بين طمس “الوقائع” وتزويرها السّياسيّ التّاريخيّ – سورية مثالاً / د. بهجت سليمان
1▪ يبدو التاريخ ، في جانب كبير منه ، على أنّه سجلّ للأحداث و الوقائع الاجتماعيّة و السّياسيّة التي تمثّل الصّراعات التّاريخيّة بين القوى المتناقضة و الأفكار المتضاربة ، في إطار الاهداف الشاملة التي تفصل بين الظّواهر التي تتشكّل ، بهيئة أفراد و جماعات و “قبائل كبيرة” و مجتمعات و دول و منظومات ، احتلّت مواقع المنافسات و التّحدّيات و التناحرات ، التي تتوزّع فيها القوى و التّيارات المتواجهة على خرائط العالم و مساحات الجغرافيا و الانتماءات المتغايرة ..
التي تظهر في استعداءات و عداءات بشريّة ، بحدود التّماس السّياسيّ الذي تُظهره ما تُفرزه تلك الوقائع من عدوانات ظاهرة و مبطّنة ، معلنة و مضمرة ، في الوهلة الزّمنيّة التي تؤطّر ظروف العنف الممارَس ، تحت شعارات حيويّة مقبولة و مسوّغة أو تحت ألوية صريحة و واضحة من التّحدّي و الجشع ..
بدافع التّفوّق النّوعيّ أو بدافع ممارسة فائض القوّة الذي تختزنه “ثقافة” من الثّقافات ، التي تجاوزت قوّتها المختزنة حدودَها في صرف النّفوذ و في التّوسّع و فرض نموذجها في صيغته المستكينة على الآخرين .
هكذا تتّخذ الصّراعات أشكالاً غير محدّدة ، ما بين الأطراف المتصارعة ، و متغيّرة تبعاً لظروف الزّمان و المكان و درجة التّطوّر الإنسانيّ الظّرفيّ و التَّقنيّ ، و ذلك من أبسط أشكال النّزاعات المسلّحة و المباشرة .. حتّى أعقد أشكال الاحتراب النّفسيّ و الأيديولوجيّ و الإعلاميّ ..
وقد صادف الزّمان أنّنا نعيش ابتكارات فظيعة في هذا الشّأن ، في هذا العصر الذي شهدنا و نشهد فيه حروباً معاصرة أكثر تعقيداً ممّا كان يُمكن ان يخطر في الخيال ، لولا أنّه قد تجسّد أمامنا كحقيقة مباشرة ، تكاد تكون يوميّة في تكرارها و ثبوتها في المرجعيّات الذّهنيّة ، التي تشكّل الوعي المعاصر مدعوماً بذاكرة مقاومة لكلّ أشكال التّناسي و النّسيان .
وعلاوة على جميع ما يدخل في أسباب الحروب و النّزاعات “غير النّاعمة” من تحدّيات و صراعات على “الأشياء” المعروفة كمادّة للصّراعات و الحروب ، و ذلك من الحدود الجغرافيّة و السّياسيّة ، و حتّى أشكال و مضامين و أيديولوجيا الحكومات المختلفة .. مروراً بنزعات التّفوّق و فرض السّيطرة ، و الأفكار و المصالح .. إلخ ..
فإنّ ما تدور عليه الحروب ، عادة ، هو أيضاً ما يدخل في أساسيّات هذه الحروب ، من وقائع محدّدة مستهدفة بنوعها الحصريّ الذي يُسبّبها كحقائق نوعيّة و هامّة في امتلاكها من قبل الأطراف المتحاربة ، كرصيد إعلاميّ و اجتماعيّ و عالميّ ، يُضاف إلى مخزون الممتلكات المتواجهة في ساحات المعارك المباشرة .
2▪ ما أعنيه بِ”الحقيقة” ، هنا ، أو بِ”الحقائق” ، هي تلك “الوقائع” الصّادقة في الممارسة الأخلاقيّة في “الهجوم” و “الدّفاع” و توطيد الأغراض المستهدفة في الحرب ، بحثاً عن ، و عملاً على ، إقرار واقع محدّد تُضاف نتائجه إلى غاية الحرب الأخلاقيّة من المنظور الوطنيّ و القوميّ ، أوّلاً ، ثم ، ثانياً ، من المنظور الاجتماعيّ و السّياسيّ و الاقتصاديّ ، و أخيراً من المنظور الفكريّ أو الفلسفيّ ، و هذا كلّه ما يُشكّل “المنظور الأخلاقيّ” للحرب .
