نقد كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية- الديالكتيك) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (5 من 5) / د. عدنان عويّد

Image result for ‫عدنان عويد‬‎

د. عدنان عويّد* ( سورية ) الجمعة 28/12/2018 م …




*وباحت من ديرالزور …

الجدل كما تراه الماركسية : 

     تقرر الماركسية إن المسألة الأساسية للفلسفة لم تعد معرفة الواقع فحسب, بل وتغييره أيضاً. فالعلاقة الجدلية بين الفكر والواقع, والعمل على تغيير هذا الواقع ظلت تشكل الموقف الفكري الأكثر جدية وحسماً  في رد حَمَلَةِ الفكر الماركسي على الفلاسفة والمفكرين المثاليين الذين نظروا في هذه المسألة المتعلقة بطبيعة العلاقة بين الفكر والواقع.

      لقد جاء, أن الفكر المثالي بعمومه ومنه (فكر البوطي) كما تبين معنا, هو فكر يقر بأن الفكر هو من يوجد الواقع, إن كان ممثلاً بالله كما تقول المثالية الموضوعية, أو من فكر الإنسان ذاته كما تقول المثالية الذاتية, أو أن الإنسان غير قادر على معرفة مرجعية هذا الفكر كما تقول (اللاأدرية). أما الماركسية فتجد أن الفكر هو نتاج الواقع, – أي الواقع ممثلاً بالإنسان وعلاقته مع الطبيعة والمجتمع -أثناء إنتاج الإنسان لخيراته المادية, فالواقع المادي ممثلاً بالطبيعة والعلاقات اجتماعية ينعكس في ذهن الإنسان, والإنسان يقوم بدوره عبر الدماغ بتحليله والعمل على ترميزه بإشارات أو رموز أو لغة فيما بعد من أجل التفاهم مع آخيه الإنسان لحل مشاكلهم المتعلقة بطبيعة علاقتهم مع الطبيعة ومع بعضهم معاً مادياً وفكرياً. وهذه العملية هي في حالات دائمة من الصيرورة والسيرورة في تطورها وتبدلها.

    أما مفهوم الجدل, فالماركسية تقول: إن الناس في سياق سعيهم إلى المعرفة والنشاط العملي يضعون لأنفسهم دائماً أهدافا محددة, ومهاماً معينة, بيد أن وضع الأهداف وصياغة المهام لا يعنيان تحقيق المنشود, فمن المهم للغاية هو إيجاد السبل والوسائل والطرق الكفيلة لتأدية هذه المهام أو الوظائف المطروحة. إن هذه الطرق والأساليب والوسائل المحددة للبحث النظري والنشاط العملي هي ما تسمى بالمنهج. ومن المستحيل أن تحل أية مشكلة دون استخدام المنهج. فالأمور لا تحل بشكل عشوائي أو اتكالي. ومن هذه المناهج الكثيرة التي وضعها الإنسان لنفسه يأتي المنهج المادي الجدلي, الذي يُعتبر مفتاح معرفة لكل العلوم في ميادين الطبيعة والمجتمع.

     وإذا كان الجدل (الديالكتيك) في العصور القديمة كان يعني فن الجدل والنقاش للوصول إلى الحقيقة  بكشف المتناقضات في حجج الخصوم وحالها, إلا أنه صار عند الماركسية (منهجاً لمعرفة الواقع وتغييره. وهو يستند إلى انجازات العلم والخبرة الاجتماعية والتاريخية. ويقر الجدل بأن الكون هو عبارة عن عملية سرمدية من الحركة والتجدد واضمحلال القديم وميلاد الجديد.).(40).

     يكتب إنجلز: ( بالنسبة للفلسفة الجدلية لا يوجد شيء مطلق أبدي, فهي ترى على كل شيء وفي كل شيء أثر السقوط الحتمي. ولا يمكن أن يصمد لها إلا العملية المستمرة للميلاد والاندثار, عملية الصعود الذي لا ينتهي من الأدنى إلى الأعلى.). (41) .

     بعد عرضنا هذا لمفهوم الجدل كما تراه الماركسية, والذي نستطيع تحديد دلالاته على أنه علم قوانيين حركة المادة بكل أشكالها. وسأقوم الآن بعرض أهم ما يتعلق بهذه الماركسية بشكل مكثف من حيث المفهوم, وعلاقاتها بالشيوعية, ثم عرض أهم قوانينها ومقولاتها.

ما هي الماركسية؟.

     قبل الدخول في هذا الموضوع, دعونا بداية أن نقدم تعريفاً أولياً للماركسية.

      الماركسية في سياقها العام, هي منهج علمي يقوم على تحليل الظواهر وإعادة تركيبها أو بنائها, ولم تكن في يوم من الأيام نظرية أو مذهباً جامدين. والماركسية لا تعني الاشتراكية أو الشيوعية, كما أشرنا في موقع سابق من هذه الدراسة, فالشيوعية والاشتراكية نظامان اقتصاديان واجتماعيان, يصل تطور قوى وعلاقات الإنتاج فيهما إلى مرحلة تاريخية تسمح بطرح ومناقشة وتطبيق المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتعلقة بهذين النظامين.

