مقال هام بالإقتصاد السياسي … البنك العالمي، أداة هيمنة أمبريالية / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) الخميس 10/1/2019 م …
تقديم
أصدر رئيس البنك العالمي “جيم يونغ كيم” (أمريكي من أصل كُورِي جنوبي) بيانًا مُقْتَضَبًا يوم الإثنين 07 كانون الثاني/يناير 2019، يعلن استقالته من رئاسة البنك، قبل انتهاء ولايته الثانية بأربع سنوات تقريبًا، لِيعْمل في القطاع الخاص، في مصرف أو شركة “تستثمر في مجالات تحسين البنية التحتية والمناخ” في ما سماها “الأسواق النّاشِئة”، وذلك بعد أن قضى ست سنوات على رأس البنك العالمي (من 2012 إلى بداية 2019)، مما يُظْهِرُ العلاقة الوطيدة بين البنك العالمي ومؤسسات “بريتن وودز”، والشركات متعددة الجنسية، ومعظمها أمريكية المَنْشَأ، وسهولة الإنتقال من هذه المنظمات الدّولية إلى الشركات والمصارف العابرةو للقارات، أو العكس، لأن كلاّ منهما (البنك العالمي والشركات متعددة الجنسية) تُشَكِّلُ أداة هيمنة إمبريالية، وهو ما سنحاول إبرازه، اعتمادًا على وقائع لا يُمكن إنكارها…
تُعَيِّنُ الولايات المتحدة رئيس البنك العالمي، وتُعَيِّنُ أوروبا المدير التنفيذي لصندوق النقد الدّولي، وكَكَلِّ رؤساء البنك، كان “جيم يونغ كيم” يُمثل سياسات ووجهات نظر الإمبريالية الأمريكية، وتمثّلت مُهِمّتُهُ في إعادة هيكلة البنك، مما أثار بعض الاعتراضات من داخل (وهو حَدَث استثنائي) ومن خارج البنك، الذي تُسَيْطِرُ عليه أمريكا وأوروبا، منذ تأسيسه، قبل حوالي 75 وسبعين سنة (1944) …
تمكّن البنك العالمي من ترسيخ كذبة أو خديعة، مفادها إن المُهِمّة الرَّئِيسية للبنك العالمي تتمثل في القضاء على الفقر المدقع في العالم بحلول 2030، وادّعى إنه يهتم الآن بالمشكلات الأخرى، مثل “تغير المناخ والأوبئة والمجاعة واللاجئين، لتعزيز الازدهار المشترك للإنسانية…”
البنك العالمي شريك في جرائم الإمبريالية:
يُعتبر “أحمد سوكارنو” (1901- 1970) أحد أبْطال استقلال أندونيسيا وأحد مُؤسِّسِي الدولة المُستقلة الحديثة، وهو أحد القادة المُؤَسِّسِين لحركة “عدم الإنحياز”، واستضافت بلاده مؤتمر “باندونغ” (مدينة في إندونيسيا) التحضيري للحركة مع “جواهر لال نهرو” (الهند) و”شوان لاي” (الصين) و”جوزيف بروز تيتو” (يوغسلافيا) و”جمال عبد الناصر” (مصر) و”أحمد بن بَللّة” من الجزائر (ممثلاً عن جبهة التحرير الوطني) وغيرهم من زعماء 29 دولة من إفريقيا وآسيا، قبل أن تلتحق بها دُول من أمريكا الجنوبية، وكان “سوكارنو” يحكم من خلال تحالف مع الحزب الشيوعي (الذي يَدْعَمُهُ، دون المشاركة في الحُكم)، على أساس تطبيق برنامج إصلاحات تتضمن التأميم والإصلاح الزراعي وبرنامج تعميم التعليم والرعاية الصّحّية، والإنفاق على البُنْيَة التّحْتِية، وغير ذلك من الإصلاحات التي تُساهم في بناء اقتصاد وطني، مع بعض الإجراءات ذات الصبغة الإشتراكية كتجمعات صغار المزارعين وتسويق الإنتاج مباشرة من المُنْتِج إلى المُسْتَهْلِك، وغير ذلك، ومنعت حكومة “سوكارنو” الشركات الأجنبية من العمل في البلاد، كما رفضت الحكومة القُرُوض الخارجية، ورفضت تدخّل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي في شؤون البلاد، مما أثار حفيظة الشركات والحُكّام الأمريكيين، ونَظّمت الإمبريالية الأمريكية والبريطانية انقلابًا عسكريّا نفَّذَهُ الجيش بقيادة “سوهارتو”، وحزب “ماشومي” (مجلس مُسلمي إندونيسيا)، الذي أسسته المخابرات الأمريكية، للحد من نفوذ أكبر حزب شيوعي في العالم، بعد الصين، ونفذ الجيش وحزب “ماشومي” مجازر ذهب ضحيتها نحو مليون مواطن، من ضمنهم حوالي 500 ألف شيوعي أو نصير للحزب الشيوعي، ولم تُثِر هذه المجازر أي احتجاج في الولايات المتحدة وأوروبا، بل شكّل الإنقلاب والمجازر فرصة ثمينة لعودة البنك العالمي والولايات المتحدة (وصندوق النقد الدّولي) للبلاد الغنية بالموارد، وذات الموقع الإستراتيجي، ودعمت هذه الأطراف تحول اقتصاد البلاد نحو الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي، بواسطة القُروض المُيَسّرة، إلى أن حلّت الأزمة الحادّة التي شهدتها منطقة آسيا سنة 1996 وما بعدها، ضربت في البداية اقتصاد تايلند الهش، قبل أن تنتشر، فانهار الإقتصاد الآسيوي والعُملات المحلية، وأدّت الأزمة في إندونيسيا إلى انطلاق مظاهرات ضخمة، ضد نظام الحكم الإستبدادي، الذي لم يعُد قادِرًا على تأمين الحد الأدنى للعيش، وعند ذلك تخلّت الولايات المتحدة عن عَمِيلها السّابق (الرئيس سوهارتو) فأصبحت سياساته الإقتصادية محل انتقادات تقارير البنك العالمي، وصندوق النّقد الدّولي، واتهمته هذه التقارير بالفساد (وهو حقيقي لكنه موجود منذ 1965) والإحتيال والإختلاس، وأصبحت الصحف الأمريكية، سنة 1998، تُحصي ممتلكاته (ثمانين شركة وثمانين مليار دولارا)، وتُحْصي عدد المساجين السياسيين وضحايا اغتيال فِرق الموت، فَتَخَلّى عنه الجيش (تسليح وتدريب الولايات المتحدة)، واضطر إلى الإنسحاب، وترك المنصب لعميل أمريكي آخر، وأصبح يُقيم في أحد قُصُوره بأحد الأحياء الفاخرة في العاصمة “جاكرتا”، إلى أن تُوفي في 28 كانون الثاني/يناير 2008…
