الانسحاب الأمريكي من سوريا… دلالات وتفاعلات / د. فايز رشيد




فايز رشيد

الجمعة 28/12/2018 م …

بمفاجأة سريعة وبخطوة دراماتيكية وصاعقة وشديدة الوقع على الحلفاء، كان قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، وكان قد لمّح قبل أشهر إلى الانسحاب، لكن تصريحات لاحقة لوزير الدفاع أكدت بقاء القوات حتى هزيمة «داعش» الكاملة، وانسحاب إيران والوصول لحل سياسي، ولكن يبدو أن ترامب عاد إلى قناعاته بأن النفوذ الأمريكي في سوريا ليس ضروريا وليس مفيدا ولا بأس أن يتركها لروسيا، وربما اعتقد بأن إسرائيل ستكون قادرة على ردعها من الاقتراب لحدودها وردع حلفائها، أما الاتراك فلينافسوا على ما شاؤوا على مناطق الشمال السوري، فالتأثير عليهم أفضل من خلال العقوبات والضغوط الاقتصادية. وقال ترامب في معرض دفاعه عن القرار، إن الولايات المتحدة تستطيع الحفاظ على نفوذها بوسائل أخرى.
من الواضح أن طريقة تفكير ترامب مقطوعة الصلة كليا بالاستراتيجية والسياسية التقليدية للدول، وقد ترك قراره صدمة عامة في الأوساط الأمريكية وقاد إلى استقالة وزير دفاعه على الفور، الذي سبق أن حذّر من أنه سيكون من التهور الانسحاب من سوريا في الفترة الحالية، ولحقه بعد يومين مندوب الولايات المتحدة إلى التحالف في سورية ماكغورك الذي أبلغ وزير الدفاع جيمس ماتيس معارضته الشديدة للقرار.

