضة لبديل تقدّمي، يستهدف فك الإرتباط (قَدْر الإمكان) بالرأسمالية العالمية، وبناء مجتمع يطمح لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، والإنطلاق من الزراعة، لتحقيق التراكم الذي يُمكّن بدوره من تطوير قطاع الصناعة، انطلاقًا من تحويل الإنتاج الزراعي، والإستثمار في قطاعات أخرى، كما تتعرض هذه الورقة إلى وسائل تحسين الإنتاج الزراعي من حيث الكَم أو الحجم (زيادة الإنتاج)، وكذلك من حيث الكَيْف أو النّوعية (تحسين الإنتاجية)، عبر استغلال التّراث التاريخي والثقافي في مجال الزراعة، وعبر استغلال الخبرات التي تتوارثُها الأجيال، وتطويرها بفضل التطور العلمي والمعارف المُكْتَسَبَة على مَر الأجيال، وعبر الخروج من العمل الفردي لصغار الفَلاّحِين، إلى شكل العمل التّشارُكِي الطّوْعِي والتّدْرِيجي، في إطار العمل على بناء مُجتمع مُغاير لما هو مَوْجُود، وفي نطاق إعادة الإعتبار للعمل الجَمْعِي (الجماعي) والتعاون وتبادل الخبرات، لتُساهم في تحسين مستوى العيش للجميع، بدل البحث عن وسائل تَسَلُّق السّلّم الإجتماعي على أكتاف الآخرين، وبدل الأنانية والتركيز على الفرد، في عصر إطلاق العنان لرأس المال والسلع لتنتقل من “الشمال” نحو “الجنوب”، مع إغلاق حُدود أمريكا الشمالية وأوروبا أمام البشر الفُقراء وأمام السِّلَع القادمة من مُزارعي إفريقيا وآسيا والوطن العربي…
تُمثل هذه الورقة مُشاركة في تبسيط بعض المفاهيم، ومحاولة لجعل الموضوع في متناول الجميع، وليُشَكّلَ الموضوع مُقَدّمَة لنقاش نمط الإنتاج ونمط المجتمع البديل للوضع السّائد حاليا، في المنطقة المُمْتَدّة، من البحر إلى البحر، من موريتانيا والمغرب، إلى العراق والخليج، ومقدمة لبلورة وإنجاز مشاريع قابلة للحياة وللنمو، في ظل الوضع القائم، بشرط حماية هذه المشاريع من قِبَل أصحابها، ومن قِبَل من يعملون على تغيير الواقع وعلى بناء بديل أو بدائل لوضع التّبَعِية الحالي، في انتظار تغيير سياسي شامل…
الأمن الغذائي كحق من حقوق الإنسان :
يعتمد اقتصاد العديد من الدول العربية – خصوصًا الدول غير النّفطِيّة- على قطاع الفلاحة والإنتاج الزراعي (المغرب وتونس ومصر والسودان والأردن وسوريا، قبل الحرب)، وتنتج هذه البلدان الحبوب والزيتون والتمور والحمضيّات والخضروات، وكذلك المواشي وغيرها، لكن الوطن العربي (كمجموعة أو كبلدان مُنْفَرِدَة) لا ينتج ما يستهلكه بل تستورد هذه الدول أكثر من نصف حاجاتها من الغذاء، أي إن الدول العربية مجتمعة لا تنتج سوى نصف ما تستهلكه من الطعام، ويرتهن الوطن العربي للأسواق الخارجية، ولِمَا يطرأ من تقلّبات وزيادات في الأسعار، ومن تقلبات في أحوال الطقس (جفاف أو فيضانات وعواصف)، لذلك يُعتبر الوطن العربي في حالة عجز غذائي مستمر.
