كواليس الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصّين / الطاهر المعز




نتيجة بحث الصور عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصّين

الطاهر المعز ( تونس ) الأحد 16/12/2018 م …

اعتقلت شرطة كندا، يوم الأول من كانون الأول/ديسمبر 2018، “منغ وانزهو”، ابنة مؤسس شركة “هواوي” الصينية لتقنيات الإتصالات، ومديرتها المالية، بناء على طلب من الولايات المتحدة، بتهمة “التحايل على مصارف متعددة الجنسيات والإلتفاف على العقوبات ضد إيران، وبيع منتجات تحتوي مكوِّنات أمريكية إلى شركات إيرانية”، وذلك بعد أيام قليلة من اتفاق الرئيسيْن الصيني والأمريكي، من اتفاق هدنة، مُدّتُهُ ثلاثة أشهر، وأدّى الإعتقال إلى موجة من تراجع مؤشرات الأسهم في البورصات العالمية وخصوصا موشرات الأسهم الأمريكية (ناسداك وداو جونز وستاندرد آند بورز) يوم الإثنين 10/12/2018، وكانت قد شهدت نهاية الأسبوع السابق أسوأَ أسبوع لها منذ شهر آذار/مارس 2018، واعتبر المُضاربون والمُستثمرون اعتقال مديرة “هواوي” مؤشِّرًا على “تجدد التوتر التجاري الأمريكي الصيني”، رغم لقاء الرئيسَيْن مُؤَخَّرًا، ومن المعروف إن رأس المال يبحث عن الربح الأقصى، بحد أدنى من المخاطرة، لكن وضع الإقتصاد العالمي يَتّسِم بالضّبابية وبالتباطؤ، كما انخفضت أسهم شركات التكنولوجيا، وأسهم شركات “فيسبوك” و “أمازون” و “نيتفليكس” و”ألفابيت” (الشركة الأم ل”غوغل”) و”أبل”، كما تراجعت أسعار الأسهم في أسواق المال الأوروبية، بالتزامن مع اعتقال مديرة “هواوي” وعدم وضوح الرؤية في بريطانيا حول اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي (بركسيت)، وهبطت قيمة الأسهم في آسيا، خصوصًا في الصين (شنغهاي) واليابان (طوكيو)… نُشير إن “منغ وانزهو” المديرة المالية ل”هواوي” لم تكن مقيمة أو نازلة في كندا، بل كانت تُبَدّل رحلتها الجوية من طائرة إلى أخرى (ترَنْزِيت)، مما يُظْهِرُ خطورة هذه الخطوة، وعمق أثرها في العلاقات بين الصين وأمريكا الشمالية وأوروبا…

خلفيات الإعتقال:

ذكرنا مرات عديدة إن الراسمالية الصينية لم تزدهر “في غفلة من الإحتكارات الإمبريالية الأمريكية والأوروبية”، مثلما يزعم بعض الأصدقاء، وإنما ازدهرت، بتفادِي منافسة الشركات الأمريكية والأوروبية، في المكان (البلدان الفقيرة)، كما تفادت الحكومة والشركات الصينية منافسة المنتوجات والقطاعات الأوروبية والأمريكية في آسيا وإفريقيا، ثم في أمريكا الجنوبية، واكتفت بإنتاج كميات كبيرة من السلع رديئة، منخفضة الجودة، ورخيصة الثمن، ويُنتج هذه السلع فلاحون صينيون وقع تهجيرهم من الأراضي التي كانوا يستغلونها، فهاجروا إلى ضواحي المدن الصناعية، ليعملوا بدون أي حُقُوق ولا تأمينات…

