مشهد الهوية السياسية بين الهوية والوطنية .. و هوية الدولة ( 1 من 5 ) / د. بهجت سليمان
د . بهجت سليمان* ( سورية ) الأربعاء 9/1/2019 م …
* السفير السوري السابق في الأردن …
1▪ ما بين ” العروبيّة ” و ” السّوريّة ” تكاثف الّلغط و ازداد التّشكّك و التّشكيك بطبيعة الهويّة الاجتماعّية و السّياسيّة و التّاريخيّة ، لسورية ، حتّى اختلط الأمر على الكثيرين .
من الطّبيعيّ ، لمحاولة فكّ ”ترميز” هذا الجدل و أبعاده المختلفة ، و نواياه المستترة ، و أهدافه غير البريئة ؛ أن نلجأ ، أوّلاً ، إلى فكّ التّشابك المفهوميّ الذي يؤدّي عند الكثيرين إلى الخلط المقصود و غير المقصود عند تناول حديث ”الهويّة” ، مع أنّنا تناولنا موضوع ”الهُويّة” غير مرّة على هذه الصّفحات ، إلّا أنّنا لم نتعرّض إلى تمييز مبدئيّ لنوعين من الهويّة يجري بينهما الخلط حتّى يُهَيَّأَ إلى الكثيرين تشابه الخطأ و الصّواب و الحقيقة و أشباهها ، في ظروف قلقة هي ظروف هذه الحرب الشّعواء التي جعلت الكثير من المسلّمات ، بحاجة إلى إعادة نظر أو مراجعة للثّقة التي كانت تتولّى أمر بديهيّات ، من شأنها أنّها كانت متّفقة على ذكاء الشّعب السّوريّ ..
و هو ما أكّدت الأحداث المديدة و تفاعلات هذه الحرب المنظّمة أنّه ، مع غيره من قناعات و إيمانات و مقولات ، يحتاج إلى إمعان النّظر في الصّميم ، و أعني في الصّميم النّظريّ للكثير من القناعات التي فاجأت ذاتها ، ربّما ، قبل أن تفاجئنا و تفاجئ الآخرين .
2▪ كنّا نعوّل على أشياء و مواضعات جرى تجاوزها ، عندما كنّا نتحدّث على ”الهُويّة” و نحن نرمي ، معاً ، إلى الحديث على كلتا ”الهُويّتين” ، ”الوطنيّة” و ”السّياسيّة” ، لولا أنّ واقع المماحكات و التّثاقفات المختلفة قد أفضى بنا إلى حالة يُضطّر فيها العقل إلى التّنبّه من مغبّة الطمأنينية السّياسيّة إلى النّتاج الثّقافيّ و التّاريخيّ ، الذي يدّخره الغالبيّة من السّوريين ..
فَتُقَرِّرُ ، جرّاء ذلك ، الضّرورة ، العودة إلى بدايات ، قد لا تكون هي كذلك في ظروف التّخبّط الثّقافيّ التّاريخيّ و بخاصّة منه المعاصر ، و الذي غزا الوعي الاجتماعيّ السّوريّ ، حتّى شكّل مشكلة شَخَصَت ، اليومَ ، أمامنا ، في ”الانتماء” ، معبّرة في ذاتها بعجزها عن التّنظيم الذي يؤهّل البدايات و النّهايات في الثّقافة و الممارسة و الاجتماع .
3▪ بعيداً عن الجدل السّياسيّ الإمبرياليّ الدّائر منذ ستّينيات القرن الماضي العشرين ، حول مفهوم ”صراع الحضارات” ، أو ”حوار الحضارات” ، يمكننا أن نتجاوز ، الآن ، هذا الجدل في صيغة أكثر تحرّريّة ، و بخاصّة بعد أن اندرجت غالبيّة أفكار ”صراع” و ”حوار” الحضارات تحت مظلّة إعادة تأهيل ”العالم” كمقدّمة للعولمة هذه التي ننظر إليها ، اليومَ ، على أنّها كانت مجرّد إعادة تقسيم عالميّ ( أي : ما بعد الدّوليّ ) للعمل ، و بخاصّة بين ”الإنتاج” و ”الاستهلاك” و ”الأدوار” ، و ما يرتبط بذلك من مفاهيم القبض على الثّروة العالميّة و إعادة توزيعها وفق مراكز القوى في العالَم .