تُعَرِّفُ منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) تحقيق “الاكتفاء الذاتي الغذائي”، بالحالة التي يتساوى فيها حجم الإنتاج الغذائي المَحَلِّي مع حجم الإستهلاك الداخلي، وتُعرّف “الأمن الغذائي” بالحالة التي يملك فيها جميع السكان، وفي كل الأوقات، الوسائل المادية والاقتصادية التي تُمَكِّنُهُم من الحصول على تغذية سليمة، تفي باحتياجاتهم، وتضمن لهم حياة صحية وسليمة، ويقتضي تحقيق الأمن الغذائي ضرورة التخطيط لاستغلال وإدارة الموارد الطبيعية المحلية من أرض (تُرْبَة) ومياه وشمس ورياح، واستغلال الموارد البشرية والمعارف المُكْتَسَبة، لاستغلال هذه الموارد بأفضل شكل ممكن وبأقل التكاليف، من أجل توفير أكبر قدر من الغذاء، مع تحسين جوْدَة الإنتاج، والمُحافظة على التّوازن البيئي، لكي لا يتسبب النشاط الفلاحي في تلويث البيئة (المياه والهواء والتربة)، وفي تعريض مستقبل الأجيال للخطر، وتُعَرِّفُ منظمات الأمم المتحدة “نقص التّغذية” بعدم كفاية حصة الغذاء، التي يتناولها الفرد، لتوفير الطاقة الضرورية للإنسان للقيام بواجباته، ويتسبب “نقص التغذية” في الشعور بالجوع، أما “سوء التغذية” فهو افتقار الجسم لحاجته اليومية من الفيتامينات والمعادن، والسّعرات الحرارية، للمحافظة على سلامة الجسم، وللقيام بالوظائف والنشاطات اليومية. يرتبط مفهوم الأمن الغذائي بتوفر الغذاء، وبإمكانية الحصول عليه، وإمكانية استخدامه بشكل يُفيد الجسم، لذلك فهو يرتبط بالإقتصاد وبالصحّة…
من أسباب انعدام الأمن الغذائي:
يعيش معظم السّكّان الذين يُعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم، في مناطق ريفية، أي إنهم مُزارعون أو فَقَدُوا أراضيهم، أو يعملون في قطاع الزراعة، مع امتلاك، أو دون امتلاك أراضي زراعية، ولكنهم لا يحصلون على ما يكفيهم من الغذاء، بسبب عدم القُدْرَة على شراء الغذاء (الفقر) أو بسبب قِلّة الإنتاج، أو تعرضه للتّلف بسبب العوامل الطبيعية (العواصف والفيضانات)، أو بسبب نقص المياه، أو بسبب ضُعْفِ دخلهم من بيع إنتاجهم الفائض عن حاجتهم (إن زاد إنتاجهم عن الحاجة)…
يُنتج العالم ما يكفي من الغذاء لكافة السّكّان، لكن الإنتاج لا يُوزّع بشكل عادل، مثل كافة مُكَوِّنات الثَّرْوة في العالم، فالإنتاج الزراعي يخضع للإحتكار، والمضاربة، من قبل الشركات متعددة الجنسية، التي تشتري الإنتاج الزراعي للفلاحين بأسعار منخفضة، لتُخزنها، ثم تبيعها بأسعار مُضاعفة، في نفس المكان أو في مناطق أخرى من العالم، كما تحتكر شركات أخرى (وأحيانًا نفس الشركات) البذور والسّماد، ومبيدات الأعشاب الطفيلية، لتبيعها بأضعاف سعر التكلفة، ولتتحكم في الموارد، عبر احتكار البُذُور، وتعْديل بعض خصائصها الوراثية لزيادة الإنتاج، بشكل اصطناعي، ولمقاومة الحشرات أو الأعشاب التي تُشَكِّلُ جزءًا من التّوازن الطبيعي والبِيئي، ويتسبب القضاء على الحشرات في انقراض بعض أنواع الطّيور والكائنات والنباتات الأخرى… بالمقابل، قدرت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) حجم الإنتاج المَهْدُور بنحو ثلث الإنتاج الغذائي العالمي سنويا، أو ما يعادل 1,3 مليار طنا من الأغذية بقيمة 750 مليار دولار من الخسائر (سنة 2014)، بسبب عدم توفّر وسائل النقل والتخزين في البلدان الفقيرة، وبسبب الإنتاج الزائد عن الحاجة، أو عدم استهلاك ما يتم شراؤه، في الدول الرأسمالية المتقدّمة…