لما بدأت شركات الصين (الحكومية والخاصة) تنافس الشركات الإحتكارية الأوروبية والأمريكية في مجالات الإبتكارات والتكنولوجيا، ذات الأهمية الإستراتيجية، وذات القيمة الزائدة المرتفعة، بدأت الحملة الإعلامية المُنَظّمة بخصوص حقوق الإنسان، قبل سنوات، ثم أصبح الهجوم يشير صراحة إلى “مخاطر التكنولوجيا الصينيّة”، التي قد تستخدمها حكومة الصين للتجسُّس، ولكن الأحداث أظهرت تجسس الحكومة الأمريكية على كافة حلفائها، وعلى سُكان العالم قاطبة، وأظْهرت ضغط الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الشركات لتُسَلِّمها بيانات مئات ملايين الزبائن، الذين سَدَّدُوا ثمن “خدمات” شركات الحواسيب والهاتف وخدمات الإتصال، وغيرها، لتقوم الحكومة الأمريكية بانتهاك السّرّية المَزعومة لبياناتهم الشخصية، وقد يحصل نفس الأمر مع حكومة الصين، لكن لا يزال الأمر موضوع شك، أما ما هو مؤكّد فإن هذه الحملة الإعلامية وهذه الحرب تتجاوز “الحرب التجارية”، لتتحول إلى حرب إقتصادية (أوْسَعَ من التجارة)، وتشمل استهداف قطاعات عديدة من اقتصاد الصين، وكذلك الشركات الخاصة القادرة على منافسة الشركات الأوروبية والأمريكية في مجالات احتكرتها لحد الآن، وأصْدَرت الولايات المتحدة قرارات مخالفة لحرية التجارة ولمبادئ الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي، ومن بينها قرار بِمَنْعِ الوكالات الحكومية الأمريكية من استخدام الهواتف المحمولة التي تُنْتِجُها الشركات الصينية، متذرعة بضرورات “أمْنِيّة”، وتستعد الحكومة الأمريكية لاتخاذ قرار آخر، يمنع استخدام كل المعدّات التي تحوي مكوّنات صينيّة، ويعني ذلك إقصاء الصين بالكامل من سلسلة انتاج هذه الشركات…

أصدرت حكومات البلدان المُتَذَيِّلَة لأمريكا وهي عضوة في حلف شمال الأطلسي وبها قواعد عسكرية أمريكية (أستراليا، كندا، بريطانيا…) قرارات مماثلة، وبسرعة غريبة، مما يُبَيِّنُ إن اتفاقًا حصل قبل إعلان هذه التّدابير الحمائية المُعادية لكل ما هو صيني، فأصدرت استراليا (التي لا تحتاج تعيين وزير خارجية، فمواقفها، مثل كندا ونيوزيلاندا، لا تحيد عن قرارات أمريكا) قراراً يمنع تركيب شبكات “ج 5 ” للبث الخليوي، على أراضيها (الأراضي التي استعمرها واستوطنها البيض الأوروبيون، بعد قتل وإقصاء السكان الأصليين)، عبر شركات صينيّة، وأصدرت حكومة “نيوزيلاندا” قرارًا مماثلا، وتتهيأ بريطانيا ودول أوروبية أخرى لإصدار قرارات مماثلة، كصَدى للحرب الأمريكية التي تهدف منع الصين من التطور في مجالات تقنيات الإتصالات، ومنعها من منافسة الشركات الأمريكية والأوروبية في مجال التقنيات المتطورة، وفق معايير سياسية، وليس وفق معايير تجارية، يُفْتَرَضُ أن تعتمد قانون العَرْض والطّلَب…

مكانةهواويفي الإستراتيجية الصينية:

تصنع شركة “هواوي” الهواتف الموصوفة ب”الذّكية”، وتجاوزت شركة “آبل” في هذا المجال، لتصبح ثاني أكبر بائع عالمي لهذا الصنف من الهواتف، بعد مجموعة “سامسونغ” (كوريا الجنوبية)، وهي إحدى أكبر الشركات العالمية في مجال بناء شبكات الاتصالات في العالم، وتفوقت على منافستها الأميركية “سيسكو”، في مجال تصْمِيم وإنجاز البُنْيَة التحتية للشبكات، وتخطّط للهيمنة على مجال تصميم الشرائح “الذكية” والمعالجات المتقدّمة، كجزء من كسب السّبق في عملية استخدام التقنيات المتطورة لتعميم الجيل الخامس (ج – 5)، عالي السّرعة، الذي يتطلّب استثمارات ضَخْمَة، لا تقدر على توفيرها معظم الشركات المنافِسَة على مستوى العالم…    