      إن مسائل الفكر الاشتراكي والشيوعي وتطبيقاتهما قد طرحت أساساً قبل وجود الماركسية كما اشرنا ايضاً في هذا السياق سابقاً, مع غض النظر هنا عن مثاليتها أو علميتها. وبالتالي, مع سقوط التجارب الاشتراكية والشيوعية وانهيار منظوماتها عالمياً, يَفرض علينا أن نقوم هنا بتصحيح بعض المقولات أو المفاهيم التي أصبحت دراجة وبخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة, حيث راح الكثير من الكتاب والمفكرين الليبراليين والمتدينين وحتى بعض الماركسيين يقولون بأن سقوط المنظومة الاشتراكية يعني سقوط الماركسية, وهذا دفعهم أيضاً لطرح مفاهيم جديدة, تتعلق بالماركسية وإعادة توصيفها, مثل : “المذهب الماركسي” و “غياب الصفة العلمية للماركسية”, و”الماركسية أصبحت إطاراً أيديولوجياً تقليدياً”, وغيرها من المفاهيم والتوصيفات التي برأيي, هي بحاجة ماسة إلى التوضيح .

     في ردنا على ادعاء مذهبية الماركسية نقول: إن الماركسية لم تكن مذهباً في يوم من الأيام, لا من حيث تسميتها من قبل من طرحها من جهة, ولا من حيث طبيعة قوانينها ومقولاتها من جهة ثانية. فالماركسية كانت ولم تزل منهجاً في التفكير, لها قوانينها ومقولاتها ممثلة في ( المادية الجدلية والمادية التاريخية), والتي يمكن وصفها مجازاً بالنظرية العلمية. فنعتها بالمذهب, هو لصق صفة الجمود بها, والجمود ليس من صفات الماركسية التي من أولى قوانينها الحركة والتطور والتبدل.

     أما لجهة القول: بغياب الصفة العلمية عنها, فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف غابت الصفة العلمية عنها وهي لم تزل كمنهج تتمسك بكل مقولاتها وقوانينها التي قامت عليها؟, وهي القوانين والمقولات ذاتها التي منحتها الصفة العلمية, مثل الحركة والتطور والتبدل والتطور الحلزوني, والعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون والجزء والكل والداخل والخارج والتحولات الكمية والكيفية, وكذلك قولها بنسبية الحقيقة وغير ذلك. .

     أما لجهة نعتها بالآيديولوجيا التقليدية, أي الآيديولوجيا التي وصلت إلى مرحلة الجمود وفقدان قدرتها على مجارات قضايا العصر, وبخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية, فهذا النعت أيضاً غير وارد لسبب أساس وهو: إن الآيديولوجيا في سياقها العام عندما تقوم في جوهرها على الحركة والتطور والتبدل, لم تعد أيديولوجيا تقليدية (جامدة) من حيث بنائها ووظيفتها, بل هي تتحول إلى “وعي مطابق”. أي وعي يجاري الواقع الملموس بالزمن الملموس, دون اللهاث وراء الحدث اليومي المباشر ونسيان الأهداف الإستراتيجية التي هي من صلب المنهج الماركسي.

     هذه مسائل إشكالية وخلافية في الآن ذاته, ساهم في نشرها وتعميمها كما اعتقد من شعروا بخطورة المنهج الماركسي على مصالحهم, وبخاصة الطبقات الاستغلالية, ويأتي على رأسها الطبقة الرأسمالي التي صرفت مليارات الدولارات من أجل تشويهها ومحاربة من تبناها فكرياً وعملياً تحت شعارات كاذبة, مثل الزندقة والكفر والإلحاد والإباحية والاستبداد, لا لشيء, إلا كونها تقوم بتحليل الواقع تحليلاً علمياً منطقياً يؤدي بالضرورة إلى الوصول لكشف الواقع وتبيان سلبياته وضياعات الإنسان فيه وحالات غربته واستلابه بفعل ممارسة القوى المستغلة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً, وبالتالي مساهمات حواملها الاجتماعين من كتاب وباحثين ومفكرين بإنارة العقول نحو طريق العدالة والمساواة واحترم الرأي والرأي الآخر وتحرير المرأة والمواطنة وبناء دولة القانون وكل ما يساهم في تحقيق سعادة الإنسان وأمنه واستقراره في المجتمع. هذا في الوقت الذي سادت في الغرب وأمريكا نظريات ومذاهب فكرية وممارسات عملية على كافة المستويات, حملت بذاتها كل الصفات السلبية التي حملوها للماركسية ومعتنقيها أو المؤمنين بها, كالوجودية والفرويدية والدارونية الاجتماعية وكل ما يمت لما بعد الحداثة من نظريات النهايات (والموت) التي زادت في غربة وتشيء الإنسان واستلابه وغير ذلك, ومع ذلك لم تحارب هذه النظريات, بل فتحت قاعات العلم والعرض وقنوات الإعلام بكل اتجاهاته لها في أوربا والأمريكية وغيرها من دول العالم.

