سوريا- مناورة أم ابتزاز أمريكي؟ الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) الأحد 23/12/2018 م …
كتبت صحيفة “واشنطن بوست” يوم الإربعاء 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، إن الولايات المتحدة قررت سحب كامل قواتها من شمال شرقي سورية، ويشمل الإنسحاب نحو ألفي جندي أميركي، وسبق أن أشارت صحف أمريكية أخرى إن عدد القوات العسكرية الأمريكية في سوريا يعادل 5500 جندي، ونشرت صحيفة “لوموند” (20/12/2018) نقلا عن صحيفة “نيويورك تايمز” خارطة تَمَوْضُع مختلف القوات في سوريا، وتُظهر الخارطة عشر قواعد عسكرية ثابتة أمريكية، وقاعدتين على الحدود، من جهة العراق، ولم تتناول الصحف “الغربية” مصير هذه القواعد، كما لم تَطْرَح تساؤلات بشأن حقيقة أو واقع هذا “الإنسحاب”…
حيثيات القرار:
أصبحت “التغْرِيدات” على “تويتر” تُشكِّلُ الوسيلة المفضلة (بل تكاد تكون الوحيدة) لنَشْر قرارات الرئيس الملياردير المُضارِب، وعَلِم الصحافيون والأمريكيون بقرار الرئيس عبر “تويتر”، رغم نَشْر صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، (قُبَيْل الإعلان) خيرًا يُشِيرُ إلى “استعداد واشنطن لسحب كامل قواتها من سورية”، وادّعى الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” أن السبب الوحيد الذي دفعه للبقاء في سورية هو تنظيم “داعش”، وقد هُزِم، ويتناقض هذا الإدّعاء مع وقائع أخرى عديدة، ومن بينها إن المجموعات الإرهابية لا تزال تُهاجم القوات الحكومية السورية وكذلك السّكان المدنيين، بأسلحة أمريكية، وانطلاقًا من مُحيط القواعد الأمريكية، وبتغطية عسكرية أمريكية، جوية أو بَرِّيّة، ويعارض الحزب الديمقراطي الأمريكي، وجزء هام من الحزب الجمهوري، وبعض قيادات الجيش، هذا القرار (أما واقَع أو حقيقة الإنسحاب فأمْرٌ آخر)، بذريعة “إنها خطوة قد تؤدي إلى زعزعة الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط”، وفق ما أوردتْ صحيفة “وول ستريت جورنال”، وامتنع الرئيس الأمريكي عن تحديد جدول للإنسحاب، لكنه قدّر أن يكون ذلك في غضون 100 يوم، فيما أعلنت وزارة الحرب الأمريكية (بنتاغون) “إن الحملة ضد تنظيم داعش الإرهابي لم تنته”…
سياق الإعلان:
جاء هذا القرار بعد هدوء التصريحات الحماسية بين الحليفَيْن، الولايات المتحدة وتركيا، عضو الحلف الأطلسي، وثاني أكبر جيش في الحلف، وأحد ركائز الإحتلال الأمريكي لجزء من سوريا، وبعد محاولة تعديل استراتيجية البلدَيْن، بشأن دَوْر الأقليات، وأهمها مكانةً مليشيات العشائر الكُرْدِيّة في سوريا (المدعومة أمريكيا وأوروبيا، يمينًا ويسارًا)، وتزامن القرار مع مراجعة القضاء التركي لحكم أصْدَرَهُ سابقًا، وإطلاق سراح مواطن أمريكي، كان محكومًا بالسّجن، مما يُشير إلى مُقايضة بين الحَلِيفَيْن (أمريكا وتركيا)، وقد تصبح تركيا هي الوكيل الأمريكي المُعْتَمَد في شمال سوريا، وأعلنت الصحف الأمريكية عن مشاورات بين أمريكا وحُلفائها المُحتلين لسوريا (أي الرئيس