يَذْكُر الصحافي التّقَدّمي الأسترالي “جون رتشارد بيلغر” في كتابه ( The New Rules Of the World ) أو ما يمكن ترجمته “حُكّام العالم الجُدُد” (ورَدَ ذِكْرُهُ في فقرة لاحِقَة)، إن البنك العالمي (والولايات المتحدة) غض الطرف عن مليون قتيل، في إندونيسيا، ودعم حكومة الإنقلاب، الذي نظمته وأشرفت عليه الولايات المتحدة، وبريطانيا، من اجل إعادة السيطرة على اقتصاد البلاد، ودعم سلطة “سوهارتو” الذي رَكّز أركان سُلْطَتَهُ على دماء آلاف الضحايا الذين وقع إعدامهم بدون محاكمة، أثناء الإنقلاب، أو بعد الإنقلاب في محاكمات صورية، خلال السنوات اللاحقة، وخلال سنة واحدة، أعاد البنك العالمي تخطيط اقتصاد إندونيسيا، وتمكين الشركات العابرة للقارات (الأمريكية خصوصًا) من السيطرة على الموارد الطبيعية الهائلة وعلى ملايين العُمال، واعتبر الرئيس “رتشارد نيكسون” إن السيطرة على إندونيسيا “أعظم جائزة لأمريكا في آسيا”، وكشفت وثائق البنك العالمي إقراض إندونيسيا ثلاثين مليار دولارا خلال الفترة 1966 – 1997، قبل انهيار الإقتصاد الإندونيسي سنة 1997، وعند ذلك بدأ توجيه الإتهام ل”سوهارتو” بالإستيلاء على مبالغ قد تصل إلى ثلاثين مليار دولارا، بدعم من البنك العالمي…
في “تشيلي”، أكبر مُنْتِج عالمي للنّحاس، فاز الرئيس الإشتراكي “سلفادور أليندي” بالإنتخابات الرئاسية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1970، ويُسانده ائتلاف أحزاب تقدّمية في البرلمان، وتمكن من إطلاق برنامج إنقاد اقتصادي، تضمّن رَفْعَ مستوى التعليم، ورفع رواتب الموظفين بمعدل 40%، كما تضَمّن البرنامج تأميم أهم قطاعات الإنتاج والصناعات الغذائية ومناجم النّحاس (التي كانت تُسيْطر عليها شركات أمريكية عابرة للقارات)، مما اجتذب له عداء الولايات المتحدة التي حرّضت حكومات الدول الموالية لها في أمريكا الجنوبية على عزل حكومة تشيلي، وبثت إشاعات بهدف إبْعاد المُسْتثمرين عن ضخ أموالهم في اقتصاد البلاد، وموّلت وكالة الإستخبارات المركزية (سي آي إيه) وشركات أمريكية مثل “آي تي تي” وغيرها، إضرابات التّجّار وسائقي الشاحنات، وفئات من البرجوازية الصغيرة، مما شل النّشاط الإقتصادي في البلاد، بداية من سنة 1972، وأدّى الحصار وانخفاض الإستثمارات إلى غلاء الأسعار واختفاء السّلع، وارتفاع نسبة التّضخّم، مما خلق جوّا من التوتر والإضطرابات التي استغلّتها المخابرات ووسائل الإعلام الأمريكية للتحريض الإيديولوجي (ضد “الإشتراكية” التي أصبحت مرادفًا للأزمات وندرة السّلع)، ولتمويل الإضرابات وتسخير وسائل نقل للمتظاهرين، وبدأت مرحلة الركود الإقتصادي، مما أدّى إلى فوز المعارضة اليمينية في الإنتخابات التشريعية (آذار/مارس 1973)، ولكن بنسبة لا تكفي لعزل الرئيس، الذي نظمت الولايات المتحدة ضده محاولة انقلاب أولى، فَشِلَتْ في حزيران/يونيو 1973، ثم محاولة أخرى، أطاحت به في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، بزعامة الجنرال “أوغستو بِنوشيه”، قائد الجيش، بدعم أمريكي مُباشر، وتم تجميع حوالي ثلاثين ألف مُعارض للإنقلاب، في ملعب العاصمة سنتياغو، أعْدَم الجيش منهم حوالي ثلاثة آلاف خلال يوم واحد، بالإضافة إلى آلاف المُعْتَقَلِين بدون محاكمات أو بدون توجيه تهمة، وهروب عشرات الآلاف من البلاد، خوفًا على حياتهم، وكما الحال في إندونيسيا، عاد البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والشركات متعددة الجنسية إلى استغلال ثروات “تشيلي”، وأشاد البنك العالمي بالحكم الرّشيد وبنمو الإقتصاد، وبارتفاع حجم “الطبقة المتوسطة”، في ظل الحكم العسكري الدّمَوِي، كما تدّعِي التقارير الكاذبة…
هذا بعض الأمثلة البارزة لتوزيع الأدوار بين البنك العالمي والإمبريالية الأمريكية، ولكن توجد أمثلة أخرى عديدة، في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وصدَرَتْ كُتُب عن موظفين سابقين في المؤسسات المالية العالمية، وفي الإدارة الأمريكية، تُبَيِّن بعض خطَط وأساليب الهيمنة…
مهام البنك العالمي:
تأسَّسَ البنك العالمي (مع صندوق النقد الدّولي)، خلال مؤتمر اقتصادي نَظّمَتْهُ الولايات المتحدة، في “بريتن وودز”، بولاية “نيوهامبشاير” الأمريكية، سنة 1944، عندما بدأت تتضح معالم هزيمة دول “المحور” (ألمانيا واليابان وإيطاليا) في الحرب العالمية الثانية، وبدأ البنك نشاطه في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير سنة 1946، وكان إسمه الرّسمي آنذاك “البنك العالمي لإعادة الإعمار والتّنْمِية”، واستهدفت الولايات المتحدة الإسراع بالهيمنة على أوروبا والعالم، قبل نهاية الحرب، عبر إعادة الإعمار، ثم أصبح البنك العالمي “مجموعة” أي إدارة مالية كُبْرَى، تُشْرف على عمل خمس مؤسسات مالية تابعة لها، “لتشجيع وحماية الإستثمار العالمي”، ويُغَلِّف البنك هذا الهدف بإعلان فضفاض وكاذب، مثل: “تمويل البلدان النامية لتطوير اقتصادها والقضاء على الفقر المُدْقَع، وتوفير المياه والرعاية الصحية والتعليم…”، ويُخَصِّصُ البنك حوالي 65 مليار دولارا سنويّا للقروض.
