جمود ” النّظريّة ” الثّقافيّة – السّياسيّة .. و نقد المَضامين و الظّواهِر و المُعطيَات ( 2 من 4 ) / د. بهجت سليمان

نتيجة بحث الصور عن بهجت سليمان

 د . بهجت سليمان* ( سورية ) الأحد 23/12/2018 م …




1▪ إنّ كلّ شيء يتحرّك نحو غاياته المفهومة أو غير المفهومة ، و ينطبق ذلك على العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد كما على المجتمع بوصفه كلّيّة ”نظريّة” ، كما يتناول هذا التّحرّك ، الملازم للتّغيّر و التّغيير ، السّياسة النّظريّة و العمليّة على مرّ الزّمن ، بما في ذلك ”نظريّة السّياسة” التي تستبطن الأخلاق و الأداء و السّلوك ، و لو كابر الكثيرون دون هذه الحقيقة الأكيدة .

2▪ و تُفسّر هذه الحقيقة حتميّة تاريخيّة لا تمتّ بصلة إلى الحتميّات ”التّاريخانيّة” ، و هي أنّ العمليّة التّغييريّة الثّقافيّة التي طرحها ( غرامشي ) في حينه ، و التي لاقت اعتراضات واسعة في الفكر الماركسيّ ”الأرثوذكسيّ” ، إنّما هي حقيقة تزداد أهمّيّة و صواباً في هذا العصر الذي أضحت فيه ”الأفكار” رافعة اجتماعيّة و اقتصاديّة و سياسيّة في بنى ”الدّولة” المعاصرة ، أيّاً كانت طبيعة هذه الدّولة و نظامها السّياسيّ ، إذ تجاوزت أهمّيّتها مضمون فكرة ( غرامشي ) التي جاءت كوصفة سياسيّة للبلدان الأقلّ تطوّراً و الأكثر جموداً و ركوداً و تخلّفاً اقتصاديّاً و سياسيّاً و اجتماعيّاً و ثقافيّاً ، و هو نموذج الدّولة التي كانت تنتمي ، في حين ذلك الطّرح ، إلى بلدان ”العالم الثّالث” أو ما كان يُسمّى كذلك .

3▪ كان الميل السّياسيّ العامّ في ( سورية ) في غضون العقود الخمسة المنصرمة ، يتّفق ، غالباً ، مع المنسوب ” البعثيّ ” للثّقافة الرّسميّة للدّولة ، مع أنّ هذه الأطروحة لا تمّثل الواقع السّياسيّ لمؤسّسة ” الدّولة ” السّوريّة ، الحقيقيّة ، جرّاء الاختراقات ” الثّقافيّة ” الاجتماعيّة ” الأهليّة ” التي لا يمكن حصرها ببساطة ، التي تمكّنت من زعزعة النّسيج المدنيّ السّياسيّ للدّولة قبل الاتّجاهات الاجتماعّية المؤهَّلة للتّطوّر ، و هو ما جعل الواقع الاجتماعيّ – السّياسيّ بسلطاته الكامنة و قواه الرّجعيّة ، يُدمّر كلّ المآلات السّياسيّة التي عملت عليها الدّولة في سورية أو حتّى تلك التي وصلت إليها ، فعلاً ، أو توصّلت إليها في الاكتشاف .

4▪ مثل كلّ النّظريات و الممارسات ، يُخلّف مشروع الدّولة في مسيرته الكثير من النّفايات من أفكار و أشخاص ، و تنمو على أطرافه المظلمة الرّطبة طحالب المشاريع المناوئة و الشّخصيّات المتعفّنة و النّوايا السّليطة ، و بخاصّة عندما تتأسّن الجيوب الاجتماعيّة و الخلايا السّرطانيّة التي تعتدي بصمت و خبث و هدوء على جسد الدّولة ، و تمدّ البنى السّياسيّة و الأنساق الثّقافيّة و السّياسيّة في االدّولة بمحفّزاتها الذّاتيّة ، فتنعش عندها طابع التّشرذم و الفئويّة و العصاباتيّة و الشّلليّة المريضة أصلاً بدوافع الانفصال الجاهزة و الكامنة في الخبث السّياسيّ ..