التركي، وقادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا وأستراليا وغيرها، وكذلك قادة مليشيات الأكراد)، قبل إعلان قرار سحب القوات الأمريكية، وفي تناقض تام مع ما أعلنه الرئيس الأمريكي من “هزيمة داعش في سوريا”، أعلن دونالد ترامب: “لقد حان الوقت أخيرا لأن يحارب آخرون”، كما كَتَبَ “إن روسيا وإيران وسوريا ليست سعيدة بالانسحاب الأميركي لأنه سيتعين عليها محاربة تنظيم داعش بدوننا”، أي إن الحرب ضد سوريا (وليس ضد “داعش”) مُسْتَمِرّة، ويجب على شيوخ الخليج تسديد مزيد من الأموال، وعلى تركيا وحلفاء أمريكا من أعضاء الحلف الأطلسي، مواصلة الحرب…
تزامن الإعلان الأمريكي أيضًا مع إعلان وزارة الخارجية الأمريكية موافقتها “على صفقة أسلحة لبيع تركيا منظومة صواريخ “باتريوت” والتجهيزات المرافقة لها، بقيمة 3,5 مليارات دولار”، كما تزامن مع إعلان تركيا “عملية عسكرية قادمة ضد تنظيم حزب العمال الكردستاني في المناطق الواقعة شرق الفرات”، ومع اتصال هاتفي بين أردوغان وترامب، وكتبت صحيفة “حرييت” التركية إن الجيش التركي حَدّدَ 150 هدفًا شرقي الفُرات، فيما أعلنت مليشيات العشائر الكُرْدية إنها ستنسحب، ولن تُحارب الجيش التّركي، مما يُشير إلى إن هذه المليشيات تستمد قُوّتها من الإحتلال الأمريكي والأطلسي، ولا تُحارب سوى الجيش السوري والمَدَنِيِّين السوريين، للإستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم…
تداعيات القرار الأمريكي:
اتفقت الصحف الأوروبية اليمينية، وكذلك المَحْسُوبة على “اليسار” على نقد (بل مُعارضَة) القرار الأمريكي، وتناست هذه الصحف إن كافة القوى الموجودة في سوريا هي قوات احتلال، لم تنل حتى الموافقة الشّكْلِية للأمم المتحدة (والأمم المتحدة لم تكن ولن تكون رَمْزًا للحق أو للعدالة)، وأعلنت صحف أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها “إن سحب القوات الأمريكية سوف يعزز قبضة روسيا وإيران، ويعزز سلطة الرئيس بشار الأسد”، وتطابقت وجهات نظر المعارضات والحكومات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وأعلنت هذه القوى “إن تنظيم داعش لم يهزم بَعْدُ، وإن القوات العسكرية (غير الأمريكية) ستبقى في سورية”، هكذا وبكل وقاحة، تعلن الأحزاب ووسائل الإعلام المُهَيْمِنَة في أوروبا وأمريكا انخراطها وتَمَاهِيها مع العقلية الإستعمارية، التي تُشكل إحدى أهم مقوّمات الفكر السياسي للإمبريالية، وأحدى الركائز الإستراتيجية للدول الرأسمالية المتطورة… يبحث قادة مليشيات الأكراد الموالين للإحتلال الأمريكي، عن دعم استعماري في باريس وبرلين، وعن “حماية” استعمارية، بديلة للإمبريالية الأمريكية، وعبَّر ناطق باسم ما يُسَمّى “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) عن قمّة العمالة والخيانة للأوْطان، بقوله آسِفًا، وبخيبة أمل في الإمبريالية: “إن قرار الانسحاب الأميركي المفاجئ من شرقي سوريا طعنة في الظهر وخيانة لدماء آلاف المقاتلين”…