الأمن الغذائي العربي والتّبَعِيّة الإقتصادية للخارج – بيانات إحصائية:
ارتفعت قيمة التجارة الخارجية للمنتجات الغذائية في الوطن العربي إلى 75,1 مليار دولارا سنة 2012، وبلغت الفجوة الغذائية للوطن العربي 35,6 مليار دولارا سنة 2013، والفجوة الغذائية هي الفارق السّلْبِي بين حجم الإنتاج وحاجيات السكان، ويُقاس بكمية وقيمة الغذاء المُسْتَوْرَد من الخارج، وتستحوذ الدول العربية (كمجموعة) على حوالي 58,5% من إجمالي حجم الاستيراد العالمي من الحبوب، وتستورد مَشْيَخَات الخليج نحو 95% من حاجتها للغذاء، أي إنها لا تُنتج سوى قرابة 5% من حاجتها، وتعتبر مصر أكبر مُستورد للقمح في العالم، تليها الجزائر، وتشتري جميع الدول العربية جزءًا من حاجتها للحبوب وللغذاء من الخارج، بالعملة الأجنبية، بينما لا تستغل الدول العربية سوى جُزء من الأراضي الصالحة للزراعة (انظر لاحقًا، في فقرة أخرى)، ويمكن للأراضي الزراعية المتوفرة في السودان تحقيق الإكتفاء الغذائي للوطن العربي بكامله، ولم تحقق الإكتفاء الذاتي الغذائي سوى سوريا بين سنتي 2004 و 2008، قبل أن تمر بثلاث مواسم عِجاف، وكان الجفاف من أسباب انطلاق الإحتجاجات في المناطق الريفية (استغلتها الإمبريالية الأمريكية والإخوان المسلمون، لتحويلها إلى حرب عدوانية على الحكومة وعلى الدولة وعلى البلاد)، ومن الأدِلّة الحِسِّيّة على قلة إنتاج الحبوب في الوطن العربي، وردت في برقيات وِكَالَتَيْ “رويترز” و”فرنس برس” خلال 48 ساعة، أخبار عن طرح مناقصات لشراء الحبوب من قِبَل المغرب والجزائر ومصر والأردن والسعودية والعراق…
يُشير تقرير الأمن الغذائي العربي (سنة 2017) للمنظمة العربية للتنمية الزراعية التابعة للجامعة العربية، إلى إنتاج البلدان العربية أقل من نصف حاجتها من الحبوب سنة 2016، وتحتاج توريد جزء هام من حاجتها من السلع الغذائية الرّئيسيّة، ومن بينها الحبوب واللحوم الحمراء والدواجن والألْبَان ومشتقاتها والزّيوت النباتية والبقول والسُّكّر، وهي المجموعات التي تعتمدها منظمة الأغذية والزراعة (فاو) لقياس الأسعار ولقياس درجة تحقيق الأمن الغذائي، وارتفعت أسعار الغذاء في الوطن العربي بين سنتي 2010 و 2015 بنحو 36% في المتوسط…
من جهة أخرى قَدّرت الجامعة العربية سنة 2017 مساحة الوطن العربي ب1345,38 مليون هكتارًا، وبلغت المساحة المزروعة 72,36 مليون هكتارًا سنة 2017 (من إجمالي أكثر من 220 مليون هكتارًا من الأراضي الصالحة للزراعة)، أو ما يُعادل 5,38% من المساحة الإجمالية للأراضي الزراعية وغير الزراعية، وقدر التقرير عدد سكان الوطن العربي سنة 2016 بقرابة 415 مليون نسمة، من بينهم حوالي 165 مليونًا يسكنون المناطق الريفِيّة، (أو ما يقرب من 40% من إجمالي عدد السكان)، وبلغ عدد القوى العاملة في كافة بلدان الوطن العربي (منهم عمال آسيويون في الخليج) حوالي 135 مليون عامل، أو قرابة 33% من إجمالي عدد السكان، وبلغ العدد الإجمالي للعاملين في قطاع الزراعة نحو ثلاثين مليون شخصا، أو ما يعادل 22% من إجمالي قوة العمل سنة 