و هكذا تصبح الدّولة دولة قابلة للإختراق ، فيما تكون البدائل المضمرة قد أصبحت عميقة بأدواتها الجاهزة للانقضَاض على أضعف ثغرات السّيادة السّياسيّة لتصنع منها فجوات كافية ، لتدخّل تلك الأدوات من أشخاص و ممارسات و أساليب ، تجعل العيوبَ السّياسيّة الظّاهرة المقصودة و غير المقصودة منصّات مستهدفة ، فيما تجرف أمامها هذه ”السّيلة” من فقدان السّمت و ارتباك التّفاصيل و تداعي البنيان العامّ ..

فإذا به يكتمل كمشروعٍ عدوٍّ صُنعيّ يقع في قلب هيجان العواطف الجاهليّة للجهات الاجتماعيّة الجماعيّة الأغبى و الأكثر حقداً و موتوريّة ضدّ الدّولة ..

و يولد من جديد مغسول الدّماغ إلّا من ثأراته المبنيّة على أحطّ الخرافات السّياسيّة التّاريخانيّة ، و لكنْ الكافيّة لخلق البيئة الفاصلة بين العمى التّاريخيّ نحو الشّأن العام و المرفق العام و المؤسّسة الحكوميّة و الأرواح البشرّية و النّاس البريئة ، و الأملاك و الأموال العاّمة و الأملاك الاجتماعيّة ..

و هكذا تولد ”العامّويّات” و ”الشّعبويّات” المقاتلة المسّلحة بالثأر و النّار ، و تسيل فيها تقيّحات سُمّ التّاريخ الأحمق الكاذب المزوّر الحاضّ على القتل و الجريمة الجنائيّة و ”السّياسويّة” ..

لتندلع الكارثة الاجتماعّية السّياسيّة و القتل المبرمج و الدّمار المنظّم و التّخريب المُنسّق ، في انكشاف علنيّ لكلّ ما كان مضمراً يتّقد تحتَ رماد الجاهزيّة العدوّة للدّولة و المجتمع ”النّظريّ” ، المسمّاة ”ثورات” .

في هذه الصّورة المشوّهة للحاضر يحسن التّوقّف النّقديّ النّظريّ و العمليّ لجملة المضامين و الظّواهر و المعطيات التي كانت مدخَلاً داخليّاً للانقلاب .

● في نقد المضامين :

5▪ منذ فترة وجيزة أشرنا ، هنا ، على هذا المنبر ، إلى التّلف التّاريخيّ للأشياء من أفكار و قواعد و نظريات علميّة و نظريّات طبيعيّة و أخرى فلكيّة ، في الوقت التي لا تنجو من ذلك ، أيضاً ، نظريّات السّياسة و ذلك مهما بلغت ، في حينها ، شأناً جديداً و بعيداً في الثّوريّة و الوطنيّة و القوميّة و الدّينيّة ، و ما إلى ذلك من كيانات و أنساق .

فالمضمون الذي على النّقد أن يغزوه ، هو كلّ ما علق من الماضي التّالف في ”أدوات” الحاضر ، أو هو أدوات الحاضر المنقولة من الماضي لمعالجة الحدث المعاصر مع كلّ ما هو مفهوم من تناقض إجرائيّ في صناعة الحاضر ، بأدوات و أساليب و مفاهيم الماضي التي كفّت عن كونها قادرة عن الإحاطة بالوقائع المستجدّة و الطّارئة ، التي تحتاج إلى وسائلها و أدواتها المستحدثة بما يتوافق مع روح العصر و مناخ العالم المعاصر .

