لولاهم ، لكان وعد بلفور حبراً على ورق”… عن خيّالة “آنزاك” ومجزرتهم المنسيّة بحق الفلسطينيين

"لولاهم لكان وعد بلفور حبراً على ورق"... عن خيّالة "آنزاك" ومجزرتهم المنسيّة بحق الفلسطينيين

 ( فلسطين ) الأحد 16/12/2018 م …

“يوم آنزاك” يوم وطني تحوّل إلى حجر أساس في الذاكرة الشعبيّة والسياسية لدى الأستراليين والنيوزلنديين على السواء. يُحتفى به على نطاق واسع، وقد شكلت قصصه جزءاً أساسياً من المنهج الدراسي والحكايات الشعبيّة في البلدين حتى تحوّلت إلى ميثولوجيا يحب بعض من كتبوا عنها تسميتها بـ”الآنزاكية”.

مع الوقت، بات “آنزاك” يُعرف بيوم “تكريم من خدموا وماتوا في الحروب والصراعات”، لكنه في الأساس، تسميةً وممارسةً، وُجد لتكريم أعضاء فيلق الجيش الأسترالي والنيوزيلندي (ANZAC: Australian and New Zealand Army Corps) الذين قاتلوا في غاليبولي ضد الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.

خلَّفت معركة غاليبولي، التي بدأت في الخامس والعشرين من أبريل 1915 وامتدت لتسعة أشهر، نصف مليون من القتلى والجرحى، وكانت في أساسها فيالق الجيش الأسترالي والنيوزيلندي التي قاتلت للمرة الأولى جنباً إلى جنب، وبقيت مشاركتها راسخة في الذاكرة الوطنية كمحطة بلوغ الدولتين سن الرشد للخروج من عباءة الامبراطورية البريطانية.

بعد عامين، برز اسم “آنزاك” من جديد. كان ذلك في معركة بئر السبع (جنوبي فلسطين المحتلة)، التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى وتحديداً في أكتوبر 1917. حينذاك استولى الخيّالة الأستراليون والنيوزيلنديون على المنطقة من القوات العثمانية.

“جنود آنزاك… جزء من تاريخ وذاكرة إسرائيل”

في أكتوبر من كل عام، يعود أحفاد هؤلاء إلى بئر السبع مرتدين ثوب الخيّالة ليجوبوا المنطقة على أحصنتهم مستذكرين “بطولة” الأجداد. يتجمّع المسؤولون الإسرائيليون والأستراليون والنيوزيلنديون في المنطقة ويستفيضون باستعادة مآثر الخيّالة الذين هزموا العثمانيين في معركة مهدت الطريق للوصول إلى القدس.

صحيح أن تأسيس إسرائيل مربوط بـ”وعد بلفور”، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كرّر مراراً أن تلك المعركة قد مهدت لإقامة “دولة إسرائيل”. وقد قال “جنود آنزاك جزء من تاريخ وذاكرة إسرائيل… ولو لم يقم الأستراليون والنيوزيلنديون بالإطاحة بالحكم العثماني في فلسطين وسوريا، لبقي وعد بلفور حبراً على ورق”.

كُتب الكثير عن غاليبولي وبئر السبع ودورهما في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لكن الدور الأسترالي والنيوزيلندي لم ينل قدره من الاهتمام لدى أولئك الذين دفعوا أثمان ذاك التشكيل الجديد. من المحطات شبه الغائبة في ذلك الدور، والغائبة للمفارقة بشكل يكاد يكون كلياً كذلك عن السردية الأستراليّة/ النيوزيلنديّة، ما ارتكبه الأستراليون والنيوزيلنديون يوم العاشر من ديسمبر عام 1918 في قرية صرفند الصغرى (المعروفة بصرفند الخراب)، تمييزاً لها عن صرفند الكبرى (صرفند العمار).