على هذه “الحقائق” ، و حولها ، تدور حروبٌ خاصّة ، و مستقلّة أحياناً ، و لكنّها لا تنفصل في محصّلاتها عن الأهداف العامّة للحرب نفسها ، و أغراضها المعلنة و المقبولة في أيديولوجيا الصّراع .
و الصّراع على “الحقائق” ليس موقوفاً على مناسبات الحرب ، مع أنّه يكتسب ، هنا ، أهمّيّته الخاصّة كوسيلة مساعدة في حسم الصّراع و تحقيق أهداف الحرب ..
إذ يُشكّل جزءاً يوميّاً و أسلوباً تاريخيّاً من وجود الأمّة أو الدّولة ، يشدّ من حاضرها و يُلهم مستقبلها و يكون لها بمثابة المخزون الدّائم من مسوّغات و أفضليّات التّطوّر و النّشوء .
لا تشكّل هذه “الحقائق” التي نتحدّث فيها ، أيّ جزء من أجزاء “الهويّة” الوطنيّة هذه التي تصنعها الأحداث و الخطوب الجسام و تعزّزها التّضحيات المعروفة عند الشّعوب ..
مع أنّها ( الحقائق ) لا تنفصل عن مناسبات تعزيز واقع الانتماء و الهويّة و الصّفات الوطنيّة و القوميّة الأخرى لأمّة من الأمم ..
ويمكن أن تشكّل تلك “الحقائق” قيمة أخلاقيّة و إنسانيّة تساعد في ظهور الأطراف في مواقع “الحقّ” ، لتكون سبباً إضافيّاً من أسباب المشروعيّة و الشّرعيّة في الصّراع ، و مسوّغاً أخلاقيّاً أوّليّاً و مستمرّاً من مسوّغات الحرب ، مع أنّ تلك “الحقائق” لا تُشكّل أيّ فارق نوعي “عقليّ” أو فكريّ أو شيئاً آخرَ من هذا القبيل .
وإذا كان الصّراع على هذه “الحقائق” يتّخذ له أهمّيّة قصوى في أثناء الحروب ، فإنّ هذا لا يعني أنّ تلك الحقائق ليس لها معنى في أيّام “السّلم” ، بل ربّما كان استقرارها في ظروف السّلم و امتياز جماعة أو أمّة بها ، ممّا يؤكّدها أو يساعدها على المثول واقعيّاً و الظّهور الأكثر إقناعاً في أوقات الحروب .
3▪ يميل العالم ، اليومَ ، إلى الظّهور بمظهر “الإنسانيّة” الرّؤوم ، أكثر من أيّ وقت مضى..
وقد يرجع الأمر إلى أنّ هذا “العالم” يُعاني ، بالفعل ، من عَوَزٍ وجدانيّ أخلاقيّ ، في من يقف على رأس قواه الفاعلة و المؤثّرة و المساهمة في تشكيل تطوّراته الحاسمة و الأخيرة ، فيُبالغ في أمر تمسّكه بزمرة الصّفات الأخلاقيّة تعويضاً عن فقدانه لها ، و مغالاة بالانحياز لها للتّسويق السّياسيّ التّاريخيّ والاستهلاك الإعلامي في وقت واحد .
4▪ يبدو الصّراع على “الحقيقة” كأحد أهمّ ما يُميّز فلسفات التّاريخ السّياسيّة التي يعتمدها الحاكمون بتضمينها لأفكارهم بمناسبة و بلا مناسبة ، ليتّخذوا منها ، في أوقات الحروب ، ذريعة من ذرائع ابتزاز “الآخر” في عمليّة من عمليّات احتكار هذه “الحقائق” و الادّعاء بها ، و اتّهام “الآخر” بتجاهلها و احتقارها في معرض الإخلال بالحقوق الإنسانيّة الأوّليّة ، التي يُعتبر تجاهلها ضرباً من الوحشيّة في أداء الصّراع و فقدان “السّمات الأخلاقيّة” ، التي على الحروب أن تجعل منها “مرجعيّة” أخيرة في تمدّد و اتّساع و تنوّع أشكال الصّراع .