4▪ و مع العولمة أعيدت طروحات و ألحان نغمة احتقار ”الهويّة” التّاريخيّة ، و الهويّة السّياسيّة المتمثّلة بالحرّيّة السّياسيّة المستقلّة في قرار سياسيّ سياديّ ، و قبلها في صراع و حوار الحضارات ، و اختلطت المفاهيم المؤدّية إلى التّمييز المحدّد للهّويّة السّياسيّة الخاصّة بحضارة أو أمّة أو مجتمع ، بين ما إذا كانت هذه ”الهُويّة السّياسيّة” نفسها من البديهيّات التّحليليّة أو من القضايا التّركيبيّة ، التي ينبغي أن تدخل في التّفسير و التّأويل و الصّراع حول مبدأ القرار السّياسيّ المستقلّ .
5▪ لقد عاصرنا و نعاصر اليوم طرح مسألة الهويّة الثّقافيّة و الهُويّة السّياسيّة و الهويّة الوطنيّة و الهويّة القوميّة و الهويّة الحضاريّة .. إلخ ؛ على أنّها موضوعة واحدة في الفكر ، و على أنّها شيءٌ خليط من مضامين مبهمة و غيبيّة ، أو اختياريّة و انتقائيّة ، هذا مع أنّ المحدّدات المختلفة تجعل من ”الهُويّة” نفسها أمراً قميناً بالاستعادة ، على ما بدا ، و ليس ذلك فقط بسبب الحرب التي عانيناها و نعانيها في سورية ، مثلاً ، و إنّما أيضاً بسبب ارتباط المشروع الثّقافيّ العولميّ جذريّاً بقضيّة الهُويّة الحضاريّة العالميّة أو الهُويّات المتعدّدة .
6▪ باختصار ، لقد ساعد التّثاقف السّوريّ المعاصر ، بسبب الحرب ، على المزيد من الخلط و التّردّد و سوء الفهم الذي لحق بمفهوم الهويّة السّياسيّة نفسه ، و انشطاره الأيديولوجيّ ، حتّى بات من الضّروريّ أن نستعيد هذه المناسبة للحديث على ”الهُويّة السّياسيّة” ، بعد أن شكّل النّقاش غير التّخصًصيّ و غير المعرفيّ ، السّوريّ ، حالة من التّسيّب الثّقافيّ الذي جعل من ”الهُويّة السّياسيّة” ، من جديد ، محلّ نقاشات أمميّة في عمليّة تدويل الشّخصيّة السّياسيّة الوطنيّة ..
و هو ما شكّل إشكاليّة أخرى تنضاف إلى جمهرة أعداد الإشكاليّات التي دخلت في تناقضات الثّقافات السّوريّة ، أثناء الحرب ، بخاصّة ، و محاولات كلّ منها الانفراد بالوعي السّياسيّ المجتمعيّ المُنفصل و المؤهَّل ، أصلاً ، تاريخيّاً ، للانقسام ..
7▪ إنّ التّناقض السّياسيّ الأساسيّ في عالم اليوم ، و في سورية خاصّة ، هو التّناقض بين ”الثّقافة” و ”السّياسة” ..
و تبدو هذه الموضوعة التي نراها مسلّمة ، تبدو للكثيرين على أنّها ”ابتكار” بلاغيّ ، لا يتّصل باليوميّات ، في الوقت الذي يبدو أنّ لهذا التّشكّك سبباً وجيهاً هو الجهل بالمفاهيم و المقولات و الموضوعات و ما إليها من قضايا و قياسات برهانّية ، لا يمكن فهم العالم معرفيّاً ، لا تمكن معرفة العالم ، من دون الإلمام بها ، بحدودها العامّة على الأقلّ .
و لأنّنا يمكننا اعتبار الثّقافة ضرباً من الحضارة ، بمعنى أنّ الثّقافة جزئيّة سياسيّة حضاريّة ، إذ الحضارة هي الثّقافة على التّوسّع و التّطوّر و الإجمال ..
