الأصول الحقيقية لتنظيم “داعش”




الأحد 16/12/2018 م …

الأردن العربي – حسن حسن – (مجلة الأتلانتيك)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة …

تشير سيرة سرية نُشرت حديثاً إلى أن أبو علي الأنباري هو الذي وضع معالم النهج المتطرف للتنظيم أكثر من أي شخص آخر.
* * *
يتفق معظم المؤرخين الذن كتبوا عن تنظيم “الدولة الإسلامية” على أن المجموعة ظهرت من تنظيم “القاعدة في العراق” كردة فعل على الغزو الأميركي في العام 2003. كما أنهم يتفقون أيضاً على أن الذي أسس المجموعة في الأساس هو الجهادي الأردني والرئيس التالي لتنظيم “القاعدة في العراق”، أبو مصعب الزرقاوي. وكانت للأردني رؤية قاتمة؛ فقد أراد أن يثير حرباً أهلية بين السنة والشيعة وإقامة خلافة إسلامية. ومع أنه قُتل في العام 2006، فإن رؤيته تحققت في العام 2014 –السنة التي اجتاح فيها “داعش” شمال غرب العراق وشرق سورية.
غالبا ما تركز الروايات حول أيديولوجية “داعش” على حقيقة أن الزرقاوي وأسامة بن لادن، وكلاهما متطرفان سُنيان، اختلفا حول مسألتي محاربة الشيعة والتكفير. وتقول القصة أن مثل هذه الخلافات تعززت في العراق وأفضت في النهاية إلى حدوث انقسام بين “داعش” والقاعدة. وعلى أساس هذه المجموعة من الفرضيات، استنتج الكثيرون أن الزرقاوي يجب أن يكون هو الذي قدم الإطار الفكري لتنظيم “داعش”.
لكنني أصبحت متشككاً في هذه الرواية السائدة في الآونة الأخيرة. ويمكن القول بأن الأساس النظري لتنظيم “داعش” كان قد وُضع قبل وقت طويل من الغزو الأميركي. وإذا كان ثمة شخص واحد يمكن اعتباره مسؤولاً عن طرق عمل المجموعة، فقد كان عبد الرحمن القادولي، العراقي من محافظة نينوي، والمعروف أكثر باسمه الحركي، أبو علي الأنباري –وليس الزرقاوي. كان الأنباري، الرجل الثاني بعد الزرقاوي خلال السنوات التي قضاها في تنظيم القاعدة، هو الذي حدد نهج “الدولة الإسلامية” المتطرف أكثر من أي شخص آخر؛ وكان تأثيره أكثر منهجية، وأطول أمداً، وأكثر عمقاً من تأثير الزرقاوي.
قبل شهر من الآن، حصلتُ على وثيقة من 93 صفحة، والتي تروي قصة حياة الأنباري، وكذلك المشهد المتطرف الذي أحاط به في عراق التسيعينيات. وكتب ابن الأنباري، عبد الله، سيرة حياة والده من أجل الاستخدام الداخلي لـ”الدولة الإسلامية”، والتي كان التنظيم قد نشر جزءاً منها في مجلته العربية الأسبوعية، “النبأ”، في العام 2016، بعد فترة قصيرة من مقتل الأنباري. وفي الآونة الأخيرة، نشر معارضون من داخل “داعش” الوثيقة كاملة على إحدى وسائل الإعلام الاجتماعية، وبذلك صادفتها. وقال عبد الله أن هذه السيرة اعتمدت على 16 عاماً من العمل عن قرب مع والده، وعلى مذكرات احتفظ بها الأنباري، وروايات مباشِرة عن الأنباري من زملائه من أعضاء “داعش”.
وبالإضافة إلى السيرة التي كتبها عبد الله، أعتمدُ هنا أيضاً على سلسلة من المحاضرات التي كان الأنباري قد ألقاها في العامين 2014 و2015، وعلى ملاحظاتي التي جمعتها من مقابلات كنتُ قد أجريتها مع أعضاء من التنظيم ومن الثوار السوريين. وبشكل عام، أصبح واضحاً لدي أن الزرقاوي هو الذي تأثر على الأرجح بالأنباري، وليس العكس.