6▪ و النّظريّة الثّقافيّة السّياسيّة التي تمنح الدّولة هويّتها الحضاريّة الحيّة ، هي تلك التي تتضمّن في برنامجها السّياسيّ المعاصر صفحة خاصّة بمقوّمات الأداء النّقديّة و معايير التّفاعل مع الأغراض ، انطلاقاً من رصد العلاقة بين النّظريّة و العمل في التّطبيق و اكتشاف ما هو عمليّ و واقعيّ في التّغيير ، بما في ذلك مواجهة المشاريع التي تنطلق من تزمّنها في الماضي ، سواءٌ في أدواتها أو أفكارها أو في استراتيجيّاتها المضمرة و لكن التي لا تخفى على النّقد و التّعرية و التّحديد .

إنّ المعايير و النّواظم التي تُخضع سيرة الحاضر السّياسيّة ، هي تلك التي يتولّاها الظّرف المُستدام بالتّعرية و الحتّ و التّنجير و التّسوية و إعادة التّعميم بما يضمن لها مطابقة الميول الأعظميّة لتاريخ العالم المعاصر ، و صلاحيّاتها في قدرتها الاستعاديّة الدّائمة للثّوابت المضامينيّة ، و عدم اهتزاز هذه الثّوابت و ميلها مع اتّجاه رياح العامّيّات التي تحرّكها نزعاتها الانفعالّية مع كلّ فكرة من أفكار الحماسة ، التي تسقط لتوّها مع أوّل اختبار أو امتحان وطنيين .

7▪ عادة ما تتركّز المضامين السّحيقة للأذيّات الثّقافيّة السّياسيّة ، في مظاهر خادعة كالشّعارات و ”المأثورات” الخطابيّة في التّشكيلات البنيويّة و المؤسّسيّة الخادعة ، عن طريق إظهار المزايدات المزيّفة في الممارسة و السّلوك ، و التي باستطاعتها ، عن طريقها ، أن تدّعي التّمسّك بالمصلحة الوطنيّة فيما تؤدّي عمليّاً خطاباً متخندقاً ، صلباً و جامداً و ملتويّاً ، تستطيع به تأكيد ”الخطاب” العام عبر اختراقها به للخُطَبِ و النّصوص و التّنظيرات البريئة و المشبوهة ، في آن معاً .

نحن أمام استراتيجيّة سياسيّة ”مضمونويّة” تمتلك من الإمكانيّات و الأدوات و الوسائل و الخلفيّات و المؤيّدات ”الاجتماعيّة” و ”الأخلاقويّة” و ” الجماهيرويّات ” و العامّيّات التي تستطيع معها التّفوّق على استراتيجيّة الخطاب السّياسيّ للدّولة ، فتهدّد الدّولة بواسطة ما تداخل في ”النّمط” العمليّ من مضمون نسقيّ نظريّ رجعيّ استطاع أن يتسوّق في خطاب الدّولة المعاصر ، عن طريق منظّريه غير البريئين .

8▪ يعرقل المضمون النّظريّ الكثيف لحضور الماضي كلّ أداءٍ وطنيّ شريف ، بما يختزنه من أدوات شدّ فيزيائيّ – سياسيّ ، جرى تحويلها و تعديلها إلى ”قوّةِ” سيطرة واسعة على موضوع الدّولة في المجتمع و الحكم ، بطابع ميتافيزيائيّ عجيب يجب الاحتراس الكثيف منه ، بواسطة الفكر السّياسيّ النّقديّ ، لأّنه – عدا عن كونه أداة شدّ في عكس طموح الدّولة – يؤدّي في المحصّلة ”الحضاريّة” إلى تجميد و تكليس و تحنيط الواقع الذي يُزرقه العالمُ بالاستعجال و الابتسار .

عندما تتجمّد العلاقات تتجمّد النّظريّة – و ليس العكس – ذلك أنّ النّقد النّظريّ السّياسيّ هو الوحيد القادر على عكس هذه المعادلة المعكوسة ، و ليس مقارعة ”النّظريّة” بالنّظريّة ، و هو ما أصبح ، عالميّاً ، ممجوجاً و مجرّباً و فاشلاً .. أيضاً .