من المفهوم كيف أنّ هذا النّوع من الصّراعات ، يأخذ أبعاداً خاصّة و هامّة و مؤثّرة في زمننا الذي يتميّز باتّساع تأثير وسائل الإعلام و الدّعاية الحربيّة و الحرب النّفسيّة ، التي أصبحت جزءاً أساسيّاً و ضروريّاً من وسائل الصّراع في الحروب ، و بخاصّة في ما يُسمّى بِ”القرن الواحد و العشرين ، المُبكّر” ، و الذي بدأ مع نهاية الحقبة السّوفييتيّة ، و سقوط “جدار برلين” في نوفمبر/ تشرين الثّاني ( 1989 ) ، و بداية عصر “العولمة” .
في كلّ حرب واسعة و مديدة و كبيرة ، ثمّة صراع تاريخيّ على “الحقيقة” ، كما عرّفناها ، أعلاه ، و ذلك لاحتكارها من قبل طرف من الأطراف ، أو من أجل إعادة صياغتها صياغة تتناسب مع الظّروف و الأهداف و الغايات الخاصّة بأحد الأطراف ، أو من أجل التّوسّع بمفهوم “الحقيقة” الأخلاقيّ ، تمهيداً لاستثمار هذا المفهوم في المناسبة السّياسيّة نفسها التي قامت في إطارها الحرب .
5▪ أصبح ، مؤخّراً ، الصّراع على “الحقيقة” ، “الحقائق” ، في أتون الحروب ، مبدأ أساسيّاً في أصول الحرب ، حتّى أنّه يكادُ يكون قد أصبح أحد أسلحة الحرب التي يتنازع عليها المتحاربون ، شعوراً منهم ، جميعاً ، أنّ عليهم يقع إثبات أخلاقيّة الحرب التي يخوضونها ، مع أنّها ( الحرب ) ، في النّهاية ، تتحدّد بطرفين ، على الأقلّ ، واحدٌ منهما معتدٍ و الثّاني مُعتدًى عليه .
يجري كلّ شيءٍ في هذا “الواقع” كممارسة للصّراع من أجل الهيمنة في طرف من الأطراف ، مقابل “المقاومة” المريرة لمحاولات الهيمنة و التّسلّط و الإخضاع ..
وفي هذا “الواقع” تختلط المفاهيم و تخضع في طرف منها لإسقاطات من منطلقات فوقيّة و استعلائيّة ، و في الطّرف الثّاني تخضع لدفاعات متعدّدة ضدّ الاستلابات التي تمارسها القوى العنيفة في تفوّقها ذي الأسباب التّاريخيّة المختلفة ..
و تظهر “الوقائع” ، تحت تأثير الزّخم الإعلاميّ و الدّعائيّ المُركّز ، و كأنّها تحتاج ، بالفعل ، إلى إعادة قراءة أو إعادة نظر في ممارسات “محايدة” للوعي ، و هو ما يجعل المشهد الثّقافيّ شديد الاختلاط و يجنح نحو قطبٍ واحد وحيد على الأرض ، في عمليّة من عمليّات الاستقطاب الواحديّ المتفوّق بالعنف و الخداع التّقنيّ المتفوّق ، فيما تجنح الأكاذيب ل تحتلّ مواقع الصّدق الواقعيّ في قراءة “الحقائق” الواقعيّة ، التي يجري عليها التّزوير الممنهج و طمس تلك التي تشكّل مانعاً جدّيّاً في وضوح صورة الواقع على ما هو عليه بالفعل .
6▪ كانت الحرب على سورية “مناسبة” عمليّة قريبة جدّاً و مثالاً لما تقدّم من تنظير حول التّعسّف الفظّ في استخدام “الوقائع” ، بعد تحليلها المختبريّ الدّعائيّ تحليلاً يقلب صورتها قلباً شاقوليّاً كاملاً ، و طمس بعضها و تزوير بعضها الآخر ، في حرب شديدة الاستقطاب ، نظراً لما كان العدوان على سورية يطمح له وراء هذه الحرب ، من إخضاع سياسيّ كامل للدّولة السّوريّة ، و ذلك بعد تخريبها تخريباً شاملاً و تدمير كلّ ما يمكن تدميره فيها ، في إطار مرافقة الآلة الدّعائيّة الهائلة التي تصنع من الأكاذيب واقعاً حيّاً ، بالصّوت و الصّورة و الفكرة و النّصّ و الخطاب ، بينما تحرم الحقيقة الواقعيّة من الوصول إلى أمكنتها الضّروريّة في وعي الشّعب بفئاته و جماعاته المختلفة ، ناسفة ، بذلك ، كلّ أساسٍ لوضوح الصّورة الذي يُعجّل بالنّتائج الطّبيعيّة التي يجب أن تكون عليها نهايات الحرب كما هي عليه اليوم شاهدة أمام الجميع في زمان النّهايات الوشيكة للصّورة الأوّليّة المشوَّهة التي كانت لهذه الحرب .