فإنّها (أي الثّقافة) انفصلت عن ذاتها في ”السّياسة” ، و هذا أمر فلسفيّ نشير به إلى أوليّة السّياسة ، و ذلك على عكس ما يفعل معظم المفكّرين و الفلاسفة و السّاسة و الزّعماء و القادة في العالم ، و ربّما على مرّ تاريخ العالَم ، ناسين أو جاهلين أنّ السّياسة جوهرها القوّة و العدالة و التّحكّم و التّدبير و السّيطرة ، و أنّ كلّ ذلك و بخاصّة منه ”العدالة” إنّما هي خير ”السّياسة” و تالياً أنّ ”السّياسة” خير ..
و مع ذلك ”الانفصال” حصل ”الفصام” الإنسانيّ – الاجتماعيّ – الأيديولوجيّ – السّياسيّ ( الحضاريّ ) ، في مُنعقد مُعقّد في ”الهويّة” إلى الدّرجة التي سمح معها الوضع بالاختلاف على ”الُهويّة” السّياسيّة للمواطنين و السّاكنين الذي يعني النّقص الحضاريّ الذي جعل الفصام السّياسيّ للسّاكنين ( في سورية ، مثلًا ) يصل إلى الدّرجة الذي يستخدم فيه الوحش البربريّ أحدث إنتاج الحضارة من السّلاح المتطوّر المتفوّق ، ضدّ صنوه المباشر ، فإذا بنا أمام تعقّد خطر لمسألة ”الانتماء” و ”الهوّية” ، في إطار اليوميّات السّياسيّة و الاستراتيجّيات السّياسيّة المعبّرة على استقلال القرار و السّيادة الوطنيّة ، لتضيع معالم الشّخصيّة في تلاشيات متوالية بنسبة هندسّية .
8▪ مع هذه الحالة من ”الفُصام” الانتمائيّ – السّياسيّ ، و ”انفصام الهُويّة” بتعدّد المرجعيّات السّياسيّة للجماعات و الأفراد ، بدا أّنها تندحر الحدود و المحدّدات و يفشل ما كان ثابتاً في التّشبّث بمكانه ، و يدخل ”الثّابت” و ”المتغيّر” في مبادلات ”قيميّة” و سياسيّة – في المرجعيّات – و أخلاقيّة ..
فلا ”ثابت” و لا ”متغيّرات” قياسيّة ، و إنّما تحوّلات سياسّية نمطيّة و نموذجيّة أيضاً ، عميقة في ”الموقع الحضاريّ” و الالتحاق بمراكز ”حضاريّة” ، لا تقبل هي هُويّة المنتسبين و لا هم بقادرين على الاندماج مع وضعّية هذه الحضارة ، ليتعمّق الفُصام إلى شرخ ساسيّ مركّب مشكلته تناقض ”الهُويّة” السّياسيّة التي أثبتت أنّها هويّة غير ناجزة ، للأسف الشّديد .
و ليكون الموقف أكثر وضاعة و ضعة و ذلّاً ، يُنصّب هؤلاء الُمهانون المُذلّون من أنفسهم ، و يشكّلهم صاحب الانتماء المولع بحضارته ، على هيئة قرود و سياسيين و و ” مثقّفين ماجورين ” و حمير و ”ثّوار” ، بهُويّة أيديولوجيّة سياسيّة و دينيّة مُفترِسة ، في مواجهة أصحاب ”الهويّة” الذين بزّوا المخلوقات شجاعة و انتماء ..
و لهذا بالضّبط نحن نعيش اليوم في سورية حالة من حالات الّشدّ و الجذب و الرّخي و الميوعة المدروسة و المنظّمة وراء فقدان ”الهويّة” السّياسيّة الحضاريّة المختلف عليها ، بدءاً من ”الدّستور” و نهاية بالدّور الوظيفيّ الضّحل لتلك الأدوات االسّياسيّة المسخّرة عالميّاً إلى درجة الانتماء السّياسيّ الخارجيّ .