و الأمثلة لا تُعدُّ و لا تحصى ، ليس من أشهرها التّناقضات السّياسيّة المعلنة و المضمرة ، بين ”العلمنة” و ”التّديين” ، و لا كذلك التّناقض المدمّر بين ”الحضور” النّظريّ المضمونويّ ، لهيمنة ”الماضي” ، و بين ”الغياب” المأساويّ للحاضر في تقنيّات الإحراج و استخدام الخلفيّة الكاثرة و الأيحاء إلى ”القرار” بأنّ هذا ”الواقع” هو أفضلُ الموجود .

● في نقد الظّواهر السياسية :

9▪ تكثر هذه الظّواهر في الفترات الانتقاليّة أو المنعطفات الوطنيّة السّياسيّة ، كما يحصل في سورية ، اليوم ..

و تستشرس هذه ”الظّواهر” في غزوات همجيّة تحت ستار ”الممكن” و ”الوحيد” و التّزوير ”المعلوماتيّ” بدوافع غبيّة و ساذجة أو بدوافع منظّمة و سياسيّة و مستقبليّة ، لجعل المكان مسرحاً للتّجربة الجديدة لها بعد أن غيّرت الكثير من ملامحها فيما تعنّدت في داخلها بأمنيات و أطماع و أحلام تستعيد التّجربة الرّجعيّة بعناد ، و هي المدعومة و المدعّمة ، بجاهز خطابيّ و مسلكيّ عالي الدّربة السّياسيّة ، و لو لم يُبدِ ذلك ، و تستعيد مع التّجربة اختراق التّشريعات الوضعيّة الموضوعة أصلاً على قياس البربريّة الأخلاقيّة و السّياسيّة التي سُوّقت عند وضعها في الأسباب الموجبة و لوائح التّنفيذ .

10▪ تُبدي ”نظرية” تفريغ المجتمع من الطّبقات و الفئات الاجتماعّية التي تشكّل جسد الدّولة “المفيد” ، بمن فيها ما اصطلح على تسميتها بالطّبقة الوسطى ، الكثير من إخفاق ”الثّقافة” الاجتماعيّة – الاقتصاديّة في تصنيع مشروع الدّولة ، بحيث يمتلئ المجتمع ب فئتين هما :

▪ ” فئة الّلصوص و المرتزِقة و المنافقين و المتنفّذين” ، من طرف ..

▪ و ” فئة الحثالات ذوات الأخلاق الرّثّة و المريضة ، و الوعي المعدوم و الفهم المحدود” أو كما تُدعى بالرّعاع ..

و قيام الدّولة بمؤسّساتها على أرضيّة الطّبقة أو الفئة الثآنية ، فيما تُدير متناقضات و أزمات و مخاطر العيش ”المجتمعي” تلك الفئة ”المُنَجَّمَة” التي اعتادت ، بعد أن ترعرعت ، على فراغ العقول إلّا من الطّموحات الشّخصيّة و المطامع الخاصّة .

11▪ في ظاهرة أخرى أكثر تعقيداً فلقد صنعت ”الحرب” مثالاً لمجتمع نادر الحدوث في التّاريخ ، و ذلك نظراً لتعقّد طبيعة و تركيبة و تحوّلات هذه الحرب الطّويلة .

لقد حصل ما يُسمّى في الأدبيّات الاقتصادّية بإعادة توزيع الثّروة ..

و لكنّ الذي غاب عن تلك النّظريّات الاقتصادّية هو أنّ لإعادة توزيع الثّروة مبادئ أخرى هجينة و اصطناعيّة ، تحمل خططها في الممارسة اليوميّة للحرب و ما يتفتَّق عنها على مدياتها المدمّرة ، بحيث أنّ إعادة التّوزيع ”المخطّطة” التي غالباً ما تستهدف ، اقتصاديّاً ، مواطن العمل و الإنتاج و رأس المال و الرّبح ، تعمل في الحرب على نحو مقلوب ، حيث يكفّ العمل عن أن يكون صانع ”القيم” التي تشكّل جوهر توزيع ”الثّروة” ، ليكون العنف هو البديل في صناعة هذه ”القيم” و توزيعها بالعنف و الجريمة و الارتباط بالخارج و الأجنبيّ ، و ظهور قطاعات من الاقتصاد تعتمد ، في جوهرها ، على التّقليد المافيويّ .