تُمثّل “هواوي” إحدى أكبر الشركات الصِّينِيّة، في المطلق، وإحدى شركات التقنيات المتطورة، إلى جانب شركات “علي بابا” و”بايدو”، وهي إحدى أكبر الشركات العالمية في مجال تكنولوجيا الإتصالات، وإحدى ركائز التطور التقني في الصين التي تستهدف حكومتها إنجاز برنامج “صنع في الصين” سنة 2025، ضمن خطة غزو العالم بالإنتاج الصيني المتطور، عالي الجَوْدَة وذي القيمة الزائدة المُرْتَفِعَة، ولكن الولايات المتحدة تبذل قُصارى جهدها لمَنْع إنجاز هذا البرنامج، عبر فَرْض العقوبات، وعبر حَظْر استخدام الشركات الصينية للمُكونات والتقنيات الأمريكية، وكانت الحكومة الأمريكية قد منعت سنة 2015 (خلال فترة رئاسة “باراك أوباما”) شركة “إنتل” الأمريكية من بيع الرقائق للصين، وحَرمَت الصين من شراء شركة “إكسترون” الألمانية، لحرمانها من امتلاك بعض أنواع التكنولوجيا العالية، أو في أسوأ الحالات، تأخير إنتاج الصين لهذه التقنيات…

هل يُعيد التاريخ نفسه؟

يَدْرُس الباحثون الصينيون أوجُهَ الشّبَه بين الحملة الحالية، وحملة أوروبا ضد الصين، خلال القرن التاسع عشر، عندما أجبرت أوروبا الصين على “الإنفتاح”، أي وضع حَدٍّ لتحكّم الدولة (الصينية) بالتجارة، والإشراف على حجم ونوع الصادرات والواردات، وأجبرت القوى الإمبريالية “الغربية” الصاعدة الصِّينَ على قبول دخول كميات كبيرة من السلع، وعلى رأسها الأفيون، وبذلك تحولت المناطق الحَضَرِية الصينية إلى مُسْتعمرات وأسواق لاستهلاك السلع الأوروبية والأفيون، مما دَمّر اقتصاد البلاد، ومما أدى إلى انهيارها واحتلالها من قِبَلِ اليابان فيما بعد…

توصّلت مراكز البحث الصينية إلى استنتاج مفاده تشابه القرارات والممارسات الأمريكية الحالية مع الخطوات التي اتخذتها أوروبا ضد الصين، بين القَرْنَيْن الثامن عشر والتاسع عشر، تمهيدًا للهيمنة عليها، وللإطاحة بإمبراطوريتها، رغم اختلاف المرحلة والعَصْر، لأن الولايات المتحدة تحاول فَرْض تقسيم عالمي للعمل، عبر محاصرة الصين (وأي قوة منافسة أخرى)، ومَنْعِها – من خلال العقوبات ومن خلال العَزْل- من اكتساب الخبرات، وتطوير الصناعات الدقيقة والتقنيات المتطورة في القطاعات الرائدة التي يتوقّع أن تتحكم باقتصاد العالم، بعض بضع سنوات أو بضعة عقود (ما يُسمّى “الإقتصاد الرّقمي”)…

آفاق غير مُطَمْئِنَة:

تكمن نقاط ضعف الصين في تبعية قطاعها التكنولوجي للخارج، وإنفاق مبالغ طائلة، لاستيراد الرقائق الإلكترونية المتطورة، من الولايات المتحدة ومن كوريا الجنوبية ومن تايوان وغيرها، ويرمي مخطط “صُنع في الصين” إلى وضع حد لهذه التّبعية خلال عقد واحد (من 2016 إلى 2025)، فيما يرمي المخطط الأمريكي إلى إلغاء، أو تأخير إنجاز هذا البرنامج الطّموح، ومحاصرة الصين عسكريا واقتصاديا، لإطالة أمد الهيمنة الأمريكية، التي اتّسع حيزها منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، أما الصين فإنها عملت ما في وسْعها لعدم استفزاز الولايات المتحدة، والرّد على الحصار الأمريكي بمشروع الحزام والطّريق، الذي تحاول الصين من خلاله استباق تحويل أمريكا “الحرب الباردة” إلى “حرب فاترة”، ولربما ساخنة، في مرحلة أخرى…

