ناهض وسعد وأنا / ناجي الزعبي
ناجي الزعبي ( الأردن ) الإثنين 26/11/2018 م …
كنّت اتجه الى مدينة الفحيص لوداع الشهيد ناهض ، كان ناهض قد غادرنا في رحلته الأبدية فقد نالت منه يد مشحونة بوعي الموت والدم والكراهية وامتدت لحياته فغيبت في تكرار لحوادث عدة مماثلة اغتيلت بها الكلمة والفكرة والنور .
كان الألم مضاعفا” فقد كنت قد توقعت وحذرت باجتماع الرفاق بالمتدى الأشتراكي للنظر فيما يتعرض له ناهض قبل اسبوع او ربما عشرة ايام من اغتياله من انهم سيغتالونه وبأن رؤوسنا مطلوبة واحدا” تلو الآخر .
وعند وصولي الفحيص مدينة الراحل الأستثنائية الجميلة الوادعة واقترابي من الكنيسة التي نقل اليها الجثمان واحتشد بها الرفاق فوجئت باتصال هاتفي .تجاهلت الأتصال لكنه الح في تكرار رنين الهاتف مما اضطرني لالتقاط الهاتف والاجابة فتبين لي انها قناة الميادين .
طلب المتحدث اجراء لقاء مع القناة للحديث في حلقة كاملة عن الرفيق الراحل ، اعتذرت لانني اريد ان أكون مع الرفاق في الوداع والوقت غير مناسب ابدا ، لكن مخرج البرنامج اصر ّ بداعي ان الراحل يستحق تقديم حلقة عنه اثناء وداعه .
قلت له :
انا بسيارتي وليس لدي مكان أقابلكم به .
قال لي يمكنك ان تصطف سيارتك في اي مكان وعبر سكايب هاتفك يمكن اجراء المقابلة .
أُسقط بيدي فلم اجد وسيلة أتملص بها , فقبلت .
واتصلت بالرفاق لإيضاح الامر ، قالوا : حسناً فعلت ينبغي ان يعلم العالم حقيقة ما حصل ، وبعد ان تنهي الحلقة تلتحق بنا .
استغرقت الحلقة فترة زمنية ناهزت الساعة او ربما ساعتين .
سالتني المذيعة كيف يقبل الشعب الأردني اغتيال الرأي والكلمة والأنبياء المبشرين بالنور وبهذا الأسلوب البشع برغم انه شعب متحضر ؟ ومن المسؤول ؟
قلت : انا اول المسؤولين , كلنا مسؤولين جماهير وقوى سياسية ونظام رسمي .
كان هناك جريمة منظمة مبيتة على مدار عدة عقود مضت لأغتيال الوعي ووأد الفكر والثقافة وتدجين الأعلام والتعليم والسياسة والدين وتسييسه وادخاله بيت طاعة الحكام والأنظمة لحساب المصالح الأميركية الصهيونية والحكام والرجعية العربية ونحن الآن نجني الثمار .
كل ما يتطلبه الأمر بعد شحن الشارع اشعال فتيل الكراهية والنقمة والأشارة لمن ينبغي توجيه آلة القتل له , وتكليف اي مهووس ليقوم بالمهمة .
لقد صنع النظام الرسمي العربي من وطننا قوة مغلقة تائهة وزجها في مكان مغلق فاصبح الوطن والوعي كغرفة جرى شحنها بالغاز , وكل ما يتطلبه الأمر اشعال الفتيل بيد مهووس , وعندها تقع الجريمة , والمفارقة المبكية المضحكة ان (القاتل والمقتول) ضحية مناخات الكراهية والعصبيات والغرائز المشحونة .
وبعد ان انهيت الحلقة التي استنزفتني حاولت التوجه بسيارتي لمكان الكنيسة فتبين لي ان ذلك غير ممكن فقد كانت السيارات تغلق الطرق بكل الاتجاهات ولن اتمكن من تحريك سيارتي باي اتجاه .
ترجلت من سيارتي وسرت على اقدامي مسافة طويلة ربما ثلاثة كيلو مترات .
وفي هذه الأثناء كانت طقوس الكنيسة قد انتهت وانتقل الجثمان والحشد للمقبرة الموجودة في مكان مرتفع يبعد عن الكنيسة ويحتاج لسيارة لبعد المسافة وارتفاعها الملفت .
كنت منهكا مُستنزفاً من الحلقة على الميادين والمسير للكنيسة لافاجئ باضطراري للذهاب للمقبرة الموجودة في مكان مرتفع ولا سبيل للوصول اليها الا سيرا على الأقدام !
فلم اجد مفراً من السير ، ومما خفف علي اصطفاف الأهالي على جانبي الطريق الى المقبرة بشكل حضاري لافت وبلهفة غير خافية وكان كل منزل كمن يودع عضوا” من اعضاء اسرته وامام معظم المنازل طاولات موضوع عليها زجاجات من الماء البارد توزع على المارة من قبل الأسر التي تخفف على المشيعين الألم , كان مشهدا” تنفرد به الفحيص واهلها الذين يعشقون الفرح والحياة ويبشرون بالمحبة والنور والحضارة .
وحين وصلت المقبرة وجدت عددا كبيرا من كبار ضباط الامن العام أمامها في مؤشر غير خافي على اهتمام الأجهزة الأمنية بالحدث الجلل مما اثار دهشتي ، كانت إجراءات الامن بغاية التنظيم والجاهزية .