12▪ يمكننا الاستمرار عّداً طويلاً في سرد ظواهر مختلفة لمنتجات ”الظّرف” ، و لكنّنا سنتعمّق في ظاهرة واحدة ، هي شاملة و معبّرة و تكاد تلخّص جميع مخاوفنا و مخاوف الآخرين ممّن يرقبون التّحوّلات الاجتماعيّة و السّياسيّة الوطنّية المعاصرة و انزلاقاتها في المجهول .

إنّ ما قلناه على إعادة توزيع الثّروة بالمساومة و الاتّفاق و المصالح الشّاذّة ، و بالعنف ، لا ينتهي عند حدود خلق فئات و طبقات اجتماعيّة و اقتصاديّة جديدة و هجينة و فوضويّة تاريخيّاً ، لا تملك مشروعاً وطنيّاً حاملاً في الزّمان و المكان ، و إنّما يمتدّ الأمر إلى ما ألمحنا إليه إلماحاً من خلق تراتبيّة جديدة للقيم ، و قد وجب الآن قولها بشيء من التّفصيل .

لا أتحدّث ، هنا ، على خلق العمل و السّوق و الإنتاج للقيمتين التّبادليّة و الاستعمالّية ، بل إني أعني ”منظومة القيم” المرتبطة بالشّرف الاجتماعيّ و المرتبة التّأهيليّة للتّقدّم في سلّم الوجاهة الوطنيّة التّاريخيّة التي يتوقّف عليها عقل المجتمع و روح تطوّر الأمم و عّزة الأفراد المختلفين .

و فيما يجري تسليع المظهر و المكانة و الشّكل و الأدوات الملحقة بالّشخص ، يجري بالمقابل تسليعٌ للمؤهّلات الشّخصيّة و المضمون الاجتماعيّ و الموقع التّراتبيّ و شهادات الأغلبّية و حسن السّلوك الذي يمنحونه للوجهاء الطّارئين الذين أفرزتهم الحرب و كانوا قبلها أمّيين و مُعدَمين .

و يجري هذا الأمر في كلّ مكان ، على عكس ما يُريد منه البعض الّلئيم ، من قصره على بيئة دون أخرى و عنصر اجتماعيّ دون آخر و فئات بعينها ، يُقصد من ذلك تحويل النّظر عن الآخرين الذين أتقنوا اّللعبة بصمت و حرفيّة و هدوء و تغوّل و توحّش و حقارة و احتقار للآخرين .

13▪ لقد تخطّى المجتمع واقع العودة إلى ما كان عليه قبل الحرب ، تخطّياً لا رجعة عنه .

و يُقترح في سبيل معالجة هذا ”المستحيل” ، التّجربة المبنيّة على نواظم نظريّة معمّقة لاستدراك ما يمكن استدراكه من بقّية للمؤهّلات الوطنّية الحقيقيّة ..

و في سبيل ذلك علينا الاحتراس إذ ”لا يستسيغ المرءُ من مدح للغير إلا قدر ما يعتقد أنه قادرعلى مثله” ، و ”الفقر ليس مانعاً من الجَدارة” ، على قول ( بيريكليس ) أعظم ساسة اليونان القديمة .

● في نقد المعطيات :

14▪ من الطّبيعيّ أن تنحسر معطيات الّلحظة في زمن ”الحرب” ، حتّى أنّه يُخيَّلُ إلى البعض أنّه تم استبدال الفراغ بالمكان ، و الّلحظة السّريعة الهاربة بالزّمان . بَيدَ أنّه في زمن ”الثّقافات” الدّاشرة و العقم الأخلاقيّ – السّياسيّ الذي أفرزته هذه الحرب بَناء على تاريخ ثقافيّ هزيل ، فقد صار التّرويج لهذه الخرافة ترويجاً منظَّمَاً يكاد يدخل في المعطيات السّياسيّة نفسها في صناعة القرار .