كانت فرنسا أول دولة اقترضت من البنك العالمي مبلغ 250 مليون دولارا سنة 1947، في إطار “دعم عملية إعادة إعمار أوروبا”، بعد الحرب العالمية الثانية، وخَصّصت حكومة فرنسا ذلك القرض لإعادة بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية (ومنها ما هدمته الطائرات الحربية الأمريكية “الحَلِيفَة”)، كما اتجهت قُروض البنك، في مرحلة أولى، إلى تمويل إعادة إعمار المناطق التي دَمّرَتْها الكوارث الطبيعية، ودعم (عبر القروض) حاجة الدول إلى إعادة تأهيل الإقتصاد بعد الكوارث والحُرُوب والنزاعات، وخصوصًا في ما سُمِّيَ “البلدان النامية”، وحديثة الإستقلال الشكلي، وأصبح البنك يُمول برامج بعيدة المدى، فيما يُموّل صندوق النقد الدولي برامج قصيرة المدى، وما تُسمّى “برامج إنقاذ”…
تتكون موارد البنك العالمي من مساهمات الدّول الأعضاء، وتتناسب حصّة التصويت مع حصة الدول المساهمة في رأسمال البنك، الذي يقترض أحيانًا مبالغ من السوق العالمية، لتقديم قُروض للدول “من أجل تنفيذ مشاريع تنمية، بشروط مناسبة”، كما يقدّم البنك قُروضًا للمؤسسات الخاصّة (بضمان الحكومات)، وتختار حكومات الدول (بما يتناسب مع حصتها في رأس مال البنك) أعضاء مجلس المحافظين وعشرين مديرًا تنفيذيًّا، ويُوظّف البنك (كما صندوق النقد الدولي) طواقم من الإقتصاديين والمُراقبين والمُفَتِّشِين الذين يُراقبون عمل الدول المُقْتَرِضَة وقوانينها وميزانياتها واستثماراتها، بذريعة “مساعدتها على تنمية الإقتصاد الوطني”، وتتحمل الدول المُقترضة تكاليف سفر وإقامة ورواتب هؤلاء “الخُبَراء”، الذين يدفعون الحكومات إلى إلغاء دعم المواد الأساسية وتسريح الموظفين وخفض الإنفاق الحكومي وخصخصة القطاع العام، وتوجيه المال العام نحو شركات القطاع الخاص، وغيرها من الشروط التي يفرضها البنك وصندوق النقد، وكل ذلك تحت شعار كاذب إسمه “تخفيف حدة الفقر”، لكن هذه القُروض وفوائدها وما يُسمّى “خدمة الدَّيْن” مكّنت البنك العالمي من تجميع أموال طائلة، ومن تشغيل طواقم من المهندسين والمحللين الماليين، في مكاتبه بواشنطن (مَقَر البنك وصندوق النقد)، ومن توسيع نشاطه إلى جميع أنحاء العالم عبر مكاتب إقليمية، تعمل بها طواقم من الخبراء الإقتصاديين وخبراء السياسات العامة، وعلماء الإجتماع، لدراسة المُجْتمعات المحلية، ودراسة وسائل الهيمنة عليها، عبر شعارات كاذبة، ظاهرها خَيْرٌ وباطنها شَرٌّ مُطْلَق…
وسائل الهيمنة:
يُشكّل البنك العالمي أداةً لِفَرْض هيمنة الرأسمالية الليبرالية الشمولية (المُعَوْلَمَة) وتطوّرت هياكله ومهماته وطُرُق عَمَلِهِ، مع مختلف الحقبات التي مرت بها الرأسمالية (في مرحلة الإمبريالية، وحَقَبَة العَولمة)، وتمثلت مهماته في العقود الثلاثة الاولى من وجوده، في ما يمكن التعبير عنه (بِلُغَة الرّأسمالية) “تشجيع الاستثمار والتنمية على المدى البعيد”، عبر تمويل البُنية التحتية، وتوفير مقومات تطور رأس المال، مثل الطرقات والجُسُور والموانئ والمطارات، وشبكات الكهرباء والمياه، وتطوير تعليم، قادر على تخريج عمال مختصين ومؤهّلِين، وكوادر ذوي مؤهلات دُنيا ومتوسطة، فيما يهتم صندوق النقد الدولي بضمان استقرار النظام النقدي والمالي الدولي على مدى قريب، لِتَتَكامَلَ بذلك مهام الهيمنة الإمبريالية، عبر عَمل المُؤَسَّسَتَيْن، اللتَيْنِ تُهَيْمِنُ عليهما الولايات المتحدة وأوروبا، ومن خلال ارتفاع حصتهما من حق التّصْوِيت على القرارات وعلى السياسة العامة، حيث تمتلك الولايات المتحدة حق النَّقْض (الفيتو) لوحدها في صندوق النقد الدولي بامتلاكها 16,7% من الأصوات، وبشكل عام، تسيطر الدول الصناعية على 60% من أصوات الصندوق، مما يحول دون محاولات الدول الفقيرة (التي تمتلك 40% من الأصوات مع بقية دول العالم)، إجراء أي تغيير في سياسات الصندوق، الذي يكون دورُهُ مُكَمِّلاً لدور البنك العالمي، لأن البنك يمول البنية التحتية التي تُهَيّء “مناخ الأعمال” أو مناخ الإستثمار، لاجتذاب الإستثمارات الأجنبية، والشركات متعددة الجنسية…