في الصّف المقابل، صف الدّولة السّورية وحلفائها، رَحَّب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بقرار “دونالد ترامب”، مُعْتَبِرًا “إن تنظيم داعش قد هُزِمَ”، وقال بوتين إنه يتفق بدرجة كبيرة مع الرأي القائل بأن تنظيم “داعش” قد هُزم” (لكن تصريحات ترامب متناقضة بشأن هزيمة داعش)…
على الصعيد الدّاخلي الأمريكي، أدّى إعلان الرئيس الأمريكي بشأن سوريا، وكذلك أفغانستان (حيث يوجد رسميا 14 ألف جندي نظامي أمريكي، إضافة إلى المُرتزقة وقوات الدول الأخرى)، إلى استقالة وزير الحرب، الجنرال “جيمس ماتيس” (بنهاية شباط/فبراير 2019)، بعد يوم واحد فقط من هذا الإعلان، وتأتي هذه الإستقالة كنتيجة لاختلاف وجهات النّظر، داخل صفوف أعدائنا، بشأن أساليب وأدَوَات العُدْوان ضد الشعوب والبلدان، أي بشأن الوسائل والشّكل، وليس بشأن الجوهر والأهداف البعيدة، حيث يعتبر “جيمس ماتيس” إن أي انسحاب، ولو جُزْئِي، من سوريا حاليا “يعتبر مُبَكِّرًا وخطأً استراتيجيًّا فادحًا”، وهو ينتمي إلى العسكريِّين والسياسيين الأمريكيين (من الحِزْبَيْن) الذين يرغبون استغلال ذريعة “مكافحة الإرهاب”، لفترة ثلاثة عقود، تتخلل هذه الفترة زيادة الهيمنة الأمريكية واحتلال البلدان التي تختلف وجهة نظر حكوماتها مع الإسترتيجيات الأمريكية لإعادة تقسيم العالم.
في أفغانستان، يُتَوقّع خروج نحو سبعة آلاف جندي أمريكي، لكن إعلانات سابقة ومماثلة أظْهرت إن الإمبريالية الأمريكية تقوم بعملية تغيير الجنود أحيانًا أو تَتعاقد مع شركات المرتزقة، للقيام بنفس مهام الجنود النظاميين، مع توفير غطاء جوي أمريكي، وقد يكون إعلان الإنسحاب من أفغانستان، أحد شروط مواصلة المفاوضات مع حركة “طالبان” من أجل إبْرام “اتفاق سلام”…
مكاسب تركيا:
أصبحت منظمات الأكراد (بما فيها حزب العمال الكردستاني) أول الخاسرين من القرار الأمريكي، بسبب عمالة قادة هذه التنظيمات وارتهانها إلى الإمبريالية الأمريكية والحلف الأطلسي، وطبقت الولايات المتحدة، بشأن الأكراد، قاعدة استعمارية قديمة، تتمثل في استخدام الأقلِّيات، لضَرْب أعدائها، أو لتقسيم الشعوب الواقعة تحت الإحتلال والإضطهاد، إلى “إثنيات” و”طوائف”، بهدف عرقلة عملية توحيد الصفوف من أجل تحرير الأوطان، وفي مقابل خسارة الأكراد، راكَمَتْ تركيا المكاسب…
كتبت وكالة “أسوشييتد برس” إن الرئيس الأمريكي اتصل بالرئيس التّركي، قبل إعلان القرار بخصوص سوريا، مما يُؤكِّدُ وجود مساومات وصفقة بين حُكومَتَيْ الدّولتين الأطْلَسِيّتَيْن، منذ عملية إطلاق سراح المواطن الأمريكي الذي كان مُعتقَلاً في تركيا، فيما أكد أردوغان خلال المكالمة الهاتفية (وِفق وكالة “أسوشيتد برس”) “إن تركيا قادرة على القضاء على الإرهابيين، دون مساعدة الولايات المتحدة”، وأعلن أردوغان يوم الجمعة 21/12/2018 ترحيبه بقرار سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، وإن تركيا قررت تنفيذ عملية عسكرية في سوريا (شرقي الفُرات) في الشهور المقبلة، مما يؤكّد الأطماع التّركية في سوريا، بالإضافة إلى احتلال لواء إسكندرون الذي منحته إياها فرنسا، أثناء احتلالها سوريا (1918 – 1946)، لتصبح “مكافحة الإرهاب” ذريعة لاحتلال البلدان، من أفغانستان إلى ليبيا ومالِي، مرورا بالعراق وسوريا واليمن والصومال، وتدّعِي تركيا إن الهجمات الإرهابية (أي حزب العمال الكردستاني) تستهدف أراضيها، انطلاقًا من سوريا والعراق، مما يخلق ذرائع لاحتلال أراضي البلدَيْن…
