دراسة هامة جدا … الزراعة الكولونيالية في فلسطين …وجهل المقروء / جورج كرزم
جورج كرزم* ( فلسطين ) الأربعاء 9/1/2019 م …
*مدير وحدة الدراسات في مركز العمل التنموي/ معا
خلال عشرات السنين الأخيرة، اتسعت في الضفة الغربية النشاطات والمشاريع الزراعية الكولونيالية الإسرائيلية بشكل كبير ومتسارع، وبخاصة في الأغوار وفي المناطق الجبلية بمحاذاة المستعمرات وحولها؛ حيث نجد، بشكل خاص، أشجار الفاكهة والزيتون وكروم العنب. وبالطبع مُنِعَ الفلسطينيون من دخول تلك الأراضي الشاسعة التي نهبها الاحتلال من أصحابها الفلسطينيين وضمها للمستعمرات.
مساحات كبيرة في الأغوار مزروعة إسرائيليا بالنخيل ومحاصيل الدفيئات والمحاصيل الحقلية. وبالطبع، ينهب المحتلون موارد مائية ضخمة لزراعاتهم في الأغوار وفي المناطق الشمالية للبحر الميت. وتبلغ حاليا المساحة المزروعة في المستعمرات أكثر من مائة ألف دونم، إنتاجيتها أعلى بكثير من إنتاجية المساحات الفلسطينية، بسبب وفرة المياه والموارد الفلسطينية المنهوبة لصالح الزراعة الصهيونية في المستعمرات التي تنتج نسبا كبيرة من المحاصيل التي تصدّرها إسرائيل إلى أوروبا. فعلى سبيل المثال، أغلب الرمّان المصدر إلى أوروبا مصدره المستعمرات، بالإضافة إلى 22% من اللوز، و13% من الزيتون، كما أن مستعمرات الأغوار تنتج 60% من التمور التي تسوق في السوق الإسرائيلي و40% من التمور المصدرة (الأونكتاد 2015، قطاع الزراعة الفلسطينية المحاصر).
واللافت أن الزراعات العضوية اتسعت كثيرا في المستعمرات، فشملت الخضار والتفاح والتمور والبيض وألبان الماعز وغيرها من المنتجات العضوية التي تسوق إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا، باعتبارها أنتجت في اسرائيل وليس في مستعمرات الضفة (الأونكتاد، مصدر سابق). وتقدر قيمة السلع والمنتجات الزراعية التي تصدرها شركات ومصانع المستعمرات إلى الاتحاد الأوروبي فقط بـ4.5 مليار دولار (الصباغ، زهير2018. الطبقة العاملة الفلسطينية).
وبحسب التقسيمات الكولونيالية للضفة الغربية (المثبتة في اتفاقيات استعمارية وقعت عليها أطراف فلسطينية رسمية)، فإن 61% من مساحة الأخيرة تقع تحت السيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية المطلقة (ما يسمى المنطقة “ج”)، وتتمتع هذه المنطقة تحديدا بـ 63% من موارد الضفة الزراعية وأخصب أراضيها وأفضلها جودة للرعي؛ علما أن الفلسطينيين “ممنوعون” إسرائيليا من استخدام معظم الأراضي الرعوية في مختلف أنحاء الضفة، بسبب التوسع الاستيطاني والمناطق العسكرية والجدار الكولونيالي (الأونكتاد، مصدر سابق).
يضاف إلى ذلك، أن نحو ثلاثة أرباع مساحة ما يسمى المنطقة “ج” مخصصة إسرائيليا للمستعمرات ولتوسعها المستقبلي وللمناطق العسكرية والتدريبات و”للمحميات الطبيعية” التي غالبا ما تشكل غطاءً للنشاطات الاستعمارية والعسكرية الاسرائيلية. كما “يحظر” الاحتلال أعمال البناء بكافة أشكالها في 70% من “المنطقة ج”، ولا “يسمح” بالنشاط العمراني سوى في مساحة لا تزيد عن 1% من ذات المنطقة؛ بينما يفرض قيودا تعجيزية على البناء في ما تبقى من مساحة، أي 29% (الأونكتاد، مصدر سابق). وبالطبع، الزراعة الفلسطينية في تلك المنطقة هشة وغير مستقرة وغير تنافسية، في ظل القيود الاسرائيلية المشددة واشتراط الحصول على تصاريح (شبه مستحيلة) من الاحتلال لإقامة أي منشأة زراعية أو حفر آبار.