عملت حكومة “باراك أوباما” على المحافظة على التفوق الأمريكي في المجالات العسكرية والإقتصادية والتجارية والتكنولوجية، وعمدت الحكومة الأمريكية الحالية  إلى تصعيد اللهجة مع كافة دول العالم، باستثناء الكيان الصهيوني، وقد تتحول الحرب التجارية – بالإضافة إلى تنصّل الولايات المتحدة من كافة الإتفاقيات متعددة الأطراف، لتعوضها باتفاقيات ثُنائِية لا تخدم سوى مصلحتها – إلى حرب مواقع من أجل النفوذ في العالم، وربما إلى حرب حقيقية، لمَنْع الصين من تشكيل ثِقَل اقتصادي قادر على مواجهة أو منافسة الولايات المتحدة، في ظل تحول مركز ثقل الإقتصاد العالمي، من أوروبا وأمريكا، إلى آسيا…

كان الحلف الرأسمالي يأمل تحول دول أوروبا الشرقية – ومن بينها روسيا -، والصين إلى الرأسمالية الليبرالية، لكن مع بقائها في موقع المُسْتهلك، وليس في موقع المُنْتِج والمنافس، في الأسواق العالمية، فانتقل الجميع إلى الرأسمالية الليبرالية (بدل رأسمالية الدولة أو الرأسمالية المُوَجَّهَة)، وبقي اقتصاد الصين يعتمد على استثمارات الدول الرأسمالية المتطورة، التي حولت الصين إلى ورشة لتصنيع المواد الرخيصة، برواتب منخفضة وتصدير هذه السلع نحو اليابان وأوروبا وخصوصًا للولايات المتحدة، حتى أزمة 2008 – 2009، إذ قررت خلالها حكومة الصين التوجه نحو التّنمية عبر الإستثمار والإستهلاك الدّاخلييْن (وهي إحدى ركائز نظريّات “جون مينارد كينز”)، وكثّفت الصين من الإستثمار في التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، خلال العقد الذي تَلا الأزمة الإقتصادية العالمية (2008) وأعلنت الحكومة الصينية إنها تعمل على بناء نموذج قوي للتنمية قبل حلول سنة 2050، عبر تكثيف الإستثمار داخليا في التكنولوجيا المتطورة، وعبر مبادرة “الطريق والحزام” على مستوى العلاقات الإقتصادية الدّولية…

في الوطن العربي، لم تستثمر الأُسر المالكة لمشيخات الخليج عائدات النفط في تنمية البلاد، ولم يحصل خلاف حول نمط التنمية أو حول الآفاق الإقتصادية، بل بدّدت هذه الأسر الحاكمة إيرادات النفط في شراء السلاح الأمريكي، وأنفقت أموالا طائلة على تدريب وتسْلِيح مليشيات إرهابية لتفتيت البلدان العربية (حَصْرِيًّا)، أما على الصعيد السياسي فقد انطلق السباق نحو التّطْبِيع المجاني مع العدو الصهيوني، بل والتحالف معه ضد العرب (في سوريا ولبنان وفلسطين) وضد المسلمين (في إيران)، وتدعم جميع هذه الأسر الحاكمة الولايات المتحدة ضد بقية العالم، فيما تعمد أمريكا على ابتزاز حُكّام العرب، الذين لا يستغلون فرصة خلاف أمريكا مع الصين وروسيا وغيرها، لتوسيع هامش حرية الحركة، وذلك لسبب بسيط، يتمثل في إن جميع هؤلاء الحُكّام يقومون بدور وظيفي، في خدمة الإمبريالية والصهيونية… البيانات والأرقام من مجلةإيكونوميست” + رويترز + بلومبرغ + صحيفةلابريس” (كندا) 01 و08 و10/12/18

 


قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.