“مجزرة صرفند” والتفاصيل المُهمَلة

في وقت مبكر من ليلة العاشر من ديسمبر عام 1918، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أحاط حوالي 200 جندي من “آنزاك”، بقرية صرفند. بعد طرد النساء والأطفال، نزل الجنود حاملي العصي الثقيلة والحراب على السكان بهدف قتل كل شاب يفوق عمره السادسة عشرة. تشير التقديرات إلى أنهم قتلوا ما بين 40 و 120 قبل أن يشعلوا الأكواخ ويقتلوا الحيوانات. أضاءت النيران في الريف لأميال حولها. ثم انتقلوا إلى مخيم البدو المجاور، الذي أحرقوه أيضاً على الأرض.

ثمة روايتان حول أسباب تلك المجزرة، واحدة غربيّة وأخرى عربيّة، لكن المتفق عليه بينهما أنها وقعت بعد مقتل الجندي النيوزيلندي ليسلي لوري (21 عاماً) ليلة التاسع من ديسمبر.

اهتم بول دالي، الكاتب والصحافي والقاصّ الأسترالي، بكل مراحل مشاركة فيالق بلاده في الحرب العالمية الأولى، منذ بدأ الكتابة عن معركة بئر السبع موثقاً إياها في كتاب “بئر السبع: رحلات في تاريخ النصر الأسترالي المنسيّ”، الذي نشره في أكتوبر العام الماضي. لكن الكاتب عاد ليتحدث الآن عن اكتشافات جديدة غيّرت نظرته إلى العديد من أفكاره حول “النصر”، وتحديداً ما وجده في الأرشيف الأسترالي حول “مجزرة صرفند”.

حسب الرواية العربية، كان الجندي ليسلي لوري واحداً منهم، وكان يُقلق سكان صرفند باستمرار بحثاً عن نساء، والسبب في قتله كان إشكالاً حول ذلك وليس السرقة كما ادعى أثناء احتضاره

التفاصيل عن تلك المجزرة بقيت قليلة، وفي حين ورد ذكر دور النيوزيلنديين فيها إلا أن الجانب الأسترالي بقي غائباً إلى حين أعاد دالي نبشه من الأرشيف داعياً الأستراليين إلى تحمّل مسؤوليتهم عنه، فـ”في صلب عمل التاريخ الجيّد، يصبّ الحفاظ على الذاكرة الحقيقيّة”.

في الأرشيف، وجد دالي تسجيلاً لجندي أسترالي في فرقة خيّالة “آنزاك” يقول إنه ورفاقه شربوا جرعات كافية من الرام (مشروب كحولي)، وأحكموا الحصار على صرفند ثم هاجموا القرية بالحراب. واعترف الجندي المعروف بتيد أوبراين قائلاً “كان البدو أشراراً… لكن المجزرة كانت سيئة حقاً، كانت جائرة”.

في التسجيلات يتحدث أوبراين عن الفرسان وعن وجودهم في فلسطين وعن زياراته لأهرامات مصر، لم يكن هناك ما لفت دالي فيها إلى أن وقع على تسجيل يقول فيه “الفارس الأسترالي” ما مفاده أن الأستراليين والنيوزيلنديين هجموا على قرية البدو وقتلوا رجالها بالحراب وهدموا ما فيها.

كان فيلق أوبراين هناك، وهو لم يعرف لماذا ذهب إلى هناك ولماذا شارك في القتال، لكن كان الرام يفعل فعله، حسب ما قاله.

عن المجزرة، حسب دالي، كان هناك العديد من التحقيقات السرية (البريطانية بسبب اشتراك بعض السكوتلنديين آنذاك فيها، وأخرى أسترالية ونيوزيلندية)، لكنها بقيت في الجزء المنسي من التاريخ الذي انكبّ كاتبوه على تكريس بطولة الفرسان فيه حصراً.