بدأت الحرب بتجييش المشاعر الغريزيّة التي تسكن في أعماق الإنسان المعاصر ، عن طريق حشد الرّأي العام العدائيّ للدّولة السّوريّة بحجة أنّ الدّولة غير ديموقراطيّة و تصادر “الحرّيّة” و تقتل شعبها في السّجون و الشّوارع ، و هو ما يشكّل تحدّياً عميقاً لأخلاق العصر التي يجري تسويقها في العالم ” الحرّ ” و في كلّ مكان آخر شهد المدنيّة المعاصرة .
تعاضد مع هذه الدّعائيّة السّياسيّة ، أسطول من المحطّات الفضائيّة العربيّة و الأجنبيّة ، و سُخّرت لها أموالٌ بأرقام فلكيّة لا تخطر على بال الفقراء الذين بدأوا يدفعون أثمان الحرب من حياتهم و دمائهم و استقرارهم و حاضرهم و مستقبلهم منذ الأيّام الأولى للحرب .
لقد تسارعت أحداث الحرب على سورية بفعل حجم التّخطيط المسبَق لها و إنجازها في دوائر التّخطيط العالميّ قبل اندلاعها على الأرض .
و لأنّها حرب الأيديولوجيّات المتصارعة على مستقبل الثّقافة و الهويّة و الانتماء ، تبيّن مبكّراً كيف انحرفت الآلة الدّعائيّة للحرب نحو تزوير المصطلحات و المفاهيم و الكلمات الدّالّة على “الحقائق” ، بما في ذلك تزوير و تشويه الحقائق نفسها بالأسلوب نفسه الذي زُوّرت به الوقائع ، في حرفيّة و تقنيّات معاصرة ربّما استعملت لأوّل مرّة في هذه الحرب ، و هذا ما عكس الأهمّيّة القصوى التي عقدها برابرة الدّمار و التّدمير على مستقبل هذه الحرب الذي اعتبر منذ اليوم الأوّل لها بحكم الحاصل على الأرض .
في كثير من محطات هذه الحرب ، كان “الإعلام” يسبق الصّراع على الأرض في تقرير رغبات تأجيج حرائق الحرب ، مثلما كان قد ظهر بوضوح قاموس مستحدث و جديد من المفاهيم و المصطلحات التي لا سابق لها ، و ذلك في إطار الحرب على “الحقيقة” ، الحرب على “الحقائق” ، و تدمير المضامين العمليّة للحقائق على الأرض ، و حرفها نحو دلالات جديدة تماماً ، بما في ذلك طمس “الحقائق” المستقرّة في المخيال الاجتماعيّ التّاريخيّ و السّياسيّ لمفهوم الهويّة و المواطنة ، و تأليف “حقائق” مزعومة جديدة ، تحلّ كبديل للقيم الثّابتة ، بعد زحزحة تلك المستقرّة و التّشكيك فيها و حذفها ، إن أمكن ..
وهذا ما حصل ، بالفعل ، في الكثير من الحالات التي شهدت تزعزعاً في ثبات القيم و تفكّكاً لأواصر الّلحمة ، التي تجعل من العبارة الوطنيّة حالة ثابتة بمدلول محدّد سابق و غير خاضع لإعادة النّقاش ..
في وقت استطاعت فيه هذه الحرب المصنوعة بإتقان أن تعيد طرح المسلّمات الوطنيّة و القوميّة و الثّقافيّة ، من جديد ، على بساط البحث ، بعد أن كان قد طواها الزّمان – كما يُفترض أن يكون – في عداد البديهيّات و المسلّمات ، وفق أقلّ التّوقّعات السّياسيّة و الاجتماعيّة تفاؤلاً و ثقة بالجغرافيا و التّاريخ و الإنسان السّوريّ .