و لكن ما هي هذه ”الهُويّة” السّياسيّة التي نتحدّث عليها بهذه المُطَوَّلات ؟
9▪ يتّضح ممّا سبق أهمّيّة ”الثّوابت” في صنع الهويّة الحضاريّة ، و هذا ما يستلزم منّا البحث في صيغة ”الهويّة” السّياسيّة بالذّات ، قبل أن تتحوّل إلى ثقافة رائجة و فارغة .
10▪ هنالك مفهومان أساسيّان للهُويّة السّياسيّة ، أو أنّ المفهوم نفسه يحتل موقعين إثنين في وقت واحد ، تبعاً لتمدّده أو تقلّصه في المقاصد و مناسبات الفكر و الكلام .
● أوّلاً – الهويّة الوطنيّة :
11▪ مفهوم الهُويّة على هذا الأساس هو مفهوم تاريخيّ معقّد و مركّب و متداخل في مدّ و جزر و متعلّق بظروف جدليّة و لو أنّها ثابتة ، تقليديّاً ، أو هكذا يجب أن تكون . و يعود الأمر في تعقيده إلى أنّ هذا ”المفهوم” نفسه ذات دلالات و إشكاليّات بالغة التّعدّد و الثّقافة و التّعميم .
يتعلّق ثبات مفهوم ”الهُويّة” السّياسيّة الوطنيّة ، على النّحو الذي أشرنا إليه للتّوّ ، بمحاولتنا ، نحن أو الآخرين ، تعريفها تعريفاً ضامّاً لأكثر ما فيها من جوهرّية و ثبات ، هذا مع أنّ هذا الثّبات نفسه يدخل في ظروف حرجة في إطار إعادة النّظر و المراجعات الثّقافيّة و لو أنّها يطغى عليها الجانب الأيديولوجيّ أو السّياسيّ أو التّعصّبيّ و التّزمّتي ..
و هكذا فهي ، كتشكيكيّات ، إما أن تكون مرتبطة بنزعة قومويّة شوفينيّة ، أو أن تكون ، على العكس ، من أدوات الثّقافة الانحلاليّة و التّحلّليّة التي تسيطر بمفاعيلها على اليأس العاطفيّ (و الرّومانسيّ) و المريض ، على الأفراد و الجماعات في أوقات اليأس الكامل في المخاضات التّاريخيّة التي تتعرّض لها دوماً الأمم الضّعيفة بما هي مستهدفة بالتَّفتيت و الإلغاء و الإلحاق بمشاريع ”الآخرين” .
12▪ و تعلمون أنّ التّعريفات ، بالعموم ، هي أكثر من أن تحصى ، و بخاصّة عندما يكون موضوعها على هذه الدّرجة من الحساسيّة و التّعقيد و التّفاعل الدّائم مع ظروف الأفراد و الجماعات و الشّعوب ، التي يجمعها أشياءٌ و تفرّقها أخرى في الحاضر السّياسيّ أو في التّاريخ .
و إذا كانت ”الهُويّة الوطنيّة” هي ذلك النّسق التّاريخيّ الذي تَرَسَّخَ في ”تحظير” الانتماء إلى مكان و زمان محدّدين ، بما في ذلك من وعي و ثقافة و فكر و علوم و أوضاع نفسيّة و إسهامات خاصّة لها صفة العموميّة الإنسانيّة ، فإنّ الاستلابات الفردّية أو الجماعيّة لا تشكّل سبباً و لا مناسبة للّتشكيك بما أنضجه التّاريخ من صفات سياسيّة محدّدة و مستقلّة في الوعي و الاختيار الثّقافيّ و الحضاريّ لأمّة من الأمم ، و إنّما – ربّما – يكون الشّكّ و التّشكيك في الانتماء ، راجعاً إلى مشكلات محدّدة يُعاني منها الفرد و الجماعة و ربّما الأمّة بأسرها ، إلّا أنّ ذلك لا يُسوّغ الهروب من الذّات ، ذلك أنّه أمر مُحال .
يُشبه الأمر في حالة إنكار ”الهُويّة” السّياسيّة التّاريخيّة ، الخروج من الجسَد و إنكار النّفس بالذّات ، لا سيّما أنّ ”الهويّة” – كما هي السّياسة – مآل نفسيّ ، أيضاً ، يمكن حصره في السّلوكيّات و ردود الأفعال على المواقف العامّة و الخاصّة المرتبطة بالإنسان أو الإنسانّية ، من أبسط السّلوك و حتّى أعقد الأفكار و مواقف القناعات في الفعل و الاختيار في مناسبِتهما عند الضّرورات .