وُلد الأنباري في شمال العراق في العام 1959 لعائلة تركية من أصول عربية وأرمينية. وكانت أسرته متدينة. ويخبرنا عبد الله بقصة من طفولة الأنباري، عندما أراد الأنباري الصغير أن يشتري حماماً. وقال له أبوه أن عليه أن يسأل الإمام المحلي عما إذا كانت تربية الحمام مقبولة من منظور الشريعة الإسلامية. وأخبره الإمام بأنها عادة “شيطانية”، ولذلك تخلى عن الفكرة. (في بعض الدول العربية، لا تُقبَل شهادة مربي الحمام في المحكمة؛ ويربطهم العرب بعدم الأمانة، حيث يُعتقد أن عملهم يتضمن سرقة الحمام الذي يملكه الآخرون ثم الكذب بشأنه).
درس الأنباري الشريعة الإسلامية بعد أن أكمل دراسته الابتدائية، في معهد في شمال مدينة تلعفر العراقية. وتخرج من جامعة بغداد في العام 1982 بدرجة في الدراسات الإسلامية. (يتقاسم بذلك شيئاً مع زعيم “الدولة الإسلامية” الحالي، أبو بكر البغدادي). وبعد التخرج، انضم إلى الجيش العراقي، وخدم فيه سبع سنوات، وقاتل في الحرب العراقية-الإيرانية. وكتب ابنه: “حصل على تدريب عسكري وديني، في مزيج نادر”.
بعد خدمة الأنباري العسكرية، كما ورد في السيرة، تم تعيينه لتدريس الشريعة في بلدة صغيرة متنوعة سكانياً تُدعى مجمع برزان. وفي أحد الأيام، دعا شخص غني من البلدة بعض الغجر –جماعة عرقية تشبه الروما في أوروبا- لإقامة خيمة وإحياء حفل بالموسيقى والرقص. وأغضبت الأخبار الأنباري؛ وبدت له الحفلة تدنيساً كبيراً. وعرض منح 10 علامات إضافية لأي طالب لا يحضرها من طلبته، لكن ذلك لم يكن كافياً. وفكر الأنباري في قتل الغجر، لكنه لم يكن يملك بندقية. وعندئذ طلب من أحد طلبته أن يجلب له البنزين، مع نية القيام بإحراق الغجر أحياء في خيمتهم. وفي نهاية المطاف، ألقى ببساطة موعظة ضد الغجر والاحتفال المدنس المخطط له. وتحت ضغط كثيف، قام راعي الحفلة الثري بإبعاد الغجر. لكن الحادثة جعلت الأنباري يفكر: ثمة شيء ما خطأ في حكومة تفكر حتى مجرد تفكير بالسماح بمثل هذا الحدث.
في أواسط التسعينيات، انتقل الأنباري عائداً إلى تلعفر، وهي مدينة مختلطة من الشيعة والسنة. وتم تعيينه في مدرسة محلية في واحد من أكبر الأحياء الشيعية في المدينة، حي الخضراء، وأصبح فيما بعد إماما في مسجد مجاور. واستخدم المنبر لمهاجمة الشيعة والصوفيين باعتبارهما طوائف منحرفة.
وفي وقت لاحق من ذلك العقد، انضم إلى منظمات جهادية كردية في الشمال. وتشرح السيرة أنه كان قد تأثر بالمواد الجهادية، بما في ذلك المواعظ الصوتية القادمة من أفغانستان والشيشان. وطور علاقات مع ثلاثة رجال أصبحوا فيما بعد جهاديين بارزين. أحدهم قتلته قوات البشمرغة الكردية في الموصل في الأيام الأولى من الحرب العراقية، وأصبح الاثنان الآخران قائدين كبيرين في تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، كما كان يُعرف “داعش” من العام 2006 وحتى توسعه إلى سورية في العام 2013.
حول وقت هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، حلّقت مستويات دعم الجهاد في العراق. وكان نجاح تلك الهجمات، بطبيعة الحال، أحد العوامل وراء ارتفاع هذا الدعم في فترة ما قبل الغزو –لكنه لم يكن العامل الوحيد. ففي أعقاب حرب الخليج في العام 1991، أطلقت حكومة صدام حسين ما سُميت “حمل الدين الإسلامي”، التي عززت أسلمة المجال العام. وقبل سبعة أشهر من الهجمات، عبأت الحكومة العراقيين وحثتهم على الانضمام إلى “جيش القدس” المكون في أغلبه من متطوعين، والذي كانت له مهمة واضحة هي طرد اليهود من المدينة المقدسة. وكان أبو ماريا القحطاني، وهو واحد من مؤسسي تنظيم القاعدة في سورية، قد أخبرني ذات مرة بأن خطاب صدام حسين المناهض للأميركيين حفز الكثيرين على القتال ضد النفوذ الأميركي قبل الغزو اللاحق. وقد تدرب القحطاني نفسه على يد نظام صدام حسين على تنفيذ مهمة انتحارية محتملة في إسرائيل.