عرفني بعض منهم فتبادلنا الحديث وتبينت مدى المهم بوفاة الشهيد وبالحالة التي انحدر اليها الوعي وسادت فيها روح الكراهية وخطابها .
قلت استئذنكم للذهاب لحضور الدفن ، لكنهم قالوا لي للان لم يصل الجثمان وتبينت انه سلك طريق طويلة ليقوم اهل الفحيص الاوفياء بوداع ابنهم وقمرهم الذي غاب والذي غادر في غير توقيت ذات زمان مشحون بالكراهية بفعل توحش طبقة أعماها شبقها للمال فسلكت طريقه المعبد بالدم والموت والخراب ولغته الهمجية
دخلت للمقبرة المعدة بعناية والتي تنم عن المستوى الحضاري الراقي لأهلنا بالفحيص وانتظرت وصول الجثمان ، تأملت القبر المزين بالورود ، ورود الرفاق الذين أحبوا ناهض والتزموا ببرنامجه وخياراته وقناعاته ودفاعه عن الحياة والحلم والمستقبل وانحيازاته للإنسان والحب والخير والجمال
تأملت وطاف بي حلمه بان يملأ العالم وروداً وازاهير لا ان يمتلأ قبره بها
اختلفت معه واتفقت معه لكني اقر بانه كان مفكرا وقامة فكرية ومناضلا من طراز خاص
دافع عن الاسلام وهو مسيحي ودافع عن المسيحية وهو ماركسي
ناهض كان نسيج وحده
اطل بعد تأملاتي جثمان ناهض محاطا بالرفاق وأحزانهم التي تقطر من عيونهم , اضفّت أحزانهم وأساهم على المكان مسحة حزينة دامية.
أودع الرفاق جثمان ناهض مقره الأبدي وانتظر بعضهم قليلا منهم من ذرف حزنه ومنم من احس بفاجعة الخسارة وفداحتها وبيتمه السياسي لغياب الرفيق الملهم له , وغادر البعض الاخر بعد ان انهمرت احزانه , ولم يتبقى منهم بعد مضي زمن الاالقليل .
في هذه الأثناء سمعت سعد العلاوين يقول لبعض الرفاق بعد وداع ناهض ينبغي ان اسرع للأغوار للمشاركة باعتصام الفلاحين .
ثم غادروا جميعا وبقيت وحيدا” . قلت لنفسي سعد هذا لا يكل تراه في كل مكان مكون اساسي للحدث منصرف بكليته اليه , كل مكان يكون فيه فعالية تستهدف الوطن يكون سعد بين الصفوف بلا ضجيج كالضمير الخفي الذي لا يغيب ابدا ,
سعد هذا يعتبر الوطن امه وطفله المدلل فكيف تغيب عينه عنه ؟
بعد مغادرة الجميع غادرت معهم وتبينت انني وحدي وليس لدي سيارة تقلني وعلي ان اسير بضعة كيلو مترات وانا منهك ،
لفتني الحيرة ولمت نفسي كثيرا ، الم يكن من الاصوب ان اطلب من احد الرفاق ان يقلني معه !!
لكن ما فائدة الملامة فالكل غادر
فجأة ظهر سعد العلاوين مسرعا ولمحني
اقترب مني وسألني : ماذا تفعل
قلت : أغادر
قال : اين سيارتك فلا ارى اي سيارة بالمنطقة
قلت : هي في اول الفحيص
قال : اذا سأقلك معي
قلت : انت مرتبط بموعد وعلى عجلة من امرك
قال : ابدا
قلت : بل انت على عجلة سمعتك
قال : صحيح لكن سأقلك للكنسية وهناك تذهب مع الرفيق مازن حنا ومحمد ابو عريضة فقد اتيتم معا وتغادرون معاً واستمر بوجهتي لان الكنيسة في طريقي
قلت : وما ادراك اننا اتينا معا”
قال : هم وكانوا بانتظارك لكنك تأخرت .
رافقت سعد باتجاه الكنيسة وفي الأثناء تجاذبنا الحديث للمرة الاولى كان نقيا بسيطا مفعما بالامل وحب الناس والخير ومؤمنا بمهامه ومشروعه واهدافه .
وصلنا للكنيسة و تبين لي ان الرفاق مازن وابو عريضة قد غادرا
قلت لسعد سأنزل هنا
قال بلهجة حاسمة حازمة ابدا لن تغادر ساقلك الى سيارتك
قلت يا رفيقي ستتأخر
قال لاعليك
اصر سعد لايصالي لوجهتي ثم غادرني للاغوار وجهته التالية
مشرقا مؤمنا بمشروعنا جميعا مشروع ناهض وسعد وعبد الفتاح تولستان ويعقوب زيادين وكل المناضلين
ودعت سعد ثم ودعت الفحيص وناهض الذي غادر وسعد المغيب حسب نبؤتي
وحلمه لا زال حلمنا .
كتب رفيقنا جمال مساعدة على صفحته بالفيس بوك الجملة التالية : لا تطلقوا سراح سعد فلا فائدة لانكم ستعيدون اعتقاله.
انا على يقين من ذلك رفيق جمال
فسعد ثابت لن يتخلى عن مشروعه
التعليقات مغلقة.