حقائق صارخة
تشير المعطيات والحقائق الصارخة على الأرض إلى أنه في ظل السلطة الفلسطينية التي أفرزتها الاتفاقيات الاستعمارية مع الاحتلال، “ازدهر” الاستيطان الاستعماري وتعاظم عددُ المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية. ففي أواسط الثمانينيات بلغ عدد المستعمرات في الضفة نحو 120، وارتفع عددها حاليا إلى نحو 150، بالإضافة إلى ما يسمى بالبؤر الاستيطانية التي تجاوز عددها المائة. مساحة المستعمرات ارتفعت من نحو 120 ألف دونم في أواسط التسعينيات، إلى نحو 300 ألف دونم حاليا (زيادة بنحو 150%!).
وفي مثل هكذا واقع كولونيالي، بلغ عدد المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية (ومعظمهم من المتدينين والمتعصبين أيديولوجيا والمتطرفين) نحو 700 ألف (بما في ذلك القدس الشرقية)، أي ازداد عددهم بأكثر من ثلاثة أضعاف عما كان لدى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 (حين لم يتجاوز 220 ألف بمن فيهم مستوطنو القدس الشرقية)، فتجاوز عددهم ما كان عشية احتلال معظم مناطق فلسطين عام 1948، حين بلغ عددهم آنذاك نحو 650 ألفاً (Statistical Abstract of Israel, No 64, 2013)، فاحتلوا 78% من مساحة فلسطين (التاريخية)؛ علما أن مساحة الضفة التي يستوطنها هذا العدد المتضخم من المستعمرين نحو 21% من إجمالي مساحة فلسطين (التاريخية). وحاليا تشكل نسبة المستوطنين نحو 21% من إجمالي سكان الضفة الغربية (الأونكتاد، مصدر سابق).
علاوة على ذلك، التبعية الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل بنيوية وعضوية، وتتجسد من خلال استئثار إسرائيل بنحو 70% من الواردات الفلسطينية، واستيعابها لأكثر من 80% من صادرات الضفة والقطاع، علما أن أكثر من 77% من إجمالي العجز التجاري الفلسطيني هو مع إسرائيل ((الأونكتاد، مصدر سابق).
المنتجات الغذائية والزراعية الإسرائيلية (بما في ذلك من المستعمرات) تهيمن على الأسواق الفلسطينية. ومن المعروف أن المنتجات الإسرائيلية التي لا تلبي معايير التصدير تسوق في الأسواق الفلسطينية وتضرب المنتجين الفلسطينيين العاجزين عن منافستها، لأنها مدعومة وأسعارها أقل من المنتجات الفلسطينية. هذا الإغراق الإسرائيلي المدعوم للسوق الفلسطيني، يواجه بمنتجات فلسطينية مكشوفة لا يتوفر لها الحد الأدنى من الدعم المادي والحماية، علما أن السلطة الفلسطينية التي تكبلها الاتفاقات والارتباطات الاستعمارية مع الاحتلال، عاجزة عن حماية المزارعين والمنتجين الفلسطينيين لمواجهة المنافسة الإسرائيلية المدمرة وتقلبات السوق.
إعادة إنتاج الواقع الاستعماري قبل عام 1948
المفارقة المأساوية المثيرة، أن الواقع الاقتصادي والزراعي الكولونيالي الحالي في الضفة والقطاع يعد تكراراً مشابها إلى حد كبير للواقع الكولونيالي الذي ساد في فلسطين قبل عام 1948. فالتحالف الكولونيالي الأنجلو-الصهيوني آنذاك، دمر بشكل منهجي، الاقتصاد الزراعي الفلسطيني التقليدي، من خلال تسريب الأراضي الزراعية الفلسطينية للمستوطنين الصهاينة، وبخاصة من خلال بعض الملاكين العرب الكبار.