انجرف الأنباري مع هذه الاتجاهات. وبعد هجمات 11/9، أسس بعض من طلبته السابقين “نواة إمارة” –نوعاً من شبه دولة إسلامية بدائية- في شمال العراق. وتلقى الطلبة تدريباً على سفوح التلال المحيطة بتلعفر على يد شخص مقرب من الأنباري يدعى إياد أبو بكر.
بالإضافة إلى تحفيز النزعة الجهادية، يبدو أن هجمات 11/9 استقطبت الحس الديني في العراق. وشرع الجهاديون ذوو العقليات المشابهة لعقلية الأنباري في رؤية المنافسين الإسلاميين، بمن فيهم جماعة الأخوان المسلمين، كأعداء –وهو موقف سيصبح عنصراً بارازاً في أيديولوجية “الدولة الإسلامية”. ونظر الأنباري إلى اعتناق الإخوان المسلمين الأعراف السياسية ورفضهم تنظيم القاعدة على أنه خيانة. كما يظهر موقفه من الإخوان المسلمين أيضاً في محاضراته الصوتية، والتي يشير فيها إلى أعضاء الجماعة بأنهم “إخوان الشيطان”.
درس الأنباري وتأثر بمجموعة جديدة من الكتب الجهادية التي كان يتم تداولها في عراق ما بعد 11/9، وخاصة تلك من تأليف معلِّم الزرقاوي في السجن، أبو محمد المقدسي، وكذلك كتب عبد القادر بن عبد العزيز، وهو منظر جهادي مصري. وهذه المواد، كما كتب ابنه “صقلت مفاهيم الشيخ” و”صححت عقيدته” حول شؤون مثل الردة واعتماد القوانين الوضعية. وهكذا، رفض رجل لم يعتنق فكرة التحديث أبداً هذا المفهوم باعتبار أنه محرّم تماماً في الإسلام.
ما آمل أن أوضحه الآن للقراء هو أن آراء الأنباري المتطرفة، التي عكسها “داعش” فيما بعد، كانت قد تكونت قبل الغزو الأميركي للعراق –وقبل أن يتلقي الزرقاوي.
وفقاً للسيرة التي كتبها عبد الله، وصل الزرقاوي إلى شمال العراق من أفغانستان في ربيع العام 2002. والتقى به الأنباري بعد شهر لاحقاً في بغداد، حيث كان الزرقاوي في ضيافة مبعوث للمجموعة الجهادية الكردية، “أنصار الإسلام”، والذي كان صديقاً للأنباري. (هذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها منشور لـ”داعش” بأن الزرقاوي كان موجوداً في بغداد قبل الغزو الأميركي. (في وقت سابق، زعم البعض بأن هذا التسلسل الزمني كان مزيفاً أو مسيساً –كجزء من محاولات إدارة بوش تبرير الحرب عن طريق ربط الزرقاوي بنظام صدام حسين). وخلال هذه الفترة، تنقل الأنباري بين وسط وشمال العراق بهدف تسهيل النشاطات الجهادية. وتقول السيرة التي كتبها عبد الله: “كانت التحضيرات للجهاد تنضج، من حيث التمويل، والرجال والسلاح. وكل هذا كان يحدث تحت حكم البعث”.
شمل “كل هذا” تحويل مجموعة “الدولة الإسلامية” إلى الاحتراف في فترة ما قبل الغزو، حيث عكف بعثيون سابقون، من الذين “تابوا” قبل الحرب، على تنظيم مجندين جدد. وقام أبو مسلم التركماني، الذي كان ذات مرة عقيداً في جيش صدام ثم لاحقاً الرجل رقم 3 في هيكلية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، بتدريب مجموعة جهادية مناهضة لصدام، والتي وُضِعت في ذلك الحين تحت قيادة الأنباري. وقام رجال الأنباري والتركماني بتصنيع كواتم الصوت والقنابل البدائية للزرقاوي.
