ماذا تعرف عن “رجال الزهور” في منطقة عسير / السعودية ؟
عندما نفكر في الزيّ السعودي يخطر على بالنا الثوب الأبيض الطويل، الغترة أي الوشاح الأبيض الذي يوضع على الرأس والعقال الذي هو عبارة عن حلقةٍ سوداء توضع فوق الغترة، ولكن هل سمعتم يوماً عن رجال قبيلة قحطان في المملكة العربية السعودية الذين يزيّنون روؤسهم بالزهور الملوّنة ويجذبون السيّاح بطلتهم الفريد ونمط حياتهم الاستثنائي؟
إليكم التقاليد والعادات الخاصة بـ”رجال الزهور” وكيفية تغلّبهم على المشقات الطبيعية وتحولهم عن غير قصد وبصورةٍ غير مباشرةٍ أحياناً إلى ركيزةٍ أساسيةٍ في السياحة السعودية التي تشكل عصب خطة “رؤية 2030”.
تيجان الزهور والسياحة
تنطلق سيارات دفع رباعي وتسلك طريقها إلى جبالٍ ومساحاتٍ خصبةٍ، في حين أن المقاعد الخلفية تمتلىء بالعائلات السعودية والسياح القادمين من أجزاءٍ أخرى من شبه الجزيرة العربية، وبينما تشق المركبات طريقها عبر الضباب، يتوقف الركاب بضع مرات لإخراج كاميراتهم ومحفظتهم كلما مرّوا بأكشاكٍ تبيع العسل أو الفاكهة، أما المنتج المرغوب أكثر من غيره فهو تيجان الزهور الحمراء والبرتقالية الجميلة، وهكذا بعد أن تتم عملية البيع والشراء يتوقف الزوار أمام عدسة الكاميرا مع أكاليل الزهور فوق رؤوسهم والابتسامة التي لا تفارق شفاههم.
فما هي القصة الكامنة وراء تيجان الزهور هذه؟
أوضح موقع “بي بي سي” في تقريره أن أكاليل الزهور المعروضة للبيع في محافظة عسير ليست مجرد “طعم” لجيوب السياح الذين يريدون فقط التباهي بها أمام أصدقائهم في الوطن، بل إن هذه التيجان المصنوعة بشكلٍ متقنٍ تشكل في الحقيقة الزيّ التقليدي لما يسمّى “رجال الزهور”، والذين هم أعضاء من قبيلة قحطان التي لا تزال تحافظ على تقليد متوارث هو عبارة عن ارتداء عقدٍ من الزهور والأوراق الخضراء من باب الجمال والصحة، ومن هنا يقوم هؤلاء الرجال ببيع هذه التيجان التقليدية لزوار المنطقة.
واللافت أن رجال قبيلة قحطان يتركزون بمعظمهم اليوم في جنوب شبه الجزيرة العربية، ويقال أن قحطان هي من أقدم قبائل المنطقة، أما لقب “رجال الزهور”، فيأتي من حقيقة أن العديد من الرجال القحطانيين يقومون بتزيين رؤوسهم بعقود من الزهور والنباتات والأعشاب.
التيجان فن ومنافسة
إن طريقة صنع تيجان الزهور هذه لا تحصل بطريقةٍ عشوائية، بل يمكن القول أن صنعها هو “فن” بحدّ ذاته تشتد فيه روح المنافسة، وفق ما يشير إليه الباحث “تييري موغر” شارحاً ذلك بالقول أن رجال القبيلة يتعاملون مع صنع هذه التيجان الزهرية وكأنها من صلب مسابقة جمالٍ ودية، بحيث أنهم يدخلون على تصاميمهم إضافاتٍ ملونة قدر الامكان كالياسمين والقطيفة.
واللافت أن عامل “العمر” يلعب دوره في التصميم، ففي حين أن الرجال اليافعين يختارون وضع تيجان تتميز بألوانها الزاهية، فإن الرجال في منتصف العمر يتخذون نهجاً أكثر رصانةً فيصنعون التيجان مثلاً من الريحان البري.