من جهة أخرى، استفادت تركيا من ضبابية الموقف الروسي، بل من حسابات روسيا في مجال تسويق الغاز (بالإضافة إلى حسابات أخرى)، لتصبح حكومة الإخوان المسلمين في تركيا طَرَفًا في مفاوضات “أستانا” و”سوتشي” التي تُشْرِف عليها روسيا، رغم احتلال جزء من الأراضي السورية، وفرض إدارة ومناهج دراسية تركية على سكّان هذه الأراضي السورية، لتصبح بذلك حكومة تركيا مدعومة من الولايات المتحدة التي ستقدم السلاح والدّعم اللوجستي للجيش التركي في سوريا، وشريكًا لروسيا وإيران في مفاوضات ماراطونية، كَبَحَتْ انطلاقة الجيش السوري لتحرير أراضيه، وأعادت النقاش خطوات إلى الوراء، عبر طرح “لجنة دستورية”، وهي لجنة “خارج الموضوع”، لأن مسألة الدّستور شأن داخلي سوري، ولا حق لروسيا أو تركيا أو إيران، أو الأمم المتحدة، فَرْضَهُ على السّورِيين، ولا حتى طرح الموضوع ومناقشته…
يَخْتلف خطاب الرئيس التركي عن الرئيس الأمريكي، لأن ترامب يعتبر (على مستوى التصريحات العَلَنِيّة) تنظيم داعش مهزومًا فيما يعتبر أردوغان إن تنظيم داعش لا يزال يُشكل تهديدًا للمنطقة، وإن على الجيش التركي ملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب الجيش الأمريكي (تتعاقد أمريكا من الباطن عندما تعلن الإنسحاب، فتكلف حلفاءها بالمهام القَذِرَة، وهو حال الجيش التّركي)، وتستخدم تركيا مرتزقة “الجيش الحر” (الذي أُعِيد إحياؤُه، بسبب الحاجة إلى عُملاء)، لمحاربة منظمات الأكراد، بدل محاربة “داعش”، وفق ما أوردته وكالة “الأناضول” التركية، على لسان وزير الخارجية التركي، “مولود تشاووش أوغلو”…
الظرف الداخلي الأمريكي:
بعد الإنتخابات النصفية، خسر جناح دونالد ترامب بعض المواقع، في الكونغرس، وظهرت نتائج ذلك في رَفْضِ أغلبية المجلس بعض بنود الميزانية الإتحادية، ورَفْضِ رَفْعِ سقف الميزانية، وبسبب خلافات بشأن تمويل بناء جدار يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، بقيمة خمسة مليارات دولار، مما أدى إلى إغلاق عشرات الإدارات الفدرالية الأميركية، بداية من يوم السبت 22 كانون الأول/ديسمبر 2018، في ظل تعذّر تصويت مجلس النواب على مشروع قانون إنفاق قصير الأجل، وبسبب بلوغ عشرات الإدارات الإتحادية سقف الميزانية المحدّد لها، وفي مثل هذه الحالات، يضطرُّ مئات الآلاف من المُوظّفِين للبقاء في إجازة بدون راتب، ورَفَضَ الرئيس ترامب توقيع قانون اقترحه النواب الجمهوريون (حزب الرئيس)، لتمويل الإدارات الإتحادية لغاية يوم الجمعة 08 شباط/فبراير 2019، بسبب عدم تضمّن هذا النصّ، الذي وافق عليه الديموقراطيون، ما يكفي من الأموال لبناء الجدار على حدود المكسيك…