لا يعرف التّاريخ صرحاً مشيّداً كمعجزة ، لم يكن يوماً فكرة أو مجموعة من الأفكار . غير أّن أفكار و ثقافات و اجتهادات و سياسات التّعجيز و التّيئيس ، هي التي توحي بعكس ذلك و بالمناداة العبثية بخلق ”النّموذج” السّياسيّ و الاجتماعيّ و إعادة البحث في التّاريخ عن ضالّات واهمة و مشكوك فيها ..

فإنّه ما مِن حضارة مهما تواضعت أو عظمت و هالَتْ ، لم تكن يوماً أفكاراً وليدة تحتّمها الحاجة و يُبدعها الظّرف ، فيحوّلها إلى معطيات واقعيّة يُبنى عليها و يُعمّر و يُشاد .

15▪ و غالباً ما يتخفّى المعطى و يكمن أمام العين مباشرة ، على ألّا يكون استخدام العيون فقط من أجل تمييز الّليل عن النّهار .

إنّ سياسات المعطى نفسه هي في الحثّ الذي يُمارسه ، هو نفسه ، على اكتشافه ذاته . هو ليس بمنأًى عن الاهتمام و التّأمّل و التّبصّر و العودة بالذاكرة و الحكمة و القدرة على القيادة و تحمّل المسؤوليّات أمام مستقبل التّاريخ المكتوب .

إنّه لا يصنع الأمم غير الرّجال التّاريخيين شيُوخاً و كهولاً و شباباً شُجعانا و محترفين .

16▪ يتواضع المُعطى في كثير من حالاته حتّى يظنّ واحدنا أنّه معدوم ، بينما يتمظهر أحياناً في مشروعات فكريّة و سياسيّة ، إذ أنّ تجارب نخبة العقول هي أيضاً من زمرة تجارب الأفذاذ .

و حيث يمكن لرجلٍ أن يخترلَ أمّة بطموحاتها و حاجاتها و آلامها و أوجاعها و حرمانها و ضروراتها و أحلامها.. إلّا أنّه لا يمكنه أن يتوّزع في كلّ نقطة من نقاط تأثير الممارسة في السّياسة أو السّياسة في الممارسة ، التي تنتج عمليّاً و تعيد إنتاج أهدافها الصّريحة و العلنيّة في البناء أو ما نسمّيه : (Praxis) .

 

17▪ و المعطى ، على هذا الأساس ، يتفاضلُ في أصغر صغائر الحياة اليوميّة ، حتّى أنّه قد يبدو للبعض شيئاً تافهاً ، فيما هو في الحقيقة من أعزّ الأشياء التي قد تعبر الّلحظة و تموت و تقضي إلى الأبد ..

و في هذا ضياعٌ شديدٌ و فقدان هائل لفرصة وطنٍ قد لا تتكّرر أبداً ، فيما تترك وراءها الغصّة العقليّة التي لا تعالج بشرب الماء !

و قد يتعاظم المعطى و يتكامل حتّى يبدو مشروعاً بأركانٍ عميقة و ضخمة و عظيمة إلى الدّرجة التي يمكن أن يحكم فيها عليها العقلُ الرّاجف بالمُحال .

ما مِن شيء مُحال يتطلّبه منّا القدَرُ ذلك أنّه يُدرك إمكانيّاتنا بحنان !

18▪ و هكذا نصل أخيراً إلى أنّ نقد ”المضامين و الظّواهر و المعطيات” ، إنّما هو عمليّة تتجاوز الأخبارَ و الإخبارَ و الإعلام و الحفظ و الثّقافة و الألمعّية السّائبة ، في نظريّة جِدِّيَّةٍ تتفوّقُ على ذاتها إذ تعي موقعها و مهمّتها في إطار الإنجاز ”المستحيل” .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.