7▪ بتركيز بسيط على مجريات الحرب يمكن لأيّ مراقب أن يلاحظ تفاصيل استراتيجيّة هذه الحرب المعلنة على سورية ، و أدواتها الظّرفيّة و أساليبها في تنفيذ الاستراتيجيّة ، بدون عناء طويل أو حاجة إلى المرجعيّات التي تؤكّد هذا الواقع الحقيقيّ .
ولكي يكون “الهدف” من الحرب مؤكّداً في تدمير البلد و إفشال الدّولة و سحق المجتمع ، كان لا بدّ من ضخّ ثقافة جديدة بمصطلحات “إنسانويّة” تخفي وراءها توجيهاً و توجّهاً إلى استغنام الحسّ العامّ و الشّعور الشّعبيّ ، بواسطة اختلاق تسمية “المناسبة” مع انتفاء “المناسبة” نفسها ، ممّا يجعل التّفكير العامّ يدخل في بلبلة و ارتباك و ارتياب يُسوّغ له فقدان الثّقة بذاته أوّلاً ، ثم ، ثانياً ، بالخطاب السّياسيّ الوطنيّ .
كان من الواضح أنّ أحد أبعاد الحرب العسكريّة المعاصرة على سورية هو في الحرب على “الحقيقة” ، بوصفها ، هنا ، هي “الواقعة” اليوميّة بكلّ محمولاتها الأيديولوجيّة و التّعبويّة التي دخلت في مواجهة النّقيض . كان على “الحدث” الواحد أن يظهر بمظهرين في الصّراع ، على الأقلّ ..
واحدٌ منهما يُعبّر عن “الواقعة” الحقيقيّة نفسها ؛ و ثانيهما “يجب” أن يعبّر عن تلك “الحقيقة” ، و قد خضعت لأشكال القسر و التّعنيف و التّشويه و التّزوير لكي تبدو مناقضة لذاتها و موحية بعكس محمولاتها ..
وهنا كانت أفظع أشكال الحرب على “الحقائق” و إيحاءاتها العاطفيّة التي تستبذل الخرافة التّاريخيّة لتبتذل تطبيقاتها الاجتماعيّة و السّياسيّة الممكنة ..
وكأيّ شكل من أشكال الحروب “العالميّة” كان من المأمول أن تُفضي تحليلات “الثّقافة” لوقائع الحرب إلى إمكانيّات تجهيليّة كبيرة ، تبعاً لتفاعل الشّعور الجماهيريّ العامّ مع “المظاهر” المنقطعة عن أسبابها ، في عمليّة تاريخيّة تشكّل سبقاً خطيراً في حرف الوعي الجمعيّ إلى هلاكه المدمّر و التّدميريّ في العواطف المتحفّزة ، نتيجة لدخول الحرب في صراع “عصبيّ” و “عنصريّ” يعتمد ، بالدّرجة الأولى ، على الشّعور القطيعيّ الذي يتنامى ، بحكم طبيعة الّلحظة ، في إطار تشويه الإدراك الاجتماعيّ العامّ ، و تشوّه المحصّلات النّاجمة عن هذا الإدراك ، في بوتقة مستحدثة للحقيقة في واقع جرى استبدال الوهم به و جعل من المواقف الجماهيريّة العامّة رهناً بالتّبدّد و الضّلال و الضّياع .
8▪ جرى رهان الحرب على تزوير الحقائق و طمس الوقائع العمليّة انطلاقاً من طبيعة الحروب الإمبراطوريّة المعاصرة التي يستطيع فيها “الفاعلون” خلط الأوراق في تشكيلة “عمليّة” و “واقعيّة” يتداخل فيها الاقتصاد و المجتمع و السّياسة و الثّقافة و التّاريخ .. إلخ ؛ مع العواطف و المشاعر المهشّمة و الجريحة في واقع للحرب ، تمكّن من خلط جميع تلك العناصر في خطاب إعلاميّ و دعائيّ مركّب و معقّد و خطير .
وبالفعل فقد كاد الأمر أن ينجح في هولِ الصّدمة الأولى للصّراع ، الذي فقد سمته الحقيقيّ في الأعمال و الأفعال الافتتاحيّة للحرب .
كان الأمر مؤسفاً في بداياته ، و قد استغرقت “الحقيقة” الفعليّة ، حتّى تظهر بوضوح الكثير من الوقت و الجريمة و التّذابح على مستوى العامّيّات الأولى التي استغرقت البدايات ..