يُلخِّصُ “جوون تشانغ” (اقتصادي من كوريا الجنوبية) أهداف البنك العالمي (وكذلك صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) في “تهيئة بيئة سياسية في الدول النامية، لِتَقَبُّل هيمنة الشركات العابرة للقارات، مما يُؤَدِّي إلى تخريب البنية الإجتماعية، والقضاء على فُرَص التّنْمِية في تلك البُلْدان”، إذ تَطَوّرَ أو تَحَوّل عمل هذه المُؤسّسات (البنك والصندوق ومنظمة التجارة) من إعادة الإعمار (في البداية) إلى التحكم في اقتصاد الدول، وإبقائها تحت الهيمنة وتكبيلها بالديون، واعتمدت سياسة إعادة الإعمار على نظريات “جون مينارد كينز” بشأن دَوْر الدّولة، والإستثمار في البنية التحتية والسكن والخدمات الضرورية، والنّمو عبر تشجيع الإستهلاك الداخلي، وبالتالي عبر زيادة الرواتب وزيادة دَخْل المواطنين، لكي يتمكنوا من استهلاك السلع التي تنتجها مصانع الرأسماليين (أَوْجَز كينز ذلك بعبارة “دعم الطّلب عبر دعم الإستهلاك، ودعم العَرْض عبر دعم الإستثمار”، وهو دورٌ مَوْكُولٌ للدولة وليس للسّوق)، وبمرور الزمن، ومنذ النّصف الثاني من عقد سبعينات القرن العشرين، أصبح البنك العالمي (وصندوق النقد) يفرض سلوكًا اقتصاديًّا مُغايِرًا، يَحْصُر دول الدّولة في القمع ومراقبة المُجْتَمَع، ليتمكن رأس المال (القطاع الخاص) من اكتساح كافة القطاعات، والإستحواذ على ممتلكات الشّعوب وكل أنشطة الإقتصاد، من إنشاء وإنتاج سلع وخدمات، وأدّى تَطْبيق هذه السياسات إلى انطلاق احتجاجات شعبية في عدد من بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ثم أدّت الأزمة المالية إلى احتكار الشرائح اليمينية الأكثر رجعية للسلطة في بريطانيا وفي الولايات المتحدة، بينما كانت أهم بلدان أمريكا الجنوبية تحت هيمنة الجيش (البرازيل والأرجنتين وتشيلي وغيرها)، أو دكتاتوريات بوليسية، أو عسكرية، بغلاف مدَني، تدعمها الولايات المتحدة، ونظرًا لهيمنة الولايات المتحدة وأوروبا على البنك العالمي وعلى صندوق النقد، تغيرت الأهداف المُعْلَنَة للمُؤسَّسَتَيْن المالِيّتَيْن، بداية من 1979 (رسْمِيًّا) عبر اشتراط القُروض بتطبيق سياسات ليبرالية (سُمِّيَتْ “برامج الإصلاح الهيكلي”)، وردت تفاصيلها في مناشير البنك والصندوق، وتتلخّص في “خفض النفقات الحكومية (التقشف)، وإلغاء دعم أسعار السلع الأساسية والخدمات، وتحرير الإقتصاد، والخَصْخَصَة…”، ودعم اللقاء الذي عُرِفَ ب”وفاق واشنطن” (حزيران 1989، تحسّبًا لانهيار جدار برلين، والإتحاد السُّوفيِيتي) هذه البرامج (“الإصلاح الهيكلي”) ببرنامج عُرِفَ ب”النّقاط العشر”، وهي مجموعة شُرُوط (فتح الحدود أمام الشركات الأجنبية، وإلغاء الرسوم على السلع المستورَدَة، وخصخصة المرافق كالنقل والصحة والتعليم والمياه والكهرباء…) وتهدف تطبيق نفس البرامج، في كافة دول العالم…
تأثّر الفُقراء والمُزارعون والعاملون بأجْرٍ، بِسُرْعَةٍ كبيرة، ومنذ سبعينات القرن العشرين، بنتائج تطبيقات شُرُوط التّوْأَمَيْن (البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي)، وتظاهر عشرات الآلاف من المواطنين في عدد من البلدان في مختلف القارات، ضد سياسات وبرامج البنك العالمي، وشقيقه، وعجزت دول عديدة عن سداد الدّيُون، واضطرّت إلى إعادة جَدْوَلَتِها، بشروط مُجْحِفَة، وتَعَدَدَت تقارير المُنَظّمات النقابية والسياسية، والجمعيات ومؤسسات المجتمع المَدَنِي، التي تتّهم البنك العالمي بالعمل على تَضْيِيق هامش الحكومات، وتقويض استقلال الدول، عبر تكبيلها بالدّيون المَشْرُوطة بهيمنة الشركات العالمية على مواردها وعلى اقتصادها، وادّعت إدارة البنك إنها ستتجاوز ذلك، عبر إنشاء لجنة تحقيق مستقِلّة…
أصبح البنك العالمي (وصندوق النقد) مُخْتَبَرًا لرسم السياسات الليبرالية العالمية، التي لا تخدم سوى مصالح المصارف الكُبْرَى، والشركات متعددة الجنسية، عبر الإقراض وعبر إعادة جدولة الدّيون (وهي كارثة اقتصادية واجتماعية)، مع قُدْرَة فائِقَة على تَغْلِيف هذه البرامج (برامج الدّمار الشامل للمجتمعات الفقيرة) بشعارات إنسانية، منها “دَعْم المجتمعات المتضررة من العوامل الخارجية، وكذلك من الحالات الطارئة والكوارث والنّزاعات…”، ويقدم خُبراء البنك أمثلة على هذا العمل “الإنساني” المَزْعُوم، ومن بينها “دعم شعب البوسنة في مرحلة ما بعد النّزاع، وتقديم المُساعدات لشعوب شرق آسيا بعد أزمة 1997 – 1998، ودعم أعمل تنظيف بلدان أمريكا الوسطى بعد الإعصار… والعمل لدعم شعوب كوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها”…
استعمار جديد:
أدّى تطبيق شروط البنك العالمي (وصندوق النّقد الدّولي) إلى الإشراف على اقتصاد الدّول المُقْتَرِضَة، بالإضافة إلى إشراف صندوق النقد على النظام النقدي العالمي، وأصبح البنك العالمي يقوم بدور المُسْتشار الإجباري للدول، بذريعة “تقديم المشورة وتأهيل الموظفين في المصارف والوزارات”، وأصبح البنك، عبر هذه الآلية، يُشارك في إعداد ميزانية الدّول، ويصُوغ القوانين والتشريعات بشأن الأولويات الإقتصادية، وبشأن أوْلَوِيّات الإستثمار، وبشأن الدّور الإقتصادي للدولة، أي تقليص دور الدّولة، وتضخيم دور القطاع الخاص، وتحويل ممتلكات الشعب من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وبلغ الأمر حَدّ اقتراض الدّول أموالاً بفوائد وشروط، ليستفيد منها القطاع الخاص، بضمانة من الدّولة…