عندما غزت الولايات المتحدة العراق في العام 2003، قاد الأنباري والزرقاوي مجموعتين مختلفتين، واللتين لم تكونا قد أصبحتا بعد تنظيم “القاعدة في العراق”. (توحدت المجموعتان في العام 2004، حيث أصبح الأنباري نائباً للزرقاوي). وهناك قدر كبير من الأدلة على أن الأنباري، وليس الزرقاوي، هو الذي وضع إيقاع حركة المتطرفين، ودفع بالسياسات التي سوف تميز “داعش” فيما بعد.
بعد وقت قصير من الغزو، استهدفت مجموعة الأنباري في تلعفر أي شخص يُعتبر مهرطقا أو معرقلا لعمل الجهاديين؛ فهاجمت الشيعة، وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، والمخبرين المحليين بغض النظر عن القبيلة التي ينتمون إليها.
وعلى النقيض من ذلك، تطلب الأمر سنة أخرى حتى يعتنق الزرقاي هذه الرؤية الطائفية المتطرفة. وبعد أن تعهد الزرقاوي بالولاء رسميا لابن لادن وأصبح رئيس تنظيم القاعدة في العراق، كتب رسالة إلى قيادة القاعدة المركزية، والتي كشف فيها عن خطة لمهاجمة المدنيين الشيعة وأماكن العبادة الشيعية. وربما جاءته فكرة مهاجمة الشيعة من العراقيين الأصليين مثل الأنباري –بل وربما من الأنباري نفسه. وقبل العام 2004، كان عداء الزرقاوي يتركز إلى حد كبير على الأنظمة العربية العلمانية، وهو ما تجسد في تفجيره للسفارة الأردنية في بغداد في صيف العام 2003. وقال ليث الخوري، وهو مراقب يتابع المجموعة عن قرب والمؤسس المشارك لشركة الاستخبارات “فلاشبوينت” في نيويورك، أن الزرقاوي وجد أن وجهات النظر المعادية للشيعة كانت مفيدة لحشد السنة في العراق في العام 2005، وهو ما قاده إلى إعلان حرب شاملة على الشيعة “أينما كانوا”.
وقال لي مراد بطل الشيشاني، وهو خبير بارز في الحركات الجهادية من موطن الزرقاوي، أن محاكمات الزرقاوي في الأردن في أواسط التسعينيات –على تورطه في منظمة إسلامية سرية- لم تقدم أي دليل على أنه كان يحمل وجهات النظر المتطرفة التي ميزت “داعش” بعد العام 2003. وفي الأردن، “لم يفترق الزرقاوي عن أقرانه الجهاديين، إلا من خلال شخصيته”، كما قال الشيشاني. وأضاف: “كان أكثر تطرفاً، كان بلطجياً وما شابه… لكنه كان خفيف الوزن أيديولوجياً. لقد تأثر بما كان يحدث حوله في العراق”.
كما كان للأنباري أيضاً دور مباشر في تحول تنظيم “القاعدة في العراق” من قوة يهيمن عليها الأجانب إلى واحدة يديرها العراقيون. وتكشف السيرة التي كتبها عبد الله أن الزرقاوي أوفد الأنباري إلى باكستان في أواخر العام 2005، حيث عبر من إيران بوثائق مزورة، ليحيط قادة القاعدة هناك بشأن الإشاعات التي قالت أن الفرع العراقي للتنظيم كان ينفّر ويستبعد الجهاديين الآخرين. (التفاصيل عن رحلة الأنباري تقدم اعترافاً نادراً بحقيقة أنه تم استخدام إيران كطريق للعبور في المنطقة). وعندما عاد الأنباري، قدم خطة لدمج تنظيم القاعدة في العراق مع قوى محلية أخرى لتأسيس “مجلس شورى المجاهدين” في كانون الثاني (يناير) 2006. وقد ترأس الأنباري المجلس، مستخدماً اسمه الحركي الجديد، عبد الله رشيد البغدادي.
بعد عام واحد فقط، أعادت المنظمة المحلية التي مرت بعملية “عرقنة” تسمية نفسها لتصبح “دولة العراق الإسلامية”، وتصاعدت هجمات المجموعة ضد الشيعة والأميركيين بشكل كبير.