كما سيطر المشروع الصهيوني (قبل عام 1948)، بشكل منظم وتدريجي، على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة التي اقتُلِع الفلاحون الفلسطينيون منها، لإنشاء المستعمرات عليها، وهذه الأخيرة اتسمت، في المجال الزراعي، بتنوع الأنماط الاقتصادية-الإنتاجية-الاجتماعية؛ من قبيل “الكيبوتس” و”الموشاف” وغيرها من التعاونيات الزراعية الهادفة إلى مواجهة مقاومة السكان الفلسطينيين الأصليين. لهذا الغرض، وعبر استفادته من المناخ الدولي لصالحه، اعتمد المشروع الصهيوني على تدفق رؤوس الأموال الصهيونية لتعزيز الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين والاستيطان الصهيوني وشراء الأراضي الزراعية الخصبة. كما خطط للاستيلاء على أهم الفروع الاقتصادية الفلسطينية آنذاك، وفي طليعتها فرع الحمضيات (الصباغ، زهير، مصدر سابق).
وكما يحدث حاليا، عمد الصهاينة منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إلى الترويج للمنتجات الصهيونية وإغراق السوق الفلسطيني بها، وفي ذات الوقت، قاطعوا المنتجات الفلسطينية التي مُنِعَت من دخول السوق الاستيطاني الصهيوني. وبالتوازي، وبهدف تدمير الاقتصاد الزراعي الفلسطيني ومنع تطوره وبالتالي منافسته للسلع الصهيونية، فرضت سلطات الاستعمار البريطاني ضرائب ورسوم باهظة على الأراضي الفلسطينية والإنتاج الزراعي الفلسطيني، وأغرقت السوق الفلسطيني بالمحاصيل المستوردة، ومنعت إصدار تصاريح للصناعات الزراعية وللصادرات الفلسطينية.
إذن، الواقع الاستعماري النهبوي اليوم الذي هَشَّمَ ويهشم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، ليس سوى إعادة إنتاج، أشد إحكاما، للواقع الاستعماري الذي ساد قبل عام 1948. ورغم ذلك، لم يقرأ الكثيرون تاريخ الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بل إن البعض قرأه، لكنه لم يفهم المقروء، ولم يتعظ من عبر تاريخ وجغرافية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولم يتعلم أساليب وفنون مقاومة الحالة الكولونيالية البشعة في فلسطين؛ فارتضى أن يكون وكيلا لسلطات الاحتلال ومتعاقدا من الباطن معها.
وما أشبه الحاضر بالأمس الاستعماري: فالعامل الأساسي الذي أدى إلى إفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحولهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الإسرائيلي، بعيدا عن آماكن سكنهم، أو إلى أجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل- العامل الأساسي لذلك هو نهب الاحتلال لأراضيهم ومواردهم الزراعية وبالتالي تحطيم الزراعة الفلسطينية. بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف الفلسطيني ليس نتيجة بطالة عانت منها اليد العاملة الزراعية، ما يؤدي غالبا الى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل كيد عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في العديد من بلدان “العالم الثالث”، بل إن هذا الفائض أفرزته بشكل مباشر عملية تحطيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، وإضعاف البرجوازية الزراعية بسبب المصادرات الواسعة للأراضي ونهب الموارد المائية. وبالتالي، لعبت هذه العملية الأخيرة دورا أساسيا في الولادة غير الطبيعية والمشوهة للعمال الفلسطينيين، وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني.
وفي المقابل، أتاح الاحتلال للشريحة الفلسطينية الوسيطة (الكومبرادور) بأن تتوسع وتهيمن، ومنحها التسهيلات اللازمة للعب دور المروج لسلعه ومنتجاته الزراعية في الأسواق الفلسطينية.
أما الأمس الاستعماري الأنجلو-صهيوني (قبل عام 1948)، فيعد النسخة الأصلية غير المنقحة لما ورد سابقا حول الواقع الاستعماري الحالي؛ إذ أن هجرة الفلاحين الفلسطينيين من الريف إلى المدينة، وبالتالي توسع الطبقة العاملة الفلسطينية آنذاك، نتج بسبب تسريب الأراضي الزراعية إلى المستعمرين الصهاينة الذين اقتلعوا الفلاحين من أراضيهم وأرغموهم على التحول إلى عمال غير مهنيين.