طريقة تفكير ترامب مقطوعة الصلة كليا بالاستراتيجية والسياسية التقليدية للدول

إخلاء الساحة بهذه الطريقة نظر اليه معظم المعلقين في الولايات المتحدة كإضافة جديدة لحركات ترامب الغرائبية، حيث يصعب المساجلة معه بجدية كخيار يستند إلى تقييم استراتيجي ما. بالمقابل عبر شيوخ ونواب عن سخطهم الشديد على خيانة ترامب لحلفائه، وتحديدا الأكراد، الذين تستعد تركيا لاستئصالهم ولم يكن يحميهم سوى الوجود الأمريكي.لا بد أن أوروبا وأطراف التحالف الدولي يفكرون كيف يمكن الاستمرار قدما، بوجود شخصية كهذه على رأس القوة الأعظم صاحبة الدور الأول في كل الشؤون الدولية والإقليمية، وكانت «مجموعة الصراع الدولية» توقعت في بيان نشرته في 15 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بأن الانسحاب «المتسرع» من شمال شرق سوريا من شأنه أن يطلق قوى متنافسة تتصارع لتحقيق الامتيازات، وتحذر من أن «عدم وجود اتفاق مسبق متفاوض عليه، يمكن أن يهدد بنشوء صراع متصاعد». ورأت «التايمز» أن الانسحاب سيكون له وقع مختلف على الأطراف، بحسب مصالحها في الوجود الأمريكي في المنطقة، وبحسب علاقتها معها. من بين ردود الأفعال المُرتبِكة وتلك القلِقَة التي أَحدثها قرار ترامب، المفاجئ وغير المتوقع والصادم لقوى كثيرة والقاضي بسحب قواته من الأراضي السورية، يبرز الموقف الفرنسي المُثير في حدته، كما الصياغات اللافتة في التصريحات الصادِرة بتوجيهات من قصر الإليزيه، حيث يعيش الرئيس ايمانويل ماكرون، حالة غير مسبوقة من التوتر والانفعال والضعف السياسي، الذي كشَف انهيار شعبِيته وخشيته من تداعيات الإعصار المتنامي القوّة الذي سببه حراك السترات الصفراء المستمر، التي ما تزال رافِضة كل التنازلات التي قدمتها ادارة ماكرون، تلك التنازلات الكفيلة ضمن أمور اخرى، بالإسهام في بروز خلافات بينه وبين قيادة الاتحاد الاوروبي، خاصة لجهة خروج فرنسا عن الأُطر والمحددات التي تفرضها إدارة الاتحاد، على نسبة العجز المسموح بها في ميزانية الدول الاعضاء، والتي سيكون لقرارات ماكرون الاقتصادية (كرفع الحد الأدنى للاجور وإدخال زيادات على الرواتب)، أثر كبير في ارتفاع نسبة العجز وتجاوز النسبة التي تحدّدها انظمة الاتحاد الاوروبي. موقف فرنسا الرافِض لقرار ترامب الذي وصفته وزيرة الدفاع الفرنسية بانه «فادح للغاية»، والمتكئ على قرار فرنسي بـِ»الإبقاء على وجودها العسكري في سوريا، لمواصَلة محاربة الارهاب هناك»، رغم قرار واشنطن بالانسحاب، يشي بأنها مستمرة التواجد في سوريا رغم كل الصراع السائد والمتجدد في حدودها الشمالية الشرقية.
لا أحد ينكر أن الانسحاب الأمريكي سوف يصب في مصلحة النظام السوري، وسيزيد من إحكام سيطرته وحلفائه على المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الأمريكية أو لحلفائها، ورغم أن روسيا كانت ولاتزال حليف النظام «الأقوى» خلال المرحلة، لكن كسبها من هذا الانسحاب الأمريكي سيكون أقل نسبيا، نظرا لأن وجودها في سوريا يقتصر على دعم عسكري لتوفير المساعدة العسكرية للنظام مقارنة بالوجود الإيراني، الذي يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بشكل أكثر تشعبا إلى حلفاء لها في لبنان والعراق. بوتين يقول إنه متفق مع ترامب على أن الدولة الإسلامية هزمت في سوريا. تعتبر تركيا بلا شك طرفا خاصا ضمن سياق الصراع الدائر في المنطقة، وحقيقة كونها حليفا أمريكيا، وعضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أبقاها طيلة الأعوام السابقة تحت رحمة المساومات، خاصة فيما يتعلق بمسألة الأكراد، عدو تركيا الأول. الولايات المتحدة كانت حليفا داعما للفصائل الكردية في الشمال السوري منذ عام 2015 والانسحاب الآن سوف يترك هذه الفصائل تحت رحمة تركيا، والرئيس التركي لم يخف نواياه بتدخل عسكري في الشمال السوري، ما يوحي بأنه على استعداد لتنفيذ ضربة ضد القوات الكردية هناك، لذلك فالأكراد هم من أكبر المتضررين من الخروج الأمريكي.
جدير الأخذ بعين الاعتبار أن «مركز دراسات الحرب الأمريكي» نشر تقريرا يوم 19 ديسمبر الحالي، بعد إعلان ترامب انسحاب القوات الأمريكية بساعات، جاء في مطلعه «لم تهزم الولايات المتحدة وحلفاؤها داعش في العراق أو سوريا»، ما يعني تكذيبا علنيا للرئيس ترامب. ويتخوف التقرير من أن جيوب التنظيم قادرة على لملمة نفسها مرة أخرى، وأن آلاف المقاتلين ما زالوا موجودين في مناطق متفرقة من البادية السورية والقرى، بالإضافة إلى وجود شبكة لسيطرتهم من خلال طرق وأنفاق تمتد لأطراف المدن السورية أيضا. أما المنزعجون أيضا، في معادلة «سوريا من دون قوات أمريكية» فقد رأت صحيفة «التايمز» أن أولهم الشعب الكردي، الذي فقد حليفه الأساسي في المنطقة وتُرك معلقا تحت رحمة الاجتياح التركي لمناطقه. وقالت قوات سوريا الديمقراطية  في بيان لها أصدرته يوم 11 ديسمبر: «أن سحب القوات والمسؤولين الأمريكيين من منطقتها ستكون له تداعيات خطيرة على الاستقرار العالمي، وأن ذلك سيؤدي إلى خلق فراغ سياسي وعسكري في المنطقة وترك شعوبها بين مخالب القوى والجهات المعادية». من ناحية ثانية، تأتي خسارة إسرائيل كنتيجة منطقية للربح الإيراني في المنطقة، فإسرائيل تعتبر هذا الوجود خطرا رئيسيا يهدد أمنها، رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو قال يوم الخميس الماضي: إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. كما تشعر دولة الكيان بالقلق أيضا من أن خروج أكبر حليفة لها قد يقلص نفوذها الدبلوماسي في مواجهة روسيا أكبر داعم للحكومة السورية. ومع وجود ملايين الناس من الذين نزحوا وهاجروا، تحذر منظمات إغاثة دولية من أن الانسحاب الأمريكي المفاجئ ستكون له عواقب وخيمة على الصعيد الإنساني في مناطق عديدة من الشمال السوري. ويقول ديفيد ميليباند، رئيس «لجنة الإنقاذ الدولية»، تم اتخاذ قرارات سياسية وعسكرية طيلة هذا الصراع من دون أي اعتبار واضح للعواقب الإنسانية. ونتيجة لذلك فإن كل قرار قد يضيق الخناق على اللاجئين ويضعهم تحت خطر أكبر.
يبدو أن معسكر المنزعجين الإقليميين الثلاثة، تركيا وإسرائيل وكرد سوريا في حيرة من أمرهم. وليس وصف الخطوة من غالبية الصحف الصهيونية ونتنياهو، بأن قرار ترمب صدمة وصفعة، وأن التبجّح بأن اسرائيل ستعتمد على نفسها، ما هو إلا أحد تجلّيات هذا الارتباك، رغم عدم بروز تحرّك امريكي ميداني جدّي، يوحي بان إدارة ترامب قد حزمَت امرها نهائياً، في اتجاه الانكفاء والجلاء عن الاراضي السورية، فضلاً عما يستبطنه القرار التركي بـِ»تأجيل» الاجتياح لمناطق شرق الفرات السورية، بذريعة عدم التعرّض لنيران صديقة، ناهيك عن الاضطراب الذي يعيشه كرد سوريا وفقدانهم البوصلَة والإرادة في تحديد خطواتهم اللاحقة، خاصة في المسارعة لاغتنام الفُرصة المُتاحة (حتى الان) للعودة إلى حضن الوطن الأُم وتسوية أمورهم مع دمشق.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.