13▪ فالثّابت السّياسيّ في الهويّة الوطنيّة ( أو الهويّة القوميّة ) ، إذاً ، هو الجوهر التّاريخيّ الذي استقرّ و صار معاصراً على رغم تحدّي أحداث التّاريخ للحالة الوجوديّة و الوعي الثّقافيّ الذي خضع مراراً لمحاولات التّشويه و التّزوير تحت دعاوى مختلفة انغلاقّية أو متعصّبة أو محدودة أو هجينة أو ”تحرّريّة”.
و يبدو هذا ”الثّابت” السّياسيّ جليّاً في عناصر للهويّة و مقوّمات حفرت لها أعماقاً خاصّة في الرّوح العامّة للوعي النّمطيّ الذي تجاوز النّماذج المنفردة التي ربّما يبدو أنّها وقف على المثقّفين .
و على العكس تماماً ، فإنّ المزاج الرّوحيّ التّاريخيّ الذي تطبّع في أعماقه الشّعوريّة و الّلاشعورّية بطبائع تدلّ على التمايز ”الحضاريّ” بين ثقافات الأمم المختلفة ، هو ما كان يجعل المثقّفين و الثّقافة ينحازون جبراً أو اختياراً للهُويّة السّياسيّة الواقعيّة الوطنيّة ، التي تصوّرت في صورة نهائيّة من الانتماء إلى حظيرة الأمّة – الوطن بما يترتّب على ذلك من مواقف اختياريّة تتعلّق بالكرامة المهدّدة مباشرة ، أو من مواقف هي عبارة عن نتيجة مركّبة لجملة من الالتزام بقضايا سياسيّة مصيرّية تشكّلت معالمها المحفّزة في الدّوافع الأعمق في خلفيّات السّلوك .
14▪ يتّصل بهذا الوضع اتّصالاً مباشراً واقع الجروح الوطنيّة و القوميّة و النّفسيّة و الشّعوريّة و الّلاشعورّية التي تعرّضت و تتعرّض لها الحُرُمات الثّقافيّة التّاريخيّة ، التي جسّدت و تجسّد ثبات جذور صفات الهويّة من ميزات أنثروبولوجيّة و أثنوغرافيّة و سياسيّة ظاهرة على السّطح ، تعرّضت و تتعرّض للانتهاك المباشر ، بخاصّة ، و قد دخلت في تكوين الأفراد و الاجتماع ، على رغم واقع مظاهر الانفصالات الجماعّية الثّقافيّة الجزئيّة ، التي تتوسّع سواءٌ في أيّام الرّخاء الوطنيّ أو في أيّام الشّدة الوطنيّة و لو بشكل غير متكافئ ..
و هو ما يؤكّد ، تاريخيّاً ، زيف هذه ”الفوارق” الانفصالّية أمام تحدّيات الهويّة الوطنيّة و استقلالّية سيادة السّياسة .
15▪ ليست الهويّة السّياسيّة الوطنيّة أو القومّية مَحَلَّ اختيار أو انتقاء أو تقرير في الوعي المباشر أو مضموناً لاتّفاق في مناسبة ”الانتماء” . إنّها تلك الحالة التي تتناقلها الأجيال تناقلاً ضمنيّاً غير خاضع للتّعليم أو التّكريز لتكريس حقيقة واقع الهويّة ..
و هي الحالة التي تنشأ بفطرة الوعي العرفيّ المتعلّق بالوجود الفرديّ و الجماعيّ ، و تميّز هذا الوجود بميزاته التي قد تتّفق أو تتعارض مع بعض أشكال الانتماءات الأخرى ، وفق ما تُبديه الظّروف الخاصّة بكلّ أمّة من محدّدات خاصة للهويّة في الانتماء .