البديل
أثبتت الوقائع التاريخية الفلسطينية البعيدة والقريبة، والمؤشرات السياسية-الأمنية والاقتصادية الحالية، أن المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني، لن يتخلى عن هيمنته اللصوصية على الأرض والموارد الفلسطينية، وسيواصل تثبيت وجوده واستيطانه، ما دام مشروعا مريحا، بل ومربحا اقتصاديا، وما دام يفرض وجوده بالقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة)، ولا يواجه بمقاومة مدروسة، منظمة ومنهجية، تؤلمه وتخلخل معادلة أرباحه وخسائره الكولونيالية لصالح الخسائر بكافة أشكالها. لذا، لا يستخفنّ أحد بعقولنا، بالقول إن الشعب الفلسطيني سيتمتع يوما ما بالسيادة على أرضه وموارده الطبيعية، من خلال عملية سياسية يتحكم الاحتلال بكل تفاصيلها ومكوناتها.
الحقائق الصلبة على الأرض تؤكد بأن الاحتلال لن يرفع القيود عن القطاعات الانتاجية الفلسطينية وفي مقدمتها الزراعة، ولن يرفع القيود عن الاستثمار الخاص والعام، ولن يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى مياههم وأراضيهم، ولن يتخلى عن سياسة الإغلاق في الضفة الغربية، ولن يرفع الحصار عن غزة.
الوضع الطبيعي لشعب تحت الاحتلال، يفترض وجود مقاومة منظمة للأخير بكافة أشكالها، بما في ذلك المقاومة الاقتصادية التي تتجلى في بعض جوانبها بالتربية التنموية المقاومة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، والحماية الشعبية لصغار المزارعين واستهلاك منتجاتهم، ومقاطعة منتجات الاحتلال. فضلا عن المبادرة لإنشاء شبكات صغيرة ومتوسطة الحجم لجمع مياه الأمطار والفيضانات والينابيع؛ إذ أن مثل هذه المبادرات الشعبية لا يستطيع الاحتلال منعها بالكامل. ولا بد أيضا من تشجيع إنشاء التعاونيات الإنتاجية، من خلال استخلاص الدروس من تجربة العمل التعاوني الفلسطيني وتجارب التعاونيات الناجحة في مختلف أنحاء العالم.
*مدير وحدة الدراسات في مركز العمل التنموي/ معا
خلال عشرات السنين الأخيرة، اتسعت في الضفة الغربية النشاطات والمشاريع الزراعية الكولونيالية الإسرائيلية بشكل كبير ومتسارع، وبخاصة في الأغوار وفي المناطق الجبلية بمحاذاة المستعمرات وحولها؛ حيث نجد، بشكل خاص، أشجار الفاكهة والزيتون وكروم العنب. وبالطبع مُنِعَ الفلسطينيون من دخول تلك الأراضي الشاسعة التي نهبها الاحتلال من أصحابها الفلسطينيين وضمها للمستعمرات.
مساحات كبيرة في الأغوار مزروعة إسرائيليا بالنخيل ومحاصيل الدفيئات والمحاصيل الحقلية. وبالطبع، ينهب المحتلون موارد مائية ضخمة لزراعاتهم في الأغوار وفي المناطق الشمالية للبحر الميت. وتبلغ حاليا المساحة المزروعة في المستعمرات أكثر من مائة ألف دونم، إنتاجيتها أعلى بكثير من إنتاجية المساحات الفلسطينية، بسبب وفرة المياه والموارد الفلسطينية المنهوبة لصالح الزراعة الصهيونية في المستعمرات التي تنتج نسبا كبيرة من المحاصيل التي تصدّرها إسرائيل إلى أوروبا. فعلى سبيل المثال، أغلب الرمّان المصدر إلى أوروبا مصدره المستعمرات، بالإضافة إلى 22% من اللوز، و13% من الزيتون، كما أن مستعمرات الأغوار تنتج 60% من التمور التي تسوق في السوق الإسرائيلي و40% من التمور المصدرة (الأونكتاد 2015، قطاع الزراعة الفلسطينية المحاصر).
واللافت أن الزراعات العضوية اتسعت كثيرا في المستعمرات، فشملت الخضار والتفاح والتمور والبيض وألبان الماعز وغيرها من المنتجات العضوية التي تسوق إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا، باعتبارها أنتجت في اسرائيل وليس في مستعمرات الضفة (الأونكتاد، مصدر سابق). وتقدر قيمة السلع والمنتجات الزراعية التي تصدرها شركات ومصانع المستعمرات إلى الاتحاد الأوروبي فقط بـ4.5 مليار دولار (الصباغ، زهير2018. الطبقة العاملة الفلسطينية).