أدّت هذه السياسات إلى انتفاضات عديدة في الوطن العربي منذ 1977 في مصر، ثم في المغرب وتونس والأردن وغيرها، كما أدّى “تحرير الأسواق” وخفض قيمة العُملات، خلال عقد ثمانينات القرن العشرين، إلى انهيار اقتصاد إندونيسيا وتايلند، فيما رفضت حكومة ماليزيا تطبيق شروط صندوق النقد الدّولي، ولم يقتصر الأمر على دولة واحدة أو على قَارّة واحدة، حيث طبقت “غانا” أوامر “فتح الأسواق وإلغاء الرسوم الجمركية” فأغرق المزارعون الأوروبيون (الذين تدعمهم الدول وكذلك المؤسسات الأوروبية) أسواق غانا بالسلع الفلاحية، وتضرر المُزارعون المحلِّيُّون، وعاشت “زامبيا” تجربة مُماثلة في قطاع النسيج والملابس، وفي أمريكا الجنوبية، دعم البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي أنظمة الإنقلابات العسكرية والحكومات الإستبدادية (المدعومة أمريكيًّا)، وأغرقها بالقروض المشروطة، فانهار اقتصاد “تشيلي” (تحت الحكم العسكري منذ 11/09/1973) وأعلنت دولة المكسيك إفلاسَها (سنة 1982) وانهار اقتصاد البرازيل (أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، وتحت الحكم العسكري من 1964 إلى 1987) والأرجنتين (ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية وتحت الحكم العسكري من 1976 إلى 1983)، كما انهار اقتصاد كل الدّول التي طبّقت تعليمات البنك والصندوق (كوستاريكا وفنزويلا وبِيرُو) خلال عقد ثمانينات القرن العشرين (وفي بداية الألفية الثالثة أيضا، مثل الأرجنتين)…
اضطرّ البنك، إثر هذه الإنهيارات المتتالية للدول في مختلف القارات، واحتجاج الشّعُوب المُتَضَرِّرَة من تطبيق سياساته، إلى تعديلها بصورة مُؤَقّتَة، مرة أولى بنهاية الثمانينات، ثم مرة ثانية إثر الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، ولكنه سُرْعان ما يعود إلى شُرُوطه الأساسية والمتمثلة في ضرورة خفض النّفقات الحكومية، وبَيْعِ مؤسسات القطاع العام، وخصخصة الخدمات والمرافق، وإلغاء الرسوم الجمركية وخفض قيمة العُملة المحلية، وغيرها من “النّصائح” التي لا يُسْدِيها صديق، بل لا يُطْلِقُها سوى عدو لدود للشعوب وللكادحين والفُقراء، من طينة الإمبريالية الأمريكية، المُشْرِف الفِعْلِي على سياسات وبرامج صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وبلغ الأمْرُ ب”جوزيف ستيغليتز” (النائب الأسْبَق لرئيس البنك العالمي، وحائز على جائزة نوبل للإقتصاد) إعلان “إن ضَرَر هذه القُرُوض يَفُوق نَفْعَها” (كتاب “العولمة ومساوئها)، لأنها تُمَكِّنُ رؤوس الأموال الأجنبية من السيطرة على موارد البلدان “النّامِيَة”، وإعاقة النّمو، بدل تطويره واسْتِدامَتِهِ، وأدّت تصريحات “ستيغليتز” الناقدة (والناتجة عن خيبة أمل، وليس عن يَقْظَةٍ َمُفاجِئة للضمير)، إلى إقالته من منصبه بناء على أوامر مباشرة من وزير الخزانة الأمريكي آنذاك ( “لاري سامرز” من 1999 إلى 2001)…
آثار مُدَمِّرَة:
ذكرنا في البداية إن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وما أصبح يُسمى “منظمة التجارة العالمية”، هي أدوات تُجَسِّدُ هيمنة الإمبريالية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فَفِي الوطن العربي، يحظى حُكّام عُملاء وفاسدون، من المُحيط إلى الخليج، بمَدِيح وسائل الإعلام الأمريكية، لأنهم يُطَبِّقُون شروط هذه الأدوات، ومن بينها البنك العالمي، بينما تَئِنُّ شعوب هذه البلدان تحت وطْأَة الفقر والبطالة والقَمع والظّلم والفساد، من المغرب إلى الأردن، مرورًا بالبقية (فضْلاً عن الشعب الفلسطيني)، وأصبحت هذه الأنظمة تحت حماية الإمبريالية الأمريكية، ما دامت تُطَبِّقُ تعليمات (وشُرُوط) المؤسسات المالية الدّولية، ومن ورائها الشركات متعددة الجنسية، وتُشير البيانات إلى امتلاك الوطن العربي أرقامًا قياسية (مُرْتَفِعَة) في نسبة العاطلين والأُمِّيِّين والفُقراء، مما يعني حرمان عشرات الملايين من أبْسَطِ مُقَوِّمات الحياة، بفعل اقتصار دور الدّولة على القَمع، مع تَمْكِين الشركات العابرة للقارات من الإستحواذ على القطاع العام، ومن التحكم في اقتصاديات الدول، وفي المصير الاقتصادي، والسياسي والاجتماعي للمواطنين، لتصبح تلك الدول ومواطنوها تحت الوصاية، أو تحت نظام الإنتداب…
رغم القُوّة المُتعاظِمَة للبنك العالمي وتوأمه صندوق النقد الدولي، بدأت بعض الأوساط، من داخله ومن خارجه، تُشِير إلى ما تُسمِّيه “أخْطاء” ارتكبها البنك العالمي، وهي في واقع الأمر ليست أخطاء، وإنما جُزْءٌ من خطَطِهِ، الهادفة إلى مَنْعِ أي دولة “نامية”، من تحقيق تطور اقتصادي (صناعي أو زراعي)، ومن تحقيق التطور التقني، ليكتمل استقلالها…