“حفلة الانتقام” بين روايتي السرقة والعربدة

أمضى دالي شهوراً يبحث في الأرشيف الأسترالي والبريطاني، وذلك على ضوء تعويض 600 مليون دولار التي كرستها أستراليا لذكرى فرسانها، ليجد أن هؤلاء لم يميزوا بين البدو الرحل والعرب في البلدات الفلسطينية، كما ربط هؤلاء في مذكراتهم بين سكان المنطقة “البائسين والجوعى” وبين أصحاب البشرة السوداء في أستراليا. وقد سهّلت عنصرية الربط تلك ردود فعل الأستراليين تجاههم، لا سيما أن الأستراليين والنيوزلنديين نظروا للعرب كسارقين وجواسيس.

وحسب الأرشيف الأسترالي، بعد هدنة عام 1918، تمّ جمع الألوية التابعة لـ”آنزاك” في مستوطنة “ريشون ليتصيون” اليهودية القريبة من المتوسط. كان الأستراليون محبوبين من اليهود هناك، وبينما كانوا ينتظرون العودة إلى الوطن كان هناك الكثير من الطعام والكحول بين أيديهم، وكانوا يمضون الوقت في سباق الخيل ولعب كرة القدم والكريكيت.

تقول الرواية إن الفرسان عانوا من السرقات التي ارتكبها سكان صرفند والبدو المجاورون للقرية، وفي ليلة التاسع من ديسمبر حين كان الجندي لوري يطارد سارقاً، أرداه الأخير قتيلاً، وقبل أن يفارق الحياة أخبر رفاقه عن السارق وأبلغهم أنه توجه إلى القرية. وحينذاك بدأت “حفلة الانتقام”.

تختلف الرواية العربيّة حول ما حصل. كان ثمة حانة في ريشون ليتصيون تُعتبر من أهم خلايا التجسس اليهودي قبل النكبة، وهناك كان الجنود المقيمون في المستوطنة بانتظار العودة إلى الوطن يتلقون الكحول بكميات كبيرة، ويجري دفعهم، من اليهود، بعد تلقينهم عبارات عربيّة تمس بالشرف للتجول والعربدة بين بيوت صرفند، أملاً أن يجبروا سكان الأخيرة على بيع منازلهم والانتقال بعيداً عن معسكرات الجيش.

حسب الرواية العربية، كان الجندي ليسلي لوري واحداً منهم، وكان يُقلق سكان صرفند باستمرار بحثاً عن نساء، والسبب في قتله كان إشكالاً حول ذلك وليس السرقة كما ادعى أثناء احتضاره.

التعويض للمرتكِبين؟

في المحصلة، لم تخلص التحقيقات التي قادتها الأطراف الثلاثة المذكورة آنفاً (البريطانية والأسترالية والنيوزلندية) إلى مسؤول مباشر عن المجزرة. البريطانيون اتهموا النيوزلنديين والأستراليين. النيوزلنديون حمّلوا المسؤولية للأستراليين، والأستراليين اتهموا النيوزلنديين بطبيعة الحال. أكثر من ذلك، طالب البريطانيون بتعويضهم عن تكاليف نقل سكان القرية (التي كانت تحت ولايتهم) إلى منطقة أخرى، وطالبوا كذلك بتعويض عن الضحايا.

بعد أيام قليلة من المجزرة، وصف الجنرال البريطاني إدموند اللنبي “آنزاك” بـ”حفنة من المجرمين”، ونفض يده منهم، ثم عادت المجزرة لتطل بخجل شديد في صفحات قليلة من التاريخ الأسترالي وصولاً إلى غيابها شبه الكلي.

عودة دالي إلى الأرشيف كانت في سياق الدعوة إلى حماية البطولة عبر مواجهة النقاط السوداء في تاريخها، بينما تبدو عودتنا إليها تذكيراً جديداً بمجازر عديدة ارتُكبت في المنطقة ولم يكن من قبض التعويض (المادي والمعنوي) عن الدماء سوى المرتكبين أو حلفائهم.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.