و من المفهوم كيف أنّه من الطّبيعيّ أن يتعزّز شعور الانتماء إلى الهوّية السّياسيّة كشخصيّة ثقافيّة تاريخيّة تنفرد كلّ منها بصفات تطبع المجتمعات و الشّعوب و الأفراد بما يُشبه الأسرار السّيكولوجيّة التي لا تظهر على الملأ إلّا في ظروف التّحدّيات و مواضع التّهديد ، أو عندما يحتاج الواقع إلى قرار سياسيّ تاريخيّ و مستقلّ .
16▪ يقودنا هذا الحديث ، الآن ، مباشرة ، إلى هذه المهرجانّية الاجتماعيّة – الثّقافيّة – السّياسيّة في سورية ، و التي توحي ، وهماً ، بإمكانيّة انتقاء ”الهويّة” السّياسيّة في ما يدور من نزاعات ”ثقافيّة” محكومة بالتّأقيت و ظروف هذه الحرب التي خلطت الانطباعَ بالّرأيِ بالحقائقِ بالوقائع بالأعراف و النّزعات المشبوهة المضمرة ، في الالتحاق بهوّية كحالة سياسيّة ”منتقاة” و معبّرة ، ما بين ”العروبة” و السّوريّة ..
هذا مع أنّ ”الهويّة” السّياسيّة بطبعها التّاريخيّ العميق و المديد ، لا يمكن أن تخضع للانتقاء و التّبديل و الاختيار ، إلّا في مشاريع ”سياسيّة” مناوئة لطبيعة الهويّة التّاريخيّة و ترسّخاتها المحسومة في الوعي و في الوعي المضمر (الّلاوعي) ، تتبنّى مشاريع تشكيكيّة و تفتيتيّة و صرفاً للانتباه عن موقعه (الانتماء) الحقيقيّ في هذا الشّكل من الصّراع الدّائر في سورية ، اليوم.
تنجرف العواطف الاجتماعّية ، في ظروف تَخَلْخُلِ الثّقة بالواقع و الأحداث و مظاهرها و نتائجها و تراجعِ و ضعفِ المناعات الوطنيّة و القوميّة و الفرديّة ، في الطّبقات الاجتماعّية الكتيمة ، انجرافاً سياسيّاً فظيعاً لتصادف لها أضعف حالات الانتماء – و هي كثيرة في مثل مجتمعنا العربيّ السّوريّ – لتنسلّ منها كما ينسلّ الماءُ من أضعف الطّبقات الجيولوجيّة التي يصادفها أمامه ، على شكل انفجار ”طبيعيّ” يتّخذ له في الحالة الاجتماعّية شكل التّشرذمات النّابعة من جسد الأّمة أو كتلة الوطن أو حظيرة الانتماء السّياسيّ التّاريخيّ الذي تحوّل إلى مادّة للنّزاع .
و من المؤكّد و المفهوم أنّ هذه المظاهر التي تنشأ في مثل هذه المناسبات ( الحرب على سّوريّة ، كمثال ) ، إنّما هي مظاهر عابرة للوعي السّياسيّ ، و أعني عابرة في جوهر الوعي الضّمنيّ للانتماء و ثوابت الهويّة التي ستستعيد وضوح رسوخها ما إن تزول أسبابها مع نهايات هذه الحرب التّمزيقيّة في أحد أهمّ أسبابها المعلنة و غير المعلنة ، على السّواء .
● ثانياً – هُويّة الدّولة :
17▪ بعد أن بحثنا في ”الثّابت” في ”الهُويّة” السّياسيّة التّاريخيّة و ”الانتماء” ، بالنّسبة للوطن و القوميّة ؛ و لو أنّها في ما قبل حالة ”الدّولة – الأّمة” ، و ربّما لن تصل إلى حالة ”الدّولة القوميّة” ، و هو أمرٌ لا يؤثّر في حَرْفِيَّةِ مصداقيّة ما تقدّم من حديث و ما لم يتقدّم بعدُ ؛ يُفضّل الاستمرار في فكّ هذا الّلغز المنتشر اليوم في ثقافات السّوريين ، السّياسيّة ، بصدد الخلاف و الاختلاف في الاستقطاب السّياسيّ حول مفهوم ”الهُويّة” ، هل هي ”العربيّة” أم ”السّوريّة” ، أم أنّها ليست هذه و لا تلك ، و إنّما هي حالة انتكاس ”الهويّة” السّياسيّة التّاريخيّة و تبدّد مفهوم ”الانتماء” ؟!