لم تبدأ خطة تدمير اقتصاد البلدان خلال منتصف سبعينات القرن العشرين، بل كان التّدْمِير ضمن المُخَطّط منذ التّأسِيس، وإنما ظَهرت آثارها بوضوح، خلال تلك الفترة، وبدأ البنك العالمي يُطَبِّق سياسة التّدْمِير، منذ تأسيسه، ومنذ بدأ يُقْرِضُ الدّول، ولَعِب البنك دورًا نَشِطًا في الإطاحة بالحكام (والأنظمة السياسية) الذين يحاولون بناء اقتصاد وطني، مستقل، وكان للبنك دور هام في تخريب خطة الضباط الأحرار، من أجل بناء اقتصاد وطني في مصر، لأن النظام المصري كان يبحث عن طريقة للخروج من التقسيم العالمي للعمل، السّائد آنذاك، وبالمُقابل، ساعد البنك العالمي في دخول الإستثمارات الأجنبية للدول التي كانت موالية للولايات المتحدة، وقدّم قُرُوضًا بشروط ميسّرة إلى الحكومات الموالية للإمبريالية الأمريكية، في البرازيل، وتشيلي (بعد انقلاب 1973) والمكسيك وكولومبيا وتركيا وإيران وتايلند وتايوان وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا، بعد انقلاب 1965…
أشار خبيران اقتصادِيّان، أحدُهما من داخل البنك العالمي، الفرنسي “بول رومر”، الذي استقال من منصب “كبير الإقتصاديين في البنك” في كانون الثاني/يناير 2018، وثانيهما من خارج البنك، “إيفان سولتاس” الذي نشر دراسة (منشورة على موقعه الشخصي) في أيار 2016، إلى تيسير البنك العالمي دخول الشركات الكبرى إلى البلدان الرأسمالية المتطورة، كما يُشِير الخَبِيران “إن الدول التي طَبّقت تعليمات البنك العالمي لم تحقق النمو الاقتصادي المتوقع، لا على مدى قريب ولا على مدى بعيد، لأن البنك الدولي يوصى بتطبيق سياسات قائمة على التوقعات والافتراضات الأكاديمية، وليس على الواقع الإقتصادي والإجتماعي لهذه الدول، فَيُؤَدِّي تطبيق برامج البنك إلى تعميق الفَجْوة الطبقية، داخل البلدان، والفجوة بين البلدان الصناعية الكبرى والبلدان الأخرى، ووصف بعض خبراء الإقتصاد “توصيات” البنك العالمي بأنها “نصائح خاطئة، وغير مضمونة العواقب”، لكن حكومات دول “الجنوب” تسعى لإرضاء البنك العالمي (وهي عَمِيلة بطبيعتها)، لتتجنّبَ التقارير السّلبية التي تجلب بدورها تصنيفًا منخفضًا (من قِبَل مؤسسات التصنيف، وجميعها أمريكية، مُرْتَبِطَة برأس المال الإحتكاري)، ولتجنب عَزْلِها تجاريا وماليًّا، وفي كل الحالات فإن حكومات هذه الدّول لا تُخَطِّطُ لتحقيق الإستقلال الإقتصادي، وأَلْغَتْ من جدْوَل أعمالها تَنْمِية الإقتصاد من خلال تطوير قطاع الفلاحة، ومن خلال التصنيع، وهي القطاعات القادرة على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي، يكون مقدّمة لتقرير المصير الإقتصادي والسياسي، شرط عدم بيع القطاع العام، والإبقاء على دور الدولة في عملية التخطيط والتنفيذ، وشرط وضع العدالة الإجتماعية (توزيع الثروات بشكل عادل) كهدف، والإستثمار في قطاعات الإسكان والتعليم والصحة، لدَعْم التّنمية الشاملة…
نقد من الدّاخل:
لا يقتصر نقد دور البنك العالمي، واتهامه بخدمة المصالح الإمبريالية، على التقدّمِيِّين واليسارِيِّين، ولكن عددًا من المسؤولين الليبراليين عبَّرُوا عن خيبة أملهم (هل كانوا ساذجين إلى هذا الحَدّ؟) فاستقالوا أو أُقيِلُوا، وكتبُوا نقْدًا يعتمد على معاينتهم لسير البنك العالمي، وذكرنا بعضهم في سياق هذا البحث، وبشأن “جوزيف ستيغليتز” (الذي طلب وزير الخزانة الأمريكي، أي الرئيس الفِعْلي للبنك، إقالتَه) فقد ترأس طاقم المُسْتشارين الإقتصاديين للرئيس بيل كلينتون، وحصل على جائزة نوبل سنة 2001، ثم عاد إلى التدريس في أرقى الجامعات، وكرّس بعضًا من وقته وجُهْدِهِ البحثي لنَقْد سياسات وممارسات البنك العالمي – الذي عرفه من داخله – وكذلك صندوق النقد الدولي، لأن البنك العالمي يَدْعم الشركات العابرة للقارات، ويدعم الخَصْخَصَة…
من جهته، استقال الخبير الإقتصادي “رافي كانبور” من منصبه، سنة 2000، احتجاجًا على الضغوط التي واجَهَها، لتغيير محتوى التقرير الذي قَدّمَهُ عن الفقر في العالم، بتكليف من البنك، ونشره فيما بعد في كتاب “التنمية في العالم”، وطلب منه رئيس البنك العالمي “التخفيف من لهجة التقارير حول النمو وإعادة التوزيع الاقتصادي”، وفق تصريح أدلى به سنة 2000، وأعلن “كانبور” إن وزير الخزانة الأمريكي (لاري سامرز، مرة أخرى) طلب منه تغيير نتائج البحث بشأن حقيقة الوضع الاقتصادي للبلدان التي شملها تقرير التنمية، ما اضطر “رافي كانبور” إلى الإستقالة بشكل مُفاجئ، وكتب “جوزيف خان” في صحيفة نيويورك تايمز: “إن سياسات البنك العالمي لا ترمي القضاء على الفقر، بل تُرَكِّزُ على تدابير التقشف التي