وبحسب التقسيمات الكولونيالية للضفة الغربية (المثبتة في اتفاقيات استعمارية وقعت عليها أطراف فلسطينية رسمية)، فإن 61% من مساحة الأخيرة تقع تحت السيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية المطلقة (ما يسمى المنطقة “ج”)، وتتمتع هذه المنطقة تحديدا بـ 63% من موارد الضفة الزراعية وأخصب أراضيها وأفضلها جودة للرعي؛ علما أن الفلسطينيين “ممنوعون” إسرائيليا من استخدام معظم الأراضي الرعوية في مختلف أنحاء الضفة، بسبب التوسع الاستيطاني والمناطق العسكرية والجدار الكولونيالي (الأونكتاد، مصدر سابق).
يضاف إلى ذلك، أن نحو ثلاثة أرباع مساحة ما يسمى المنطقة “ج” مخصصة إسرائيليا للمستعمرات ولتوسعها المستقبلي وللمناطق العسكرية والتدريبات و”للمحميات الطبيعية” التي غالبا ما تشكل غطاءً للنشاطات الاستعمارية والعسكرية الاسرائيلية. كما “يحظر” الاحتلال أعمال البناء بكافة أشكالها في 70% من “المنطقة ج”، ولا “يسمح” بالنشاط العمراني سوى في مساحة لا تزيد عن 1% من ذات المنطقة؛ بينما يفرض قيودا تعجيزية على البناء في ما تبقى من مساحة، أي 29% (الأونكتاد، مصدر سابق). وبالطبع، الزراعة الفلسطينية في تلك المنطقة هشة وغير مستقرة وغير تنافسية، في ظل القيود الاسرائيلية المشددة واشتراط الحصول على تصاريح (شبه مستحيلة) من الاحتلال لإقامة أي منشأة زراعية أو حفر آبار.
حقائق صارخة
تشير المعطيات والحقائق الصارخة على الأرض إلى أنه في ظل السلطة الفلسطينية التي أفرزتها الاتفاقيات الاستعمارية مع الاحتلال، “ازدهر” الاستيطان الاستعماري وتعاظم عددُ المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية. ففي أواسط الثمانينيات بلغ عدد المستعمرات في الضفة نحو 120، وارتفع عددها حاليا إلى نحو 150، بالإضافة إلى ما يسمى بالبؤر الاستيطانية التي تجاوز عددها المائة. مساحة المستعمرات ارتفعت من نحو 120 ألف دونم في أواسط التسعينيات، إلى نحو 300 ألف دونم حاليا (زيادة بنحو 150%!).
وفي مثل هكذا واقع كولونيالي، بلغ عدد المستعمرين الصهاينة في الضفة الغربية (ومعظمهم من المتدينين والمتعصبين أيديولوجيا والمتطرفين) نحو 700 ألف (بما في ذلك القدس الشرقية)، أي ازداد عددهم بأكثر من ثلاثة أضعاف عما كان لدى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 (حين لم يتجاوز 220 ألف بمن فيهم مستوطنو القدس الشرقية)، فتجاوز عددهم ما كان عشية احتلال معظم مناطق فلسطين عام 1948، حين بلغ عددهم آنذاك نحو 650 ألفاً (Statistical Abstract of Israel, No 64, 2013)، فاحتلوا 78% من مساحة فلسطين (التاريخية)؛ علما أن مساحة الضفة التي يستوطنها هذا العدد المتضخم من المستعمرين نحو 21% من إجمالي مساحة فلسطين (التاريخية). وحاليا تشكل نسبة المستوطنين نحو 21% من إجمالي سكان الضفة الغربية (الأونكتاد، مصدر سابق).
علاوة على ذلك، التبعية الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل بنيوية وعضوية، وتتجسد من خلال استئثار إسرائيل بنحو 70% من الواردات الفلسطينية، واستيعابها لأكثر من 80% من صادرات الضفة والقطاع، علما أن أكثر من 77% من إجمالي العجز التجاري الفلسطيني هو مع إسرائيل ((الأونكتاد، مصدر سابق).