2017… أما إجمالي الناتج المحلي العربي فقد بلغ 2257 مليار دولارا (2,257 تريليون دولارا) سنة 2017، وبلغ الناتج الزراعي 140,75 مليار دولارا أو ما يعادل 6,25% من إجمالي الناتج المحلي العربي طيلة سنوات 2015 و 2016 و 2017، وتعتبر هذه النسبة ضعيفة، في مجملها، وتتفاوت من منطقة إلى أخرى، ففي السودان تتجاوز مساهمة الفلاحة نسبة 36%، وبلغت قرابة 35% في موريتانيا (بما فيها تربية المواشي)، وتُشكل الفلاحة حوالي 13% من إجمالي الناتج المحلي للمغرب العربي، ولكنها لا تُشكل سوى 2% في دُوَيْلات الخليج، وبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج الزراعي العربي حوالي 5441 دولارا للفرد سنة 2017…
البُعْد السِّياسي للأمن الغذائي:
لا يمكن لجهاز الدولة أن يحتكر الأمن بمفهومه العسكري والقَمْعي للسكان المُعارضين، ويتنصّل من مسؤوليته في تأمين الغذاء لأفراد الشعب، بقطع النظر عن اختلافاتهم الإثنية والدينية وعن ولائهم أو مُعارضتهم لنظام الحكم، ولذلك فإن الدولة مُلْزَمَة بالتخطيط والإشراف على برامج توفير الغذاء للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي، وعلى الدّول التي تهتم بمستقبل شعوبها التخطيط أيضًا لتحقيق الإنسجام بين القطاع الفلاحي والقطاع الصناعي، للتخفيف من حجم الهدْر ولتحويل ما زاد عن حاجة المواطنين إلى مواد مُصَنّعَة، يمكن تخزينها أو تصديرها، واستثمار رأس المال الفائض في الصناعة انطلاقا من الصناعات الغذائية (وَرَدَ ذلك في فقرة أخرى من هذه الورقة)، لتكون الزراعة قاطرة للإقتصاد، ولتطوير الصناعة التي تسمح بتحويل وتصريف الإنتاج الزراعي الفائض عن الحاجة، أو تخزينه ليقع استهلاكه طيلة السنة، وعدم الإكتفاء بالإستهلاك الموسمي…
تنتج المزارع العائلية الصغيرة (في العالم) ما بين 60 و80% من الأغذية في البلدان الفقيرة الموصوفة ب”النّامِية”، ويَعْرِضُ مجموع صغار المزارعين الإنتاجَ الزائدَ عن حاجتهم، أثناء الموسم، عندما تكون الأسعار منخفضة، بسبب الوفرة أو ما يمكن تسميته “زيادة المعروض”، ويستخدم صغار الفلاّحين ثمن المبيعات للإنفاق على تعليم الأبناء والرعاية الصحية وغيرها من الإحتياجات الضرورية، ونادرًا ما يحصلون على مبالغ كبيرة يمكن استثمارها لزيادة وتحسين الإنتاج، ويُوَفِّرُ قطاع الفلاحة وظائف يفوق حجمها عدد الوظائف الحكومية، في الدول العربية غير النفطية، بالإضافة إلى وظائف في مجالات تربية الحيوانات واللحوم، والتّجْمِيع والتّخْزِين والشحن والنقل وبيع الإنتاج الزراعي في الأسواق، والصناعات الغذائية، والمطاعم، وتجارة التّجْزِئة، ومجموع الوظائف في قطاعات الخدمات المرتبطة بالقطاع الفلاحي، بشكل مُباشر أو غير مباشر…
من جهة أخرى، كلما كان البلد فقيرا، ارتفع معدل الإنفاق على الغذاء (للأفراد وللدولة)، وترتفع نسبة إنفاق الفُقراء (داخل كل بلد) على الغذاء، من إجمالي الدّخل الفردي، وينفق فقراء المناطق الحضرية نسبة تصل إلى 80% من دخلهم على شراء الغذاء، في البلدان “النّامِيَة”، وكلما ارتفع دخل الأفراد انخفضت نسبة الإنفاق على الغذاء، ففي الولايات المتحدة لا يتجاوز مُعدّل الإنفاق الفردي على الغذاء 10% من متوسط الدّخل
بعض الحلول المُسْتقبلية:
كانت إحدى شعارات الثورة الثقافية في الصين (بقطع النّظر عن تحقيق أهداف الشعار أو عدم تحقيقها): “لتَكُن الزراعةُ الحلقةَ الرئيسيةَ للإقتصاد، ولتكن الحبوبُ الحلقةَ الرئيسيةَ للزراعة”، لأن الزراعة تخلق حولها حلقات إنتاج إضافية ومُكَمِّلَة، ومن بينها تربية الحيوانات، والصّيد، والتّصْنِيع وغيرها، والزراعةُ هي الحلقة الأولى لتحقيق الإستقلال الإقتصادي، إذ لا يمكن أن تكتمل شروط السيادة والإستقلال لأي مجتمع (أو أي دولة) دون القُدْرَة على توفير الحاجات الأساسية للأفراد (المواطنين)، ويأتي الغذاء في مقدمة هذه الحاجيات، إلى جانب السكن والرعاية الصحية والتعليم، ولا تكتمل السيادة بدون إنتاج أكبر قَدْرٍ ممكن من حاجة المواطنين مَحَلِّيًّا (بدل الإستيراد)، ويُفْتَرَضُ أن لا يُنتِج النّاس بغرض التّصْدير، وإنما لتوفير ما يُلَبِّي حاجةَ المواطنين، ولكن تطور المجتمعات جعل اقتصاد العالم متكاملاً ومتداخلاً، فتُصَدِّرُ الدول جُزْءًا من إنتاجها، لتستورد منتجات أخرى لا تتوفر لديها، وهذا بدوره خلق حالة تبادل غير متكافئ، لصالح الدول الإمبريالية والشركات متعددة الجنسية، وأَسَّسَ نظامًا مَكّن الدول الغنية من الإستيلاء بالقُوّة على المواد الأولية (عبر الإستعمار والهيمنة الإمبريالية) ومكّن هذا النّظام من احتكار ثمرة الإنتاج العالمي واحتكار وسائل الإنتاج والتّصْنِيع والنقل والتوزيع، ومكّنه من الهيمنة على النظام المصرفي والتحويلات المالية، وغيرها، ولا يمكن لأي بلد أن يستقل ويتطور دون “فَكِّ الإرتباط” مع هذا النظام الجائر، ويُشكّل القطاع الزراعي والإكتفاء الذاتي الغذائي مُقَدِّمَةً ضَرُورِيّةً لعملية “فك الإرتباط”…
لا يُمْكِنُ تحقيق الأمن الغذائي، دون اتخاذ تدابير لتأمين الغذاء الصّحِّي للسكان (في بلد واحد أو في العالم) في حالات السلم أو الحرب، كما في حالات الجفاف أو عند حدوث عوامل طبيعية ومناخية غير مواتية للزراعة (الجفاف أو الأعاصير…)، أو بسبب العوامل الإقتصادية (نقص الوقود ووسائل النقل…)، لذلك وجب ربط الأمن الغذاء بنمط الإنتاج، ولذلك فإن مفهوم التنمية الذي يُحَقِّق تأمين الحاجات الأساسية للإنسان، هو بالضّرُورة نَقِيضٌ للمفهوم الرأسمالي الذي يعتبر الإنتاج الزراعي والغذاء (والصحة والتعليم…) سلعة تخضع لقوانين السوق وللمُضاربة، ولذلك يمكن (بل يجب) استنباط حلول من شأنها تأمين الغذاء للجميع، وخصوصًا في المناطق الفقيرة، ولا يمكن أن تكون هذه الحُلُول فَرْدِيّة، بل هي بالضّرورة حلول جَمْعية (أو جَماعِيّة)، يُشارك في إيجادها وبَلْوَرَتها، وفي تطبيقها، المعنيون بالأمن الغذائي من المُنْتِجِين ومن المَحْرُومِين والفقراء، وليس من الخُبراء في مكاتب الشركات متعددة الجنسية أو المَصارف أو مُؤسسات “بريتن وودز” (صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها)، ويتطلب ذلك إنجاز نمط تنمية مُغاير، يمكن تسميته “التّنْمِية بالحماية الشّعْبِية” (المصطلح من ابتكار الرفيق “عادل سمارة”)، كما يمكن أن نُطلِق عليه إسم “التّنْمِيَة التّشارُكِيّة” (الرجاء مُراجعة الفقرة الأخيرة من هذه الورقة)…