18▪ في النّظريّة و المبدأ العمليّ ، فإنّ الهُويّة التّاريخيّة التي تراكم الهويّة السّياسيّة ، غير خاضعة للضّياع إلّا في حالات خاصّة كانقراض الوطن أو الأّمة على بَكرة أبيهما ، و هذا ما لا يمكن أن يحصل إلّا في تراجيديّات تاريخيّة شاملة تعني الفَناء الوجوديّ للوطن أو الأّمة في ظروف ليست غامضة و لكنّها قلّما توفّرت في ماضي التّاريخ ، و هي من المستبعدات في عصرنا هذا جرّاء ارتباط الدّول و المجتعات ارتباطاتٍ شرطيّة و متشارطة ..
و هذا على عكس انتكاس أو ارتكاس أو نكوص أو انكسار أو فقدان أو انهيار ”الهويّة الشّخصيّة” السّياسيّة الفرديّة في حالات معروفة من الهزائم النّفسيّة الفردية بواسطة الوهم أو التّوهّم السّياسيَّينِ ، أو في الانتحار أو الجنون أو الانحراف الموصوف .
19▪ الذي يُطرح ، هنا ، هو انتقالنا من ”الثّابت” إلى ”المتغيّر” ، نموذجيّاً ؛ بمعنى أنّ هذا النّزاع حول ”الهويّة” و ”الانتماء” السّياسيين ، إنّما هو نزاع ظرفيّ – سياسيّ ، و هو يدخل في إطار ما يمكن أن نسمّيه ”هُويّة الدّولة” السّياسيّة ، إذ لطالما لم يُثَر هذا التّناقض و ذلك الاختلاف إلّا في ظرف محدّد و مسمّى و هو ظرف الحرب أو الظّروف التي أحاطت بسورية في هذه الحرب من وسطها العربيّ و مكوّناتها الاجتماعّية و الثّقافيّة و السّياسيّة ، و هي ظروف ”متغيّرة” تبعاً للمواقف السّياسيّة التي نشأت أو ظهرت ، بالأحرى ، مع تطوّرات هذه الحرب .
و هويّة الدّولة ، السّياسيّة ، على هذا الأساس ، يجب أن لا تمسّ ثوابت هويّة الوطن أو الأّمة ، و إتّما يجب أن تبقى في إطارها السّياسيّ المباشر كتعبير عن مساءلة الدّولة مساءلة سياسيّة حول أفضل مواقفها تُجاه محيطها العربيّ و تكوينها الاجتماعيّ الثّقافيّ ، و حول أيٍّ من مضمون الدّولة السّياسيّ هو الذي يُفترض أن يكون الرّدّ السّياسيّ المتغيّر على ظروف موقع سورية السّياسيّ و الثّقافيّ و الاقتصاديّ و الاجتماعيّ ، بالنّسبة إلى جيرانها العرب و مؤلِّفاتها الاجتماعّية الثّقافيّة الدّاخليّة و مضامينها من المشاريع ”الوطنيّة” المتعدّدة و المتناقضة ، و التي قد تُجيز المساءلة الثّقافيّة السّياسيّة للدّولة في هويّتها السّياسيّة جرّاء ما واجهته من ظروف مشابهة بنيويّاً في المجتمع و الثّقافة و السّياسة بالذّات .
20▪ واضحٌ أنّنا أمام موقف سياسيّ واقعيّ في موضوع محدّد في الهويّة السّياسيّة لا يسمح بالتّوسّع التّاريخيّ إلى الهويّة الوطنيّة – القوميّة التّاريخيّة ، إذ يجب أن يبقى محصوراً في الثّقافة الوضعيّة للمجتمع بمختلف كياناته السّياسيّة ، ما يطرح على الدّولة ، حصراً ، أمر انتقادها في بنية هويّتها السّياسيّة و مشروعها المدنيّ أو العلمانيّ أو الدّينيّ .. و الاقتصاديّ و السّياسيّ و الدّستوريّ .. ، إلخ ..