المنتجات الغذائية والزراعية الإسرائيلية (بما في ذلك من المستعمرات) تهيمن على الأسواق الفلسطينية. ومن المعروف أن المنتجات الإسرائيلية التي لا تلبي معايير التصدير تسوق في الأسواق الفلسطينية وتضرب المنتجين الفلسطينيين العاجزين عن منافستها، لأنها مدعومة وأسعارها أقل من المنتجات الفلسطينية. هذا الإغراق الإسرائيلي المدعوم للسوق الفلسطيني، يواجه بمنتجات فلسطينية مكشوفة لا يتوفر لها الحد الأدنى من الدعم المادي والحماية، علما أن السلطة الفلسطينية التي تكبلها الاتفاقات والارتباطات الاستعمارية مع الاحتلال، عاجزة عن حماية المزارعين والمنتجين الفلسطينيين لمواجهة المنافسة الإسرائيلية المدمرة وتقلبات السوق.
إعادة إنتاج الواقع الاستعماري قبل عام 1948
المفارقة المأساوية المثيرة، أن الواقع الاقتصادي والزراعي الكولونيالي الحالي في الضفة والقطاع يعد تكراراً مشابها إلى حد كبير للواقع الكولونيالي الذي ساد في فلسطين قبل عام 1948. فالتحالف الكولونيالي الأنجلو-الصهيوني آنذاك، دمر بشكل منهجي، الاقتصاد الزراعي الفلسطيني التقليدي، من خلال تسريب الأراضي الزراعية الفلسطينية للمستوطنين الصهاينة، وبخاصة من خلال بعض الملاكين العرب الكبار.
كما سيطر المشروع الصهيوني (قبل عام 1948)، بشكل منظم وتدريجي، على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة التي اقتُلِع الفلاحون الفلسطينيون منها، لإنشاء المستعمرات عليها، وهذه الأخيرة اتسمت، في المجال الزراعي، بتنوع الأنماط الاقتصادية-الإنتاجية-الاجتماعية؛ من قبيل “الكيبوتس” و”الموشاف” وغيرها من التعاونيات الزراعية الهادفة إلى مواجهة مقاومة السكان الفلسطينيين الأصليين. لهذا الغرض، وعبر استفادته من المناخ الدولي لصالحه، اعتمد المشروع الصهيوني على تدفق رؤوس الأموال الصهيونية لتعزيز الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين والاستيطان الصهيوني وشراء الأراضي الزراعية الخصبة. كما خطط للاستيلاء على أهم الفروع الاقتصادية الفلسطينية آنذاك، وفي طليعتها فرع الحمضيات (الصباغ، زهير، مصدر سابق).
وكما يحدث حاليا، عمد الصهاينة منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إلى الترويج للمنتجات الصهيونية وإغراق السوق الفلسطيني بها، وفي ذات الوقت، قاطعوا المنتجات الفلسطينية التي مُنِعَت من دخول السوق الاستيطاني الصهيوني. وبالتوازي، وبهدف تدمير الاقتصاد الزراعي الفلسطيني ومنع تطوره وبالتالي منافسته للسلع الصهيونية، فرضت سلطات الاستعمار البريطاني ضرائب ورسوم باهظة على الأراضي الفلسطينية والإنتاج الزراعي الفلسطيني، وأغرقت السوق الفلسطيني بالمحاصيل المستوردة، ومنعت إصدار تصاريح للصناعات الزراعية وللصادرات الفلسطينية.
إذن، الواقع الاستعماري النهبوي اليوم الذي هَشَّمَ ويهشم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، ليس سوى إعادة إنتاج، أشد إحكاما، للواقع الاستعماري الذي ساد قبل عام 1948. ورغم ذلك، لم يقرأ الكثيرون تاريخ الاستعمار الصهيوني في فلسطين، بل إن البعض قرأه، لكنه لم يفهم المقروء، ولم يتعظ من عبر تاريخ وجغرافية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولم يتعلم أساليب وفنون مقاومة الحالة الكولونيالية البشعة في فلسطين؛ فارتضى أن يكون وكيلا لسلطات الاحتلال ومتعاقدا من الباطن معها.