تزامن هذا الحدث الدّاخلي الأمريكي مع إعلان الرئيس ترامب “انسحاب القوات الأمريكية من سوريا وخفض القوات في أفغانستان”، وخلق هذا القرار خلافات داخل الإدارة الأمريكية، من ذلك استقالة وزير الحرب، كما تزامن مع اتهامات عديدة لدونالد ترامب ولأفراد أُسْرَتِه، باستغلال السلطة والتبذير في الإنفاق على تنقلات الرئيس (ذات الصبغة الخاصة أو لأغراض شخصية لا علاقة لها بوظيفته كرئيس)، وعلى المحلات العديدة التي يستخدمها لإقامة أُسْرَتِهِ، وتعيينه لأفراد أُسرته في مناصب حكومية، رغم نقص الخبرة (أو غيابها تمامًا)، ولذلك فإن موضوع الإنسحاب (الحقيقي أو الإفتراضي) من سوريا يحَوِّلُ الأنظار (ولو مُؤَقّتًا) عن مشاكل الرئيس وأفراد أُسْرَتِهِ…
الوضع الدولي:
اعتادت الولايات المتحدة والحلف الأطلسي على “الإنتصارات السّهلة” واحتلال وتخريب البلدان وإهانة الشعوب، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وتجلّى ذلك في العراق (سنة 1991 ثم 2003) ويوغسلافيا وأفغانستان وليبيا واليمن والصومال وغيرها، ولكن هذا السيناريو لم يتكرّر في سوريا، حيث دعمت روسيا والصين (ليس منذ البداية) الحكومة السورية، مما أتاح صمود الدولة ومؤسساتها في سوريا، ومما عَسَّر مهمة الإطاحة بالنظام وبالدولة، بعكس ما حَدَث في بلدان أخرى، مثل ليبيا والعراق والصومال وأفغانستان، ولكن الإمبريالية الأمريكية، وحلف شمال الأطلسي خلقا تنظيم داعش (كما خلقا القاعدة من قبله) لتبرير الحرب العدوانية والإحتلال لفترة ثلاثة عقود، كما كان يُصرح باراك أوباما وهيلاري كلينتون، ورموز الإدارة الأمريكية، منذ 2013…
شكّلت وقائع الحرب على سوريا انعكاسًا للوضع الدّولي، ولنشأة توازن جديد، قد لا يكون في مصلحتنا كعرب أو شعوب مُضْطَهَدَة أو طبقة عاملة، ولكن من شأنه ردْع الإمبريالية الأمريكية، وتحجيم دورها، فعلى المستوى الإقتصادي، أصبحت الصين قوة تُهدّد سيطرة الولايات المتحدة، فبادرت أمريكا لِشَنّ حرب تجارية على العالم، لا فَرْق بين أصدقاء (باستثناء الكيان الصهيوني) وأعداء، أو منافِسِين وخُصُوم، وبقدر ما تأثرت الولايات المتحدة وأوروبا من أزمة 2008 – 2009 بقدر ما تأقْلَم اقتصاد الصين (بفضل مركزية القرار التي يتّسم بها اقتصاد رأسمالية الدولة)، وتحَوَّلَ اقتصاد الصّين من الإعتماد على التصدير إلى الإعتماد على الإستهلاك والطّلب الداخلي، وبقدر ما ضعف دور أمريكا، ازداد نفوذ الصين الإقتصادي والدبلوماسي والعسكري، وإن بتَكَتُّم، حتى ظهور قضية جُزُر تحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشمالي، كما بذلت الصين وروسيا (وكذلك مجموعة “بريكس” في بداياتها) ما في وسعهما لإضْعاف هيمنة الدولار على الإقتصاد العالمي، ونَجَحَتا في خفض حصة الدولار في المبادلات التجارية العالمية، في ظل الإستسلام الأوروبي للهيمنة الأمريكية، وعدم استغلال اليورو كعملة دولية مُنافِسَة، من شأنها التقليل من هيمنة الدولار…