تزيد من ثروات الشركات الكُبْرَى، وتزيد من بُؤْس الفُقراء”، وكشفت مجموعة من التقارير الصادرة عن اقتصادِيِّين من داخل ومن خارج البنك، الأثر السّلْبِي لبرامج البنك العالمي على البيئة، وأهمُّها تمويل برنامج في البرازيل، سُمِّي ( Polonoroeste ) “التنمية المُتكاملة لمنطقة الشمال الغربي” سنة 1981، إبان فترة الحُكْم العسكري، وهي أفقر منطقة في البرازيل، وتسبب البرنامج (وكلفته 1,6 مليار دولارا) في تدمير الغابات المَطِيرة والإستيلاء على أراضي السّكّان الأصليين وتهجير حوالي 60 ألف منهم، من أجل شق طرقات تُيَسِّرُ استغلال أراضيهم، واستغلال الغابات، وتسبَّبَ البرنامج (قبل أن يتوقّف) في تدمير البيئة وحياة السّكّان وفي هجرة كثيفة للسكان الأصليين…
أعلن البنك الدولي، يوم السبت 07/11/2015، استقالة اثنين من كبار مسؤوليه، وهما المدير المالي الفرنسي “برتران بادريه”، ورئيس هيئة التمويل الدولي الصيني “جين يونغ كاي”، وفق برقية لوكالة “فرنس برس”، وكان “برتران بادريه” يشغل منصب المدير العام السابق للمصرف الفرنسي “سوسييتيه جنرال”، قبل تولى منصبه في البنك العالمي في آذار/مارس 2013، وأشرف خصوصاً على إعداد وتنفيذ “خطة لخفض النفقات وتعزيز القوة المالية للبنك العالمي، لتأمين عائدات إضافية، مع التحكم بالنفقات“، ووعده رئيس البنك العالمي، سنة 2014، بمكافأة قدرها 94 ألف دولار، أثارت احتجاج عدد من موظفي البنك، المُهَدّدِين بخفض قيمة رواتبهم وبالتسريح، من أجل توفير 400 مليون دولار من ميزانية البنك الذي ألغى 500 وظيفة من إجمالي خمسة عشر ألف موظف، سنة 2016 … أما ثاني المسؤولين المستقيلين فهو الصيني “جين يونغ كاي”، رئيس هيئة التمويل الدولي، الفرع الموجه للقطاع الخاص في البنك الدولي، وأعلن مغادرة منصبه خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2015، ووَاجه هذا المسؤول اتهامات من قبل منظمات المجتمع المدني مثل أوكسفام ومنظمة العفو الدولية بسبب المحاباة وعدم التّدْقِيق في اختيار المشاريع التنموية من قبل “هيئة التمويل الدّولي” التي يُديرها ويُشرف على سَيْرِها…
تهيئة المناخ لهيمنة الشركات العابرة للقارات:
ذكرنا في فقرة سابقة إن قروض البنك العالمي تستهدف تحسين البنية التحتية التي تُمَكِّنُ الشركات العابرة للقارات من استغلال ثروات وعُمّال البلدان الفقيرة، ويقول الاقتصادي الكوري الجنوبي “ها جوون تشانغ” (سبق ذكره في بداية هذه الورقة)، إن الدافع الوحيد لسياسات البنك العالمي يتمثل في تهيئة بيئة تُمكّن الشركات عبر الوطنية، من استغلال معادن ونفط وثروات وسُكّان البلدان النامية، كما كشف الكاتب والسينمائي الأسترالي “جون رتشارد بيلغر”، في كتابه (الذي ورد ذكره في فقرة سابقة) “حُكّام العالم الجُدُد” ( The New Rulers of the World ) العلاقة بين موافقة البنك العالمي (وصندوق النقد الدولي) على إقراض الدول الفقيرة، والتّفْرِيط في الموارد والمعادن والأسواق، وشركات القطاع العام، لمصلحة الشركات الأمريكية والأوروبية، التي تستغل عمل فُقراء هذه البلدان الفقيرة، مع الإستفادة من الإعفاء من الضّرائب، ليُصبِح سكان هذه البلدان أكثَرَ فَقْرًا، وليُصْبِح الأثرياء الأمريكيون والأوروبِّيُّون أكثر ثراءً، من سداد الدُّيُون التي تعود على هذه الشركات بالنّفع، ومن العمالة الرخيصة، ومن الإعفاء من الضرائب، مع الإستحواذ بأسعار رمْزِية على شركات القطاع العام في نفس هذه البلدان الفقيرة، وتسريح العُمال…
أدّت هيمنة الشركات الأجنبية على اقتصاد وموارد بلدان “الجنوب”، عبر قُروض البنك العالمي، إلى تشريد حوالي 3,4 ملايين شخص، خسروا مساكنهم وأراضيهم وموارد رزقهم، خلال أقل من عقدَيْن، بسبب إنشاء السّدود ومحطات توليد الطّاقة، التي يُمولها البنك العالمي، وفق دراسة نشَرها الإتحاد الدولي للصحافيين الإستقصائيين، وذكرت الدّراسات مثال البرازيل، الذي أشَرْنا إليه سابقًا، ونيجيريا، حيث أطردت سلطات ولاية “لاغوس” (العاصمة السّابقة وأكبر مدينة في البلاد) آلاف السكان من حي فقير، دون تنبيه، ودون تعويض، بسبب برنامج يُشرف البنك العالمي على تمويله وتنفيذه، وحصل نفس الشيء تقريبًا في كينيا، في ظروف مشابهة، ولنفس الأسباب…