أما سبب وضع “تيجان الزهور” فيختلف من شخصٍ إلى آخر، ففي حين أن البعض يرتدي تلك التيجان يومياً لأغراضٍ جماليةٍ، فإن البعض الآخر لا يعتمرها إلا في المناسبات الخاصة كالأعياد الاسلامية الكبرى، فيما لا يزال البعض يميل إلى وضع إكليل الزهور على رأسه عند المرض فقط، بحيث يختار هؤلاء الأشخاص الأعشاب والأوراق الخضراء بحسب خصائصها الطبية.
وتعليقاً على هذا الموضوع، قال “إيريك لافورج”، المصوّر الصحفي الفرنسي الذي قضى سنواتٍ في توثيق المجتمعات المهمشية في جميع أنحاء البلاد: “إنهم يلبسون الزهور لأسبابٍ عديدةٍ، فالجمال مهم إنما هي طريقة أيضاً لتجديد العقل وللرائحة الطيبة”، مشيراً إلى أن الزهور مفيدة للصداع كما أن بعض أنواع الزهور والأعشاب توضع داخل الجيوب الأنفية لعلاج نزلات البرد.
تاريخ حافل بالمشقات
ليست تيجان الزهور العنصر الوحيد الذي يميّز هذه المجموعة القبلية عن بقية الثقافة السعودية المهيمنة التي نشرتها النخبة الحاكمة المنحدرة معظمها من منطقتي نجد والحجاز، بل هناك بعض العوامل الطبيعية الصعبة التي تجعل حياة سكانها تختلف عن نمط حياة السعوديين الآخرين.
ففي الواقع تقع عسير، مسقط رأس رجال الزهور، فوق مرتفعات تحظى بقسطٍ وافرٍ من الأمطار الغزيرة أكثر من أي منطقةٍ أخرى في المملكة العربية السعودية، وفي شهري مايو ويونيو يمكن لدرجات الحرارة في المدن السعودية الداخلية أن تصل إلى ما فوق 30 درجة مئوية، غير أن محافظة عسير التي تبعد 900 كيلومتر جنوب غربي الرياض، ترحب بزوارها برياحٍ باردةٍ غير متوقعة وبعواصف ممطرة في بعض الأحيان، في حين أن قممها التي تعد الأعلى في البلاد، تتميز بالحقول الزراعية التي يستغلّها السكان في زراعاتٍ صغيرة الحجم للقمح والبن والفاكهة.يوضح موقع “بي بي سي” أن قبيلة قحطان لديها تاريخٌ عصيب حافل بالمشقات، ففي اللغة العربية إسم المنطقة نفسها “عسير” يعني “اشتدّ وصعب”، وهذا يعود بشكلٍ خاص إلى طبيعة المنحدرات المتعرجة.
وتكشف حكايات الفولكلور المحلية أن منحدرات عسير المتعرجة والصعبة هي التي دفعت بضع عائلات القحطانية للجوء إليها والفرار من الأراضي المنخفضة المحيطة، هرباً من جيوش الامبراطورية العثمانية المحتلّة منذ أكثر من 350 عاماً، وفور إحتلال “عسير” من قبل القوات الموالية لآل سعود، تم دمج المنطقة ضمن الأمة السعودية في العام 1932.
وأوضح الموقع أن سكان القحطانية عاشوا في قراهم الصغيرة النائية فوق الجبال بحكمٍ ذاتي وفي مأمنٍ من القبائل المجاورة حتى أواخر القرن العشرين، واللافت أنه في التسعينات قامت الحكومة السعودية ببناء شبكة تلفريك في المنطقة، لتسهل الوصول إلى الأجزاء النائية، غير أن ذلك الموضوع سلّط الضوء على مسألة دمج مثل هذه القبائل في الهوية الوطنية وعلى مدى قدرة هذه الثقافات الفريدة على الصمود في وجه الحداثة.
بين التمسك بالعادات ومواكبة الحداثة
بالرغم من كل الصعاب التي واجهتهم، حافظ “رجال الزهور” على عاداتهم وتقاليدهم التي باتت اليوم تستقطب السياح إلى المنطقة، فمن الممكن ملاحظة مثلاً أن طريق جبل سودة، وهي أعلى قمةٍ في المملكة العربية السعودية، تعجّ بالمطاعم الصغيرة التي يقف فيها القحطانيون المزدانون بأزهارهم الزاهية، ويقدمون أطباقاً ساخنة من الماعز والأرز للزوار أو للسكان المحليين.