     أما مسألة التشظي الماركسي التي تمثلت في تعدد المدارس الماركسية, فهذه مسألة لا ترتبط بطبيعة الفكر الماركسي ذاته وممارسته, وهو الفكر الذي يؤمن بخصوصيات الواقع وتاريخيته وتعدد تجاربه, وإنما ارتبطت بالتجارب الاشتراكية, وهذه المسألة بالذات أشار إليها منظرو الفكر الماركسي بدقة, ومنهم لينين على سبيل المثال عند مخاطبته قادة الأحزاب السياسية التي تبنت الطريق الاشتراكي في التنمية آنذاك واعتبرت أن التجربة الاشتراكية السوفيتية هي الأنموذج الأمثل الذي يجب أن يقتدي به قائلاً: ( يخطئون هؤلاء الذين يقولون إن ذلك اللون الرمادي صالح لكل زمان ومكان). وهذا ما أثبتته التجربة, حيث فرضت الظروف الموضوعية والذاتية للشعوب والدول التي اتخذت الاشتراكية طريقاً للتنمية العديد من التجارب الاشتراكية, مثل التجربة الروسية, والتجربة الصينية, والأوربية, وتجارب دول العالم الثالث. أما التجربة الاشتراكية التي تبنتها أحزاب الطبقة العاملة في الغرب مثلاً, فهي تجربة براغماتية بحت شجعت الطبقة الرأسمالية على قيامها, إن لم نقل سيطرت عليها بشكل غير مباشر رغبة منها في السيطرة على طموحات وإرادة الطبقة العاملة في الغرب, وهذا ما تم بالفعل, فكل الأحزاب التي تدعي الاشتراكية ومارست السلطة تحت يافطة “حزب العمال” هي لا تختلف في توجهاتها وحواملها الاجتماعية – وبخاصة قياداتها – من حيث العمل لمصلحة النظام الرأسمالي, بدءاً بحزب العمال الفرنسي, مروراً بالحزب العمالي البريطاني, وصولاً إلى الاشتراكية الدولية ممثلة بكل أحزابها على مستوى الساحة الدولية العالمة. وهذه التجربة الاشتراكية الروسية, قد اعتمدت على الطبقة العاملة كعمود فقري في بناء الاشتراكية, بينما الصينية اعتمدت على الفلاحين, ودول العالم الثالث قاد الفعل الاشتراكي فيها البرجوازية الصغيرة والانتلجينيسيا, وفي مقدمتها قوى الجيش… ألخ.

     أما الحديث عن نهاية الماركسية وخمود شعلتها, (نظرية التغريغ الأيديولوجي) وما هي مقاربتنا لبداية جديدة لها, فهذا يدفعنا للتساؤل من جديد, هل من المعقول أن تخمد أو تنطفئ شعلة كل ما هو علمي وعقلاني ويقول بالحركة والتطور والتبدل والنسبية والعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون والجزء والكل.. الخ, بأنه أمر حتمي في هذه الحياة؟, وهل استمر في تاريخ البشرية غير من يحمل هذه الصفات العقلانية والعلمية؟, ثم أين هم من وقفوا ضد كوبونيك وهارفي, وسقراط, وأبن رشد, وغيرهم ممن حملوا مشعل العلم والعقلانية. 

    أعتقد أن أزمة الماركسية هي أزمة معرفة بها أولاً, ثم أزمة حوامل اجتماعية مثقفة لم تصل بعد إلى مرحلة وعي الذات ثانياً, وأخيراً أزمة من لم يستطع بعد أن يفهم أن الماركسية ليست الاشتراكية أو الشيوعية, فالدعوة إلى العدالة طرحت قبل الماركسية بمئات السنيين, وستظل تطرح في التاريخ الإنساني من قبل من يؤمن بالعدالة الاجتماعية, ماركسياً كان أم غير ماركسي . ثم أن مسألة الجدل الماركسي ليست خاصة بماركس اليهودي, أو إنجلز أو لينين, إنما هي مقولات هيراقليطس وابن خلدون وغيرهم الكثير. بل لنقل هي مقولات دينية إسلامية لمن يعطي مساحة للعقل في قراءته أول آية (إقرأ باسم ربك… ), هذه الآية التي تدل بل تؤكد على ضرورة وأهمية الوعي بالنسبة للإنسان..أليست الحرية هي وعي الضرورة , وان القراءة هي أول أبواب الوعي؟!.

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

40- أسس المعارف الفلسفية. مرجع سابق. ص14 .

41- المرجع نفسه- ص14

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.