و لقد كان لا بدّ من مسافة زمنيّة ملحميّة و مأساويّة ، تستغرق الأطراف المتصارعة حتّى يستقرّ مشهد الانقسام الحقيقيّ و الواقعيّ ، الذي نضج بعد سلسلة من التّضحيات المجانيّة الأولى التي استغرقتها أحداث الحرب ..
و كان لا بدّ من الكثير من الاختلاطات الفرديّة و الجمعيّة و الجماعيّة ، حتّى يتبيّن الصّراع “الحقيقيّ” في أطرافه المختلفة المحلّيّة و الإقليميّة و الدّوليّة ، و ليُبرز بوضوح طابع هذه الحرب المركّبة الظّلاميّة العاتية .
9▪ لا نقول شيئاً جديداً عندما نؤكّد طبيعة الحروب عبر التّاريخ ، و أنّ الحرب على “الحقيقة” – و ليس من أجل الحقيقة – هي جزء من الحرب و أساليب الحرب المتعدّدة و أداء الحروب و أدواتها التّنفيذيّة ، لإنجاز أغراضها و مراحلها نحو أهدافها و غاياتها ، إذ ما من حرب إلّا و لها غايات و أهداف ، منها ما هو معلن و منها ما هو ضمنيّ يتعلّق بأهداف المنخرطين فيها ، مع تباين أهدافهم و اختلافها و تناقضها الضّمنيّ أو الصّريح ، في سياق ترسيخ القناعات و إحداث قناعات أخرى تمثُل في أفق المعركة على المعتقدات و المصالح و الصّراع على المغزى الذي يُمثّل العقائد و الأيديولوجيّات المتطاحنة ، في عمليّات فرض الوقائع و المقاومات التي تتخلّل المواجهات و التّحدّيات ، التي لا تنتهي معها الحرب إلّا بتثبيت بعضها على الأرض و تحطيم بعضها الآخر ، و جعله من مخلّفات نتائج الصّراع الشّاهدة على الهزيمة أو الانتصار .
وهكذا يدخل في عداد النّتائج النّهائيّة للصّراعات و الحروب ، أن تنتصر رؤية سياسيّة لطرف من الأطراف على باقي الرّؤى الأخرى التي شكّلت مضامين النّزاع و مفاعيل الطّاقة ، التي جعلت الحرب ممكنة في الاستمرار كحالة من تحدّي الإرادات و القناعات و التّصوّرات المختلفة ، و في سياقه أن تظهر حقائق جديدة أو أن يجري التّأكيد على حقائق قديمة ، كان كلٌّ منها كافياً لجعل الواقع الأوّليّ قابلاً لتناقضاتها و مواجهاتها ، في عمليّة من عمليّات إثبات وقائع متغيّرة تمثّل الحقائق التي جرت من أجل انتقائيّتها عمليات الصّراع ، بحيث يؤدّي ذلك إلى القناعة الأخيرة بأنّ المنتصر هو صاحب الحقيقة الأقوى و الأكثر تمثيلاً للواقع الاجتماعيّ و السّياسيّ ، الموافق لحركة القوى و اتّجاهاتها التّاريخيّة و ميولها الأنضج و الأوضح و الأكثر استحقاقاً ، لفرضها على دونها من سائر الأخريات من القوى و القناعات و الإيمانات و المعتقدات .
10▪ أخيراً ، و هو الأهمّ ؛ و في إطار تبادل طمس الحقائق و المساهمة الذّاتيّة في الّلعبة السّياسيّة و التّصرّف الاختياريّ في التّخلّي عن “الحقائق” و العبث بِ”الوقائع” و إبراز عكسها أو تمويهها خدمة لأغراض و أهداف مرحليّة و قاصرة عن فرز الخلائط الأيديولوجيّة و المصالح التّاريخيّة المتمايزة ..