في “بوليفيا”، طلبت الحكومة قرضًا (قبل سنة 2000) بقيمة 25 مليون دولارا (وهو مبلغ صغير جدا)، لتمويل جمعية تعاونية محلّية تُشرف على مشروع أمدادات المياه، ورفض البنك الدّولي الموافقة على القرض (رغم صِغِ المبلغ)، وطلب من الحكومة تكليف الشركة الأمريكية “بكتل” بإدارة إمدادات المياه، في منطقة “كوتشابامبا”، وبتجميع مياه الأمطار، ورضخت الحكومة، لكن الشركة الأمريكية منعت السّكان من جَمْع مياه الأمطار، وطالبتهم بتسديد ثمن ما جَمَعُوه من مياه، وفاقت قيمة الرسوم على المياه (التي طلبتها الشركة الأمريكية) قيمة إنفاق السّكّان على الغذاء، ويصل إلى 50% من دَخْل الأُسَر، وعندما تَمرّدَ السّكّان قتل جيش بوليفيا حوالي مائة شخص، دفاعًا عن مصالح الشركة الأمريكية التي نَصّبَها البنك العالمي مُديرًا ومالكًا لمياه الأرض والأمطار في بوليفيا، واضطرت الحكومة للتراجع، وإعادة إدارة المياه إلى التعاونية التي تُوزّعُها بشكل مَجاني على السّكّان…
في نيجيريا، أطْرَدت الشرطة بالقوة الآلاف من سُكّان أحد الأحياء الفقيرة في مدينة لاغوس، وهدمت الجرافات أكواخ السّكّان، الذين تم تهجيرهم في شهر شباط/فبراير 2013، دون تعويض، لإقامة مشروع عقاري ضخم، يتضمن مباني ومتاجر، بتمويل من البنك العالمي، على أنقاض أكواخ الفُقراء الذين يدّعِي صندوق النقد الدولي العمل من أجل انتشالهم من الفَقْر، وفي الحَبَشَة استخدمت الحكومة قرضًا من البنك العالمي لتنفيذ مشروع معماري ضخم (يدعمه البنك)، يتضمن منطقة صناعية مُخَصّصة للشركات الأجنبية متعددة الجنسية، وشنت السلطات حملة عنيفة جدّا من أجل تهجير جماعي، لحوالي ثلاثمائة ألف شخص، من أراضيهم التي يزرعونها منذ مئات السنين، في ضواحي العاصمة “أديس أبابا”، ونفذت الحكومة (بدعم من البنك العالمي) عمليات إعادة التوطين القَسْرِي…
إن ما حصل في البرازيل ونيجيريا وإندونيسيا وبوليفيا وغيرها، حصل أيضًا في بلدان أخرى، من أجل إنجاز مشاريع الشركات متعددة الجنسية، تتمثل في إقامة السّدُود، أو محطات توليد الطاقة أو المشاريع العقارية الكبيرة الأخرى، باسم التنمية، والتّطْوِير، وذهب ضحيته خلال عقد واحد (من سنة 2004 إلى سنة 2013)، نحو 3,4 ملايين من الفُقراء الذين أصبحوا مُشَرّدِين، واستولت الشركات المدعومة من البنك العالمي على أراضيهم ومساكنهم ومصادر رزقهم، كما أشرفت “مؤسسة التمويل الدولي” (التابعة للبنك العالمي، والمتخصصة في تمويل القطاع الخاص) على مشاريع حكومات وشركات تورطت (بالأدِلّة والحُجَج) في انتهاكات حقوق الإنسان، والقتل والاغتصاب والتعذيب، وأصدر فريق يتألف من أكثر من خمسين صحفيا (من 21 دولة) تقريرا يُلَخّص نتائج بحث دام سنة واحدة، يُوثِّق بعض النتائج السّلبية (على المواطنين) لمشاريع يُمولها البنك العالمي في ألبانيا والبرازيل والحبشة وهندوراس وغانا وغواتيمالا والهند وكينيا وكوسوفو ونيجيريا وبيرو وصربيا وجنوب السودان وأوغندا، وأضرت المشاريع التي يُمَوِّلُها البنك، بسكان العشوائيات الحضرية ومزارعي الأراضي القاحلة والصيادين الفقراء وسكان الغابات وجماعات السكان الأصليين، الذين بقوا دون حماية، وأصبحوا يُواجهون أحيانا الابتزاز والعنف.
آفاق:
تمكّن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ومن ورائهما الولايات المتحدة، من فَرْضِ رُؤساء على رأس بعض الدول (ساحل العاج وليبيريا…) ورؤساء حكومات، ورؤساء المصارف المركزية (تونس)، ولكن اهترأت قُوّة الولايات المتحدة ولم تَعُد تلك القُوّة التي تَفْرِضُ ما تشاء على العالم، وأصبحت تُجابه منافسة الصين، التي تطمح بدورها، بدعم روسي حَذِر، إلى تأسيس ما تُسمِّيه “عالم مُتعدّد الأقطاب” (في مقابل القُطْب الواحد المُهَيْمِن على العالم)، وأسّست دول مجموعة “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) بعض الآليات لتكثيف التعاون فيما بينها (قبل انتصار اليمين المتطرف في البرازيل وفي الهند وتأزّم الوضع في جنوب إفريقيا)، وتبعًا لذلك، لم يعد البنك العالمي وحيدًا على ساحة القُروض طويلة الأجل، إذ أسست مجموعة “بريكس” مصرفًا (متواضعًا) للتنمية، قد يتلاشى بتلاشي المجموعة، كما أطلقت الصين مصرف تنمية جديد وأقنعت بريطانيا وألمانيا وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين بالانضمام إليه، رغم من المعارضة المعلنة من الولايات المتحدة، وضم 58 دولة عند تأسِيسِه، كما أنشأت الصين “المصرف الآسيوي للإستثمار في البنية التّحتِيّة”، كما أطلقت الصين منذ سنة 2013 مشروع “طريق الحرير الجديد” أو ما يُسميه الإعلام الصيني “مبادرة الحزام والطّريق”، وخصّصت له حكومة الصين مبالغ ضخمة، لتوسيع الموانئ، وإنشاء الطرقات وسكك الحديد، وشبكات توليد وتوزيع الطاقة، في البلدان “النّامية”، وقد تُؤَدِّي هذه المبادرات إلى تقليص دور البنك العالمي، لأن حكومة الصين تَدّعِي إنها تستهدف تطوير التجارة بين البلدان وتنمية البلدان الواقعة في محيط خطة “الطريق والحزام”…
أكّد البنك العالمي التزامه بـ”عدم التسبب بأضرار” للناس أو للبيئة، ولكن، استخدمت “مجموعة البنك العالمي”، بين 2