اكتشف مُزارعو منطقة ما بين النّهْرَيْن، ومنذ قُرون، وقبل اكتشاف الأسمدة الكيماوية، إن ذر الرماد على الأراضي الزراعية المالحة يساعدها على الإستفادة من مياه الرّي ويُخَفِّضُ من درجة المُلُوحة، ويُحسّن إنتاجية الأرض، واستخدم شباب الثورة الثقافية في الصين هذه التقنية القديمة لاستصلاح الأراضي الزراعية المالحة في بعض مناطق الصين، فنَقَلُوا كميات كبيرة من رماد الفحم إلى هذه الأراضي، بغرض استصلاحها وزراعتها والإستفادة من إنتاجها، بموارد محلّية وبأقل التكاليف المُمْكِنَة…
خَصَّصَ البنك العالمي مبالغ هامة لإقراض دول عربية (وغير عربية) بهدف استبدال وسائل الرّي القديمة (السّوَاقِي) في المغرب وتونس ومصر والأردن، بقنوات من الإسمنت تمر تحت أو فوق الأرض، بذريعة توفير المياه والقضاء على الهَدْر، وفشلت جميع المشاريع، بل بقيت قنوات الإسمنت (التي بلغت تكاليفها عشرات أو مئات ملايين الدولارات) مُهْمَلَة، وكان سكان العراق وسوريا قد اخترعوا نظام الرّي، الذي حاربَهُ البنك العالمي، ليتماشى مع طبيعة الأرض، ولتوزيع مياه الرّي بين الأشجار المُثْمِرَة كالنخيل، ثم بقية الأشجار المُثْمِرَة الأقل ارتفاعًا (الرمان والخوخ والتّين والعنب…) التي تُزرع على السواقي، أو على حافة الحدود بين قطعتَيْ أرض، فتستفيد هذه الأشجار المُثْمِرَة من المياه التي يعتبرها البنك العالمي “مَهْدُورةً”، ويزرع الفلاّحون في الطبقة السّفلى (تحت الأشجار) أنواع الخُضار الفَصْلِية والحبوب، حيث تنبت كذلك الأعشاب الغنية بالبروتينات (البرسيم، أو الفصة) لتغذية الحيوانات، التي يستهلك الفلاّحون حليبها ولحمها وبَيْضَها، كما يزرع الفلاحون في حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، مساحات كبيرة من الزياتين، ويمكن لشجرة الزيتون أن تُثْمِرَ طيلة مئات السنين، مع استغلال الأراضي الواقعة تحت أشجار الزيتون، أو ما بين الأشجار، لزراعة الحبوب أو لرعي الغنم…
يُمْكن (ورُبّما “يَجِبُ”) الإنطلاق من معارف “الأوّلِين” وتجاربهم، لتطوير قطاع الفلاحة، بما يتماشى مع العصر الحديث، بهدف تحقيق الأمن الغذائي، وبهدف تخزين ما زاد عن الحاجة، وتصنيع ما يُمْكِنُ تصنيعه، والتصنيع يعني زيادة قيمة للمادة الخام، ما يرفع سعر الإنتاج عند البيع في الدّاخل أو عند التّصْدِير، وما يسمح بتوظيف عشرات الآلاف من المواطنين، في بلدان عربية حطمت كل الأرقام العالمية في ارتفاع نسبة البطالة، وربما مئات الآلاف من العُمّال والفَنِّيِّين وذوي الخبرات والمهارات، ومما يسْمَحُ بتطوير الصناعة، عبر الصناعات الغذائية، لتحويل المادة الخام (الحليب أو الغلال أو الخُضروات) إلى مادة مُصَنّعَة، ليُنْتِجَ قطاع الفلاحة تراكُمًا تستخدمه الدولة للإستثمار في تحديث قطاع الفلاحة (الآلات الزراعية) وفي قطاعات أخرى، كالبنية التحتية والصناعة والنّقل والصحة وغيرها…
التنمية التشاركية:
يُفيد المصطلح مشاركة المعْنِيِّين (المُتَشارِكِين) في التخطيط والتّصْميم لمشاريع التنمية الزراعية، مما يُعْتَبَرُ نقيضًا للتصور الذي يفرضه البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمنظمات المُسمّاة “غير حكومية”، التي ترى إن من يُقدّم التمويل (الذي يُسَمُّونه “مِنْحَة”) يَفْرِضُ نمط التّنْمِية ويفرض وسائل التنفيذ وطريقة التّقْيِيم، ويمكن تعريف “التنمية التّشاركية” في القطاع الفلاحي، بأنها “مُخَطّط يعتمد على المعارف والخبرات المُكتسبة للمُشاركين عبر الأجْيال”، ويحترم البيئة والتنمية المُسْتَديمة، ويعمل على استخدام الموارد المحلية من أسمدة عضوية ومياه، ويستغل تربية الحيوانات، لاستخدام الفضلات العضوية والنباتية، ولاستهلاك اللحوم والألبان ومشتقاتها والبيض وغير ذلك، ويهدف المُخَطّط لتلبية احتياجات المتشاركين ومُحيطهم، وتطوير العمل الزراعي ليرتفع الإنتاج وليتحسّن، بالتعاون (والتّشاور) مع الخبرات المحلية (والعالمية أيضًا)، من مراكز بحث ومختبرات ومراكز علمية (الجامعات)، على أن تكون مساهمة الباحثين والعُلماء طَوْعية ومجانية أو بتكاليف محدودة ورمزية، هدفها تطوير معارف وخبرات المتشاركين، للمحافظة على التربة وأديم الأرض واستغلال المياه بشكل عقلاني، والمحافظة على البُذُور المحلّية، التي تأقْلَمَتْ عبر العصور، مع تقلبات المناخ ومع المحيط المحلّي، مع إمكانية “تَهْجِين” هذه البُذُور (بأشكال تقليدية)، بهدف تعزيز صُمُودِها، وفي هذا المجال كانت سوريا إحدى الدول الرّائدة عالميا في مجال الحفاظ على البذور المحلية، والثانية عالميا في مجال زراعة القطن العضوي…
يمكن للمتشاركين الإعتماد على مُتَطَوّعين بشكل عَرَضِي ومؤَقّت على الشبان أو الشيوخ، للترويج (لدى النقابيين والمناضلين) ولتسويق الإنتاج، أو للبحث عن أسواق جديدة، أو غير ذلك من المَهام، وهي تجربة كانت نتائجها إيجابية للفلاحين وللتجار وللمُسْتَهْلِكين في الضفة الغربية وغزة أثناء فترة الإنتفاضة الأولى (1987 – 1990)، وانطلقت من تطبيق الدعوة إلى مقاطعة الفلسطينيين للبضائع الصهيونية، في خضم المناخ الثوري للإنتفاضة…
من الضروري أن يكون نظام “التّشارك” أو “التّجْمِيع” طوعيًّا وتدريجيًّا، يُمَكِّنُ المُتردِّدِين أو الرّافضين من مُعايَنَة “فوائد التّشارك أو التّجْميع” الذي يهدف لإنجاز مشاريع (أو تحقيق أهداف) لا يستطيع الفلاّح الفرد تحقيقها بمُفْرَدِهِ، مما يُمَكِّنُ نظام التّشارك من الإرتقاء تدريجيًّا، بعد تجاوز مرحلة زيادة الإنتاج، إلى العمل المُشترك ضمن وحدات إنتاج، وهي مرحلة مُتقَدّمة من العمل الجماعي، وتتطلب درجة من الوعي بضرورة التنظيم الجماعي، مع استخدام الخبرات والمَهارات التي اكتسبها المُزارعون (أو أفراد أُسَرِهم) خلال إنجاز المرحلة الأولى، وتتطلب تَوفُّرَ القُدْرة على التّخطيط، للمحافظة على نسق الإنتاج (وزيادته) وتحسين الإنتاجية، والإستثمار في شراء الآلات والأسمدة، والإستثمار كذلك في مصانع تحويل الإنتاج الزراعي الفائض، وغير ذلك من أنماط التخطيط الذي قد يُؤَدِّي إلى خلق فئة بيروقراطية، مُتعالِية عن بقية المُزارعين، ولتفادي ذلك، وجب إنشاء فُصول أو “مدارس” أهْلِيّة للتدريب المُسْتَمِر، لتعليم أُصُول ووسائل “التّسْيِير الذّاتي”، ولاكتساب خبرات ومهارات جديدة (الإدارة الجماعية والإشراف والتخطيط…)، ويُمْكِن إنجاز نظام “التّشارك” في ظل الأنظمة القائمة، إذا كانت هذه التجارب مَحْمِيّة شعْبِيًّا من أهلها ومن التّقَدّمِيِّين والثوريين، ويمكن أن تكون لَبِنات أو حجر الأساس أو مدرسة لتغيير المُجْتَمع، انطلاقًا من إدارة المُنْتِجِين أنفُسهم لمصالحهم، ودفاعهم عنها بأنفسهم…
التعليقات مغلقة.