أما في أوروبا الشرقية فقد سَطّرت روسيا “خُطوطًا حُمْرًا” من خلال الرد العنيف على عدوان جيش جورجيا سنة 2008، ثم أثناء عملية رَدْعِ مليشيات أوكرانيا الفاشية، وكلاهما (جورجيا وأوكرانيا) من بلدان الإتحاد السوفييتي السابق، ويقع كل منهما على حدود روسيا، ويحظى بدعم سياسي وعسكري واستخباراتي أمريكي وصهيوني وأطلسي، وأدرَكَ العالم (وفي مقدمته الولايات المتحدة) إن روسيا خرجت من مرحلة حُكم “بوريس يلتسين” (الدّمْيَة الأمريكية) ومن أزمة 1997 – 1998 المالِيّة والإقتصادية، وخرجت من أزمة الدُّيُون، بل أصبحت روسيا تطْمَحُ لاحتلال الصفوف الأمامية في مجال السياسة الدّولية، وفي مجال ابتكار وتصنيع الأسلحة المتطورة، وظهر ذلك في الملف السوري، عبر النشاط الإستثنائي لوزير خارجية روسيا “سيرغي لافروف” (وهو من جيل الإتحاد السوفييتي)، ونجاح الدبلوماسية الروسية في استغلال نتائج القوة العسكرية على أرض سوريا، وإعادة توجيه المباحثات الدبلوماسية من “جنيف” إلى “أستانا” و”سوتشي”، وإدماج تركيا الأطلسية في هذا المسار، وإن كان ذلك لمصلحة كل من تركيا وروسيا، وليس بالضرورة لمصلحة الدولة والشعب في سوريا…
في مجال السياسة الدّولية، تدعم الولايات المتحدة التيارات الفاشية في أوروبا الشرقية منذ عُقُود (في بولندا والمَجَر وأوكرانيا، وفي دُوَيْلات بحر البَلْطِيق…)، ثم أصبحت تدعم اليمين المتطرف في دول الإتحاد الأوروبي الل29 (في أوروبا الغربية والشرقية) علَنًا، وأصبح “ستيف بانون”، المستقيل من إدارة دونالد ترامب، مستشارا استراتيجيا (عبر شركة الإستشارات والدعاية التي أسّسَها في بروكسل، قريبا من مقر المؤسسات الأوروبية) لليمين المتطرف، ويُشرف على تنظيم الحملات الإنتخابية والدعاية (لليمين المتطرف) على صعيد كل دولة على حدة، وكذلك على صعيد انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة (أيار/مايو 2019)، كما تعزّزت العلاقات بين الكيان الصهيوني واليمين المتطرف في أوروبا عبر هذه الأحزاب، وفي أمريكا، عبر الأحزاب التقليدية والإعلام، وعبر تيارات المسيحيين (الإنجيلِيِّين) الصهاينة، إضافة إلى مراكز البحث والمنظمات الصهيونية الأمريكية (آيباك و”واشنطن إنستتْيُوت” وغيرها)…
خاتمة:
نشرت صحيفة “لوموند” (20/12/2018) نقلا عن صحيفة “نيويورك تايمز” خارطة تَمَوْضُع مختلف القوات في سوريا، وبها عشر قواعد عسكرية ثابتة أمريكية (إضافة إلى القواعد الموجودة على الحدود العراقية – السورية)، وأول سؤال يتبادر إلى الذهن: هل ستترك الولايات المتحدة هذه القواعد؟ وإذا تركتها هل ستبقى فارغة أم تسلمها إلى “الحلفاء”؟
سبق وأن أعلنت الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق، وكذلك من أفغانستان، منذ سنوات عديدة، لكن القواعد العسكرية الأمريكية لا تزال منتشرة في العراق، إلى جانب إقليم كردستان الذي يُمثل في مجمله قاعدة عسكرية صهيونية وأمريكية وأطلسية ضخمة، أما المؤسسات في العراق فتخضع لأحكام دستور الإحتلال الأمريكي (دستور “بول بريمر”) الذي أَرْسَى قواعد المُحاصَصَة الطّائِفِيّة وخصخصة الدولة والنفط والكهرباء والمرافق العمومية، وفي أفغانستان، لا تزال القوات الأمريكية والأطلسية تحتل البلاد، واستعانت أمريكا بالهند التي تشرف على تدريب قوات الأمن، لإبعاد الصين التي تعمل على استغلال الثروات المنجمية الهائلة في أفغانستان (الواقعة على حدودها وحدود إيران)، ونَصَّبَت الولايات المتحدة في العراق كما في أفغانستان، قوى محلية تُدافع عن مصالح الشركات الأمريكية وعن استرتيجية الهيمنة الأمريكية، وارتبط وجودها بالهيمنة الأمريكية…