اعتقلت القوات الأميركية الأنباري في بغداد في العام 2006، وقُتل الزرقاوي بعد شهرين من ذلك، وهي النقطة التي وصل فيها تأثير الزرقاوي، بطبيعة الحال، إلى نهاية. وعلى الرغم من أن الأنباري لبث في الاعتقال حتى آذار (مارس) 2012، فقد ظل منخرطاً في القضية الجهادية عن طريق تجنيد زملائه في السجن وتلقينهم عقائدياً. وبعد إطلاق سراح الأنباري –الذي رتبه تنظيم دولة العراق الإسلامية على ما يبدو عن طريق رشوة مسؤولين عراقيين- استدعاه أبو بكر البغدادي إلى بغداد وأوكل إليه مهمة حساسة وحاسمة.
كانت مهمة الأنباري الجديدة هي التحقق مما إذا كان فرع المجموعة في سورية، الذي كان معروفاً في ذلك الحين باسم “جبهة النصرة”، ما يزال موالياً للبغدادي. ووجد الأنباري أن أبو محمد الجولاني، قائد الفرع السوري، كان “شخصاً ماكراً” و”ذا وجهين” –وفقاً لرواية نشرها “داعش” –وهكذا تآمر الأنباري والبغدادي ضده. وأقام الاثنان علاقات مستقلة مع الأعضاء الرئيسيين في “جبهة النصرة”، ثم أعلن البغدادي من جانب واحد عن اندماج بين الفرعين. ومع أن ذلك الاندماج لم يدُم، فإنه أدى إلى انتقال كثيرين من قادة جبهة النصرة إلى مجموعة البغدادي. كما كان الأنباري مكلفاً أيضاً بمهمة التواصل مع تنظيم القاعدة، تحت الاسم الحركي، أبو صهيب العراقي، لحل مشكلة الاحتراب الجهادي الداخلي. وقد فشل جهد المصالحة، وتنصل تنظيم القاعدة من “داعش” رسمياً في شباط (فبراير) 2014.
بالنسبة للمتمردين السوريين، كان الأنباري هو وجه “داعش”، حيث كان يلتقي بهم ويفاوضهم منذ أواخر العام 2012 وحتى صيف العام 2014. وبعد الاستيلاء على الموصل، حول الرجل انتباهه الكامل إلى شحذ أيديولوجية المنظمة. وفي الحقيقة، أصبح كبير المنظِّرين فيها، حيث قام بتدريب كبار رجال الدين، وأرشد الأعضاء إلى صياغة النصوص الدينية، وأصدر فتاوى حول القضايا الرئيسية التي تؤثر على الخلافة. وتحت إشرافه، تم الحكم على طيار أردني بالحرق، في تحقيق قاتم لرغبة الأنباري الأصغر سناً في إحراق الغجر الذين جاؤوا إلى مجمع برزان؛ وتم ذبح اليزيديين الذين جاؤوا في طريق المجموعة واسترقاقهم؛ وتم ذبح قبيلتين في سورية والعراق كتحذير من مغبة الثورة في أعقاب استيلاء المجموعة على ثلث العراق ونصف سورية تقريباً. كما وصم الأنباري الثوار السوريين المعتدلين أيضاً بأنهم مرتدون في العام 2013، وألَّف فتوى مفصلة ضدهم.
لاحقاً، قام البغدادي بتعيين الأنباري رئيساً لمالية المجموعة، وهي مهمة تضمنت القيام برحلات منتظمة بين سورية والعراق. وفي آذار (مارس) 2016، وفي واحدة من هذه الرحلات المتكررة، قُتل الأنباري بالقرب من مدينة الشدادي السورية، بجوار الحدود السورية-العراقية. ووفقاً للسيرة، حاول الجنود العراقيون أن يأسروه في غارة، لكنه فجَّر نفسه باستخدام حزام ناسف. وقد عاش الأنباري بعد الزرقاوي 10 سنوات، وفاقه في التأثير.
ربما تجاهل الباحثون إسهامات الأنباري لأنه كان مراوغاً للغاية. كانت لديه، على سبيل المثال، نحو دزينة من الأسماء الحركية. وللعديد من السنوات، ظنت الولايات المتحدة أنه شخصان مختلفان على الأقل. وكانت لدى المسؤولين صورتان له فقط. وعندما اعتُقل لفترة وجيزة في الموصل في العام 2005، لم يعرف آسروه الأميركيون هويته الحقيقية، لأنه استخدم وثائق مزورة. وفي المرة الثانية التي اعتقل فيها، في العام 2006، تعرفوا إليه، وإنما فقط كرجل دين إرهابي محلي من تلعفر، وليس بوصفه قائد مجلس شورى المجاهدين الذي يهيمن عليه تنظيم القاعدة.