يجب أن نقول إنّ “التّسويات” العقائديّة و السّياسيّة و الاجتماعيّة ، ما بين “الوقائع” و “الحقائق” المتناقضة ، و التي جرى الصّراع من أجل إزاحة بعضها و تثبيت بعضها الآخر ، إنّما تُعدّ جزءاً من التّراجعات المتبادلة و التّواطؤات الضّمنيّة و العلنيّة و التّواضعات الظّرفيّة الكاذبة في مجريات الصّراعات التّاريخيّة على “الحقيقة” (أو “الحقائق”) ، و جزءاً من التّردّدات التّاريخيّة التي تمثّل تراجعاً مشتركاً ، و في وقت معاً ، للتّناقضات ، بما في ذلك تأجيل الحسم التّاريخيّ ، الاجتماعيّ و السّياسيّ ، لمفاعيل نتائج هذه التّناقضات التي ، بطبيعتها ، لا يمكن لها الاجتماع الدّائم ، جنباً إلى جنب ، و المصالحات الاستراتيجيّة ..
وهو ما يعني ، بالتّحديد ، قبول جميع الأطراف بالمساومات التّاريخيّة ، في التّوافقات السّياسيّة المؤقّتة ، و هذا يُحيلنا ، بطبيعته ، إلى “تأجيل” التّفوّق الحاسم لحقائق دون أخرى ، و لقناعات مؤقّتة بطبيعتها ، حاملة في رحمها جمر اشتعالها في أوّل مناسبة من مناسبات اختلال موازين القوى التّاريخيّة ، لصالح طرف من الأطراف ، دون أطراف أخرى ..
وهو ما يجعلنا نضع احتمال “موعدٍ” قادم مع تأجيج “الحرب” من جديد ، في صراعات مقبلة ، لا يُمكن لها الصّمت الدّائم في التّسويات الظّرفيّة التي ستكون قد شكّلت حلّاً تاريخيّاً ناقصاً و كاذباً و هشّاً ، لا يمكن أن يصمد أمام تطوّرات “حقائق” الواقع و “معقوليّاته” التي تشقّ طريقها ، دوماً ، إلى التّبلور النّهائيّ الذي يجعل من استعادة الصّراع أمراً حتميّاً في تفاعل أسبابه ، المرتبط بتطوّرات تاريخيّة لا يمكن للتّاريخ ان يسكت عنها في مرحلة من مراحل دوافعه ، التي لا يمكن لها ان تبقى طيّ التّواطؤ و الصّمت و التّنازلات المتبادلة عن آليّات التّغيّر و التّغيير الموضوعيّة ، و التي لا تستأذن الرّغبات عندما يحين أوانها ، عند نضوج حاملها الاجتماعيّ و السّياسيّ ، أو عند العكس ، و أعني عندما يتسنّى لطرف من الأطراف أن يُشوّه ، نهائيّاً ، حوامل الصّراعات في عمليّة من عمليّات التّزوير المأساويّة للتّاريخ ..
وهذا هو الجانب الأخطر في تمييع الحدود ما بين التّناقضات النّاضجة ، و طمس الحقائق و تزوير آليّات و جبهات الصّراع ، و التّضحيّة بالّلحظة المناسبة للفرز التّاريخيّ النّهائيّ في “المواقف” المتناقضة و المتناحرة تاريخيّاً ، و تقديمها في إخراج اجتماعيّ – سياسيّ جديد يوحي بالمصالحة التّاريخيّة ما بين المتنافرات الاستقطابيّة ، و هو ما يُعتبر أشدّ خطراً من الحرب على “الحقائق” و التّنازع على “الوقائع” ، و الذي يؤدّي في خاتمة الصّراع الصّميميّ إلى إظهار هذا الصّراع على أنّه صراع ظرفيّ و موسميّ ، في الوقت الذي يؤسّس فيه هذا الأسلوب من المساومات إلى إعادة تحضير و إنتاج الجذور و أسباب الصّراعات التّاريخيّة التي ستظهر ، في حينٍ لا يعود من الممكن تسويتها تسوية “عاطفيّة” ، فيما تنذر بأشدّ أشكال احتدام الصّراع دمويّة و إجراماً ، لا يُخفّف منها جميع الحلول الودّيّة المؤجّلة لانفجارها انفجاراً شاملاً لا يمكن التّكهّن بحدوده و أدواته و أساليبه و دوافعه ، التي تكون قد تكيّفت مع حاجاته القصوى لإنجاز الفاجعة التّاريخيّة التي ليس لأحد عليها سيطرة أو إمكانيّة ما للتّحكّم بها أو حرفها عن طريق الجريمة الكاملة المؤدّية ، حينئذ ، إلى انتحار الجميع .
التعليقات مغلقة.