في سوريا، أعلن دونالد ترامب “إن الولايات المتحدة تتحمل تَبِعات الدفاع عن مصالح الحُلفاء… يجب أن يتحمل غيرنا وزْرَ الحرب…”، وكتب دونالد ترامب في سلسلة تغريدات نشرها على تويتر “إن الولايات المتحدة تقوم بعمل دول أخرى، منها روسيا وإيران، دون مقابل يذكر… لا نريد أن تصبح أمريكا شرطي الشرق الأوسط، ولا نريد حماية الآخرين، دون مُقابل، خصوصًا إن هؤلاء الآخرين لا يُقَدِّرُون جهودنا ولا يَشْكُروننا على ما نقوم به لمصلحتهم”، وهو نفس الخطاب الذي ابتز به دُوَيْلات الخليج، والسعودية بشكل خاص، ونَهَبَ من شيوخ النّفط مئات المليارات من الدولارات “لقاء حمايتِهِم”، كما يزْعَم…
من جهة أخرى، تُعوّل الولايات المتحدة على الحفاظ على مصالحها بتكاليف أقل بكثير من احتلال الأراضي مباشرة من قِبَل الجيش الأمريكي، وقد يقوم الجيش التركي (الأطلسي) بهذه المُهمّة، لكن لتركيا حساباتها الخاصة التي قد تتعارض تكتيكيا مع مصالح الولايات المتحدة، وعمدت أمريكا إلى تَنْويع العُملاء، فأوهمت قادة مليشيات الأكراد بمساعدتهم على الإنفصال وإنشاء دولة شمال سوريا (مثل إقليم كردستان العراق)، رغم معارضة تركيا…
من جهة أخرى، ذكرت الصحف الأمريكية إن الجيش الأمريكي يعتزم تدريب عشرات الآلاف من القوات الكردية شمال سوريا (على الحدود مع تركيا)، وإذا صح الأمر، ستدخل منطقة الحدود بين سوريا والعراق وتركيا في دوامة من الصراعات المسلحة تُبْقي هذه المنطقة الغنية بالنفط وبالأراضي الخصبة في حالة حرب دائمة، لكي لا تعود إلى الدولة السورية، وتكون منطلقًا لعمليات إرهابية في سوريا والعراق، وكانت أمريكا قد أعلنت منذ سنوات أنها سوف تمنع تواجد الجيش السوري على الحدود مع العراق، فيما تذرّع الكيان الصهيوني بوجود القوات الإيرانية لقصف مواقع الجيش السوري، كلما تقدم من مواقع المجموعات الإرهابية بأصنافها وتسمياتها المختلفة…
لم تقع أية إشارة أمريكية أو أطلسية، لا في التّصريحات الرّسمية، ولا في وسائل الإعلام، إلى ضرورة استرجاع الجيش والدولة في سوريا الأراضي التي سوف يخرج منها الجيش الأمريكي الذي يحتلُّها، بل تعمل أمريكا على تسليمها لقوة حليفة لها، بهدف تقليل الخسائر الأمريكية، وتعظيم الأرباح (وهو قانون رأسمالي أساسي)، قد تكون هذه القوة الحليفة الجيش التركي المنتمي للحلف الأطلسي، وقد تكون مليشيات الأكراد، وفي كل الحالات، فإن الأمر يتطَلّب تحرير هذه الأراضي، عاجلاً أو آجِلاً…
* البيانات الواردة مُستقاة من وكالة أسوشيتد برس (أ.ب) + موقع صحيفة نيويورك تايمز + أ.ف.ب + رويترز من 19 إلى 22 /12/2018
التعليقات مغلقة.