قاد الزرقاوي مجموعة تحولت فيما بعد إلى “الدولة الإسلامية في العراق”، ثم لاحقاً إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الحقيقية –لكن من الإفراط في التبسيط القول بأن “داعش” كان من بنات أفكار الزرقاوي. ويتفق الخبراء الذين تعقبوا نشاط الزرقاوي المبكر عن قرب، على أن الأردني لم يكن يعتنق رؤى طائفية واضحة قبل وصوله إلى العراق، وأن أفكاره قبل ذلك لم تختلف عن وجهات النظر الجهادية العالمية السائدة. وقد أخبرتني ندى باكوس، المحللة السابقة في وكالة المخابرات المركزية ومؤلفة الكتاب الذي سيصدر قريباً “المستهدِف: حياتي في السي آي إيه، ومطاردة عراب داعش”، أن الزرقاوي “كان تكتيكياً جيداً، وليس مفكراً استراتيجياً، وكان يستجيب للظروف من حوله. الناس الذين من حوله هم الذين وضعوا الاستراتيجية لما أراد أن يحققه”.
درس هشام الهاشمي، المؤرخ العراقي للجماعات الإرهابية والذي يقدم المشورة للحكومة العراقية حول “داعش”، حركة التمرد ضد الولايات المتحدة عن كثب منذ البداية. وقد أشار إلى ثلاثة منظّرين أيديولوجيين عراقيين شكلوا مباشرة تفكير الزرقاوي ونهجه. وكانت لدى هؤلاء الثلاثة ملفات شبيهة بالأنباري من حيث التعليم الديني وكونهم مطلوبين للنظام السابق بسبب أفكارهم وأنشطتهم المتطرفة: أبو عبد الرحمن العراقي، وهو مساعد سابق للزرقاوي والذي يقبع الآن في السجن؛ ونظام الدين الرفاعي، الذي سُجن عدة مرات بدءاً من العام 1978 بسبب الانخراط في حركة التوحيد السلفية، والذي يوجد حالياً في السجن أيضاً؛ وعبد الله عبد الصمد المفتي، الذي كان مطلوباً منذ العام 1991 والمنظر السلفي الذي كان يُقدّر كثيراً في العراق.
وقال الهاشمي أن رجال الدين العراقيين الجهاديين هؤلاء قدموا أفكاراً رفضها تنظيم القاعدة لاحقاً، وإنما اعتنقها “داعش”، بما فيها الطائفية المتطرفة ومفهوم إقامة دولة إسلامية. وقال الهاشمي: “كانت لدى رجال الدين هؤلاء مدرسة كاملة للفقه والمنهجية، ونصوص دينية تأسيسية. كان الزرقاوي مجرد قائد يعمل وفق نهجهم، وهو السبب الذي جعل نهجه يختلف عن المقدسي وابن لادن بعد أن اختلط بالناس في العراق”.
لكن ما يميز الأنباري عن رجال الدين هؤلاء هو أنه بالإضافة إلى اعتناقه وجهات نظر طائفية متطرفة قبل عقد تقريبا من ظهور الزرقاوي، كان لديه دور كبير ورفيع المستوى في داخل تنظيم القاعدة في العراق، ولاحقاً في صفوف “داعش”. وكان رجل الدين الأطول خدمة والأعلى مرتبة في داخل المنظمة منذ إنشائها وحتى مصرعه.
يثبت إدراك الدور المركزي الذي لعبه الأنباري في تشكيل “داعش”، والأحداث التي أنتجت قادة مثله قبل غزو العام 2013، أن المجموعة لم تكن ببساطة من خلق جهادي أردني داهية. ويبدو أن الزرقاوي حطَّ في بلد حيث كانت الخطوط الأيديولوجية للمجموعة التي سيقودها ذات يوم قد رُسمت مسبقاً. وقد تأثر بالبيئة القائمة وبالمنظِّرين المحليين الذين صاغوها قبله.
والتمييز مهم. فإذا كان “داعش” قد نشأ عضوياً قبل عقد من الزمن على الأقل من الغزو الأميركي، وقبل وصول الزرقاوي، فسوف يساعد هذا في فهم السبب في تمكُّن التنظيم من النهوض والصعود ثم الهيمنة على بلد بمثل تنوع العراق الديمغرافي. كانت للمجموعة جذور أعمق كثيراً مما تم تصوُّره من قبل.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.