و تفنيد أبعاد انتمائها الإقليميّ و الجغرافيّ ، من دون المساس بعمق الانتماء السّياسيّ الّتاريخيّ للهويّة الحضاريّة المتعلّقة بثوابت و بديهيّات الهويّة و الانتماء .
21▪ في الواقع لقد تجاوز المناخ الثّقافيّ حدوده السّياسيّة إلى انفعالات مغالية في طروحاتها على الدّولة و هويّتها الحضاريّة ، و هو الأمر الذي حرف الجدال المضمون و المشروع حول هويّة الدّولة السّياسيّة المعاصرة لسورية ما بعد ظروف الحرب ، في حوار ثقافيّ و سياسيّ ظرفيّ و متغيّر و عاديّ ، إلى انحدار ثقافيّ و سياسيّ تناول الثّوابت الوطنيّة و القوميّة التي يجب أن تكون من المواضعات التّاريخيّة النّاجزة ، في مفاجأة صدمت العقل السّياسيّ النّقديّ و جعلت منه عقلاً متأمّلاً زيف الانتماء السّوريّ الحضاريّ و ثوابته الوطنيّة و القوميّة في حالته الاجتماعيّة ”النّظريّة” ، لِيُعيدَنا إلى المرحلة الوحشيّة الثّقافيّة التي تنتسب إلى ما قبل عهود الانتماء و وعي الُهوّية الحضاريّة النّاضجة ، بسذاجات تفكيريّة تنتمي إلى عهد الطّفولة الثّقافيّة و الأمّيّة السّياسيّة ، إذا ما أجرينا المقارنة الحتميّة و الموضوعيّة بين السّوريين ، و باقي شعوب العالم المعاصر اليوم .
إنّ أقصى قبيلة في أقصى شمال شعوب ”الأسكيمو” ، اليوم ، تدرك بعد هوّيتها “الحضاريّة” ، وفق التّرتيب الثّقافيّ – السّياسيّ في الانتماء إلى هذا العالم و دورها ”التّاريخيّ” فيه ، كثابت لا يجوز المساس به ، في الوقت الذي عجز فيه كثير من السّوريّين عن إدراك ثوابت انتمائهم السّياسيّ التّاريخيّ إلى هويّة عروبيّة سوريّة ضاربة الجذور في عشرة آلاف سنة من الزّمان ، في ثابت تاريخيّ هو الأقوى ، وفق أحدث الدّراسات الاستشراقيّة العالميّة ، ناكصين إلى ما قبل نهاية العصر الجليديّ الأخير ، في الثّقافة و السّياسة و ”التّحَضُّر”(!) و الانتماء .
22▪ ما فضحته هذه الحرب ، علاوة على كلّ ما فضحته ، هو التّكوين الثّقافيّ السّياسيّ العربيّ السّوريّ ، في سطحيّة ثقافيّة تاريخيّة مفزعة ، و عنصريّة مغلقة ، قد لا يُجاريها فيها أيّ شعب أو جماعة قبليّة منسيّة في غابات ( أستراليا) أو شمال (الأسكيمو) ، على وقع زيف ثقافيّ سوريّ كبير يضرب جذوره في كثير من ”الأكاديميين” و ”المفكّرين” و ”الناشطين ” السّياسيين و المسؤولين ، قبل ”الأمّيين” ، في صورة مرعبة من الضياع ”الحضاريّ ” و ”السّياسيّ ” أذهلت العقل و القلم !
عندما يكون العامل السّياسيّ حيّاً و متحرّكاً في شخصيّة الدّولة ، في قرارها السّياسيّ الواضح و الصّريح ، فإنّها ، والحالة هذه ، تأخذ لها حقوق مواصفات الدّولة الوطنيّة في ممارسة الحكومة ، و ذلك من أصغر اليوميّات شأناً – كتنظيم حركة المرور – إلى أقصى ما تتطلّبه السّياسات الاجتماعّية للمواطنة و الوطنيّة .. و ذلك بالعدالة الاجتماعّية و الاقتصادّية و السّياسيّة للدّولة في اتّخاذها قراراتها الأكثر إنسانّية ، في الدّاخل ، و الأكثر استقلالّية في خارج الحدود .
التعليقات مغلقة.