وما أشبه الحاضر بالأمس الاستعماري: فالعامل الأساسي الذي أدى إلى إفقار معظم الفلاحين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967 أو تحولهم إلى عمال يخدمون الاقتصاد الإسرائيلي، بعيدا عن آماكن سكنهم، أو إلى أجراء في خدمة الاقتصاد الاستهلاكي بالمدن الفلسطينية، أو إلى عاطلين عن العمل- العامل الأساسي لذلك هو نهب الاحتلال لأراضيهم ومواردهم الزراعية وبالتالي تحطيم الزراعة الفلسطينية. بمعنى أن بروز فائض في اليد العاملة الفلسطينية الزراعية المستغنى عنها في الريف الفلسطيني ليس نتيجة بطالة عانت منها اليد العاملة الزراعية، ما يؤدي غالبا الى انسلاخها عن الزراعة وانتقالها للعمل كيد عاملة رخيصة في المدينة، كما هو الحال في العديد من بلدان “العالم الثالث”، بل إن هذا الفائض أفرزته بشكل مباشر عملية تحطيم مقومات الاقتصاد الريفي والزراعي الفلسطيني، وإضعاف البرجوازية الزراعية بسبب المصادرات الواسعة للأراضي ونهب الموارد المائية. وبالتالي، لعبت هذه العملية الأخيرة دورا أساسيا في الولادة غير الطبيعية والمشوهة للعمال الفلسطينيين، وحددت طبيعة اليد العاملة الفلسطينية ودورها في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل غياب البديل الاقتصادي المحلي الذي كان يمكن أن يستوعب فائض اليد العاملة في الريف الفلسطيني.
وفي المقابل، أتاح الاحتلال للشريحة الفلسطينية الوسيطة (الكومبرادور) بأن تتوسع وتهيمن، ومنحها التسهيلات اللازمة للعب دور المروج لسلعه ومنتجاته الزراعية في الأسواق الفلسطينية.
أما الأمس الاستعماري الأنجلو-صهيوني (قبل عام 1948)، فيعد النسخة الأصلية غير المنقحة لما ورد سابقا حول الواقع الاستعماري الحالي؛ إذ أن هجرة الفلاحين الفلسطينيين من الريف إلى المدينة، وبالتالي توسع الطبقة العاملة الفلسطينية آنذاك، نتج بسبب تسريب الأراضي الزراعية إلى المستعمرين الصهاينة الذين اقتلعوا الفلاحين من أراضيهم وأرغموهم على التحول إلى عمال غير مهنيين.
البديل
أثبتت الوقائع التاريخية الفلسطينية البعيدة والقريبة، والمؤشرات السياسية-الأمنية والاقتصادية الحالية، أن المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني، لن يتخلى عن هيمنته اللصوصية على الأرض والموارد الفلسطينية، وسيواصل تثبيت وجوده واستيطانه، ما دام مشروعا مريحا، بل ومربحا اقتصاديا، وما دام يفرض وجوده بالقوة العسكرية المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة)، ولا يواجه بمقاومة مدروسة، منظمة ومنهجية، تؤلمه وتخلخل معادلة أرباحه وخسائره الكولونيالية لصالح الخسائر بكافة أشكالها. لذا، لا يستخفنّ أحد بعقولنا، بالقول إن الشعب الفلسطيني سيتمتع يوما ما بالسيادة على أرضه وموارده الطبيعية، من خلال عملية سياسية يتحكم الاحتلال بكل تفاصيلها ومكوناتها.
الحقائق الصلبة على الأرض تؤكد بأن الاحتلال لن يرفع القيود عن القطاعات الانتاجية الفلسطينية وفي مقدمتها الزراعة، ولن يرفع القيود عن الاستثمار الخاص والعام، ولن يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى مياههم وأراضيهم، ولن يتخلى عن سياسة الإغلاق في الضفة الغربية، ولن يرفع الحصار عن غزة.
الوضع الطبيعي لشعب تحت الاحتلال، يفترض وجود مقاومة منظمة للأخير بكافة أشكالها، بما في ذلك المقاومة الاقتصادية التي تتجلى في بعض جوانبها بالتربية التنموية المقاومة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، والحماية الشعبية لصغار المزارعين واستهلاك منتجاتهم، ومقاطعة منتجات الاحتلال. فضلا عن المبادرة لإنشاء شبكات صغيرة ومتوسطة الحجم لجمع مياه الأمطار والفيضانات والينابيع؛ إذ أن مثل هذه المبادرات الشعبية لا يستطيع الاحتلال منعها بالكامل. ولا بد أيضا من تشجيع إنشاء التعاونيات الإنتاجية، من خلال استخلاص الدروس من تجربة العمل التعاوني الفلسطيني وتجارب التعاونيات الناجحة في مختلف أنحاء العالم.
التعليقات مغلقة.