وبخلاف الملابس البسيطة التي ترتديها نساء المناطق الأكثر جفافاً وحراً في المملكة، فإن القحطانيات يرتدين ملابس تقليدية أضيق قليلاً بهدف الشعور بالدفىء عند إنخفاض درجات الحرارة، وبالرغم من أن هؤلاء النساء لا يزيّن رؤسهنّ كالرجال بتيجان الزهور إلا أن أوشحتهنّ وعباءاتهنّ تتميّز بتطريزاتٍ هندسيةٍ وبألوانٍ زاهيةٍ مثل الأصفر والأزرق والأحمر.
يشير موقع “بي بي سي” إلى أنه عند التجول في المنطقة يتفاجأ المرء في الأبنية الحجرية والطينية التي يعود تاريخها إلى أكثر من 200 عام والتي تبدو وكأنها ناطحات سحاب ترابية مصغرة، واللافت أن هذه البيوت قد بنيت متقاربة من بعضها البعض في تجمعاتٍ سكنيةٍ قبليةٍ هذا وتمكنت من الصمود في وجه مناخ عسير القاسي: أنظمة تصريف المياه تمنع تراكم المطر على الأسطح، أحجار الطوب تسمح بحفظ الحرارة وتعزل الضجيج الخارجي، كما أن السكان يزعمون أن نوافذ البيوت الصغيرة ذات أطر زرقاء اللون، تعمل على إبعاد البعوض والأرواح الشريرة.
أما البيوت من الداخل فتعتبر علاجاً بصرياً بحدّ ذاته، إذ أن الجدران الداخلية، خاصة في المجلس، مطليّة بمجموعةٍ من الألوان الزاهية مثل الأزرق الساطع، الأخضر، الأحمر والأصفر كما أن التصاميم الهندسية تعكس بنمطها هوية عسير التي أدرجت على قائمة اليونيسكو للتراث الانساني الثقافي في العام 2017.
واليوم تستمدّ هذه الرسومات الجدارية إلهامها من الرموز المعمارية التي كانت في الماضي تخبر زائريها عن سكان البيت: الأنماط والأشكال وظلال الألوان تكشف عن عمر أهل المنزل وجنسهم، واللافت أن الجدران يتم تجديد دهانها في كل عام في موسم الحج، بحيث تقوم نساء المنطقة اللواتي توارثن هذا الفن جيلاً بعد جيل بدعوة الأقارب من جميع الأعمار للمساعدة في الصيانة السنوية.
أما النقطة المثيرة للإهتمام فتكمن في حقيقة أن معظم القرى الصغيرة المنعزلة فوق أعلى القمم تبدو خاوية من أهلها، وكجزء من مشروع تم تنفيذه في النصف الأخير من القرن العشرين بهدف تسهيل زيارة السياح للمنطقة، قامت الحكومة السعودية بنقل الأهالي قسراً من بعض القرى النائية كحبالة مثلاً، إلى مناطق حديثة البناء وأكثر تطوراً من ناحية البنى التحتية والمدارس.
غير أن تلك القرى المهجورة تحوّلت إلى مواقع سياحية لاستكشاف الثقافة العسيرية، من هنا أصبح “رجال الزهور” يعودون مؤثتاً إلى قرى أسلافهم لترأس الجولات السياحية وإجراء رقصاتٍ إقليميةٍ تقليديةٍ وكذلك لتأسيس أعمالهم التي تدور حول الاقتصاد السياحي.
وفي هذا الصدد يتحدث تقرير ال”بي بي سي” عن التناقض الكامن في هذه المنطقة: تباطؤ دخول الحداثة إليها يهدد استمرارية نمط الحياة التقليدية فيها، إلا أنه نتيجة مناظرها الطبيعية الخلاّبة وتاريخ عزلتها، فإن هذه البقعة الجغرافية تحظى باهتمامٍ خاص من السياح، الأمر الذي يعزز من إمكانية حفظ تراثها من خطر الاندثار، خاصة وأن السعودية كانت قد وضعت خطتها “رؤية 2030” التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط في العقود المقبلة، مقابل تعزيز البرامج الثقافية وقطاع السياحة، وعليه تم تخصيص مبلغ يقارب المليار دولار لإستعادة المواقع التراثية بما في ذلك تلك الموجودة في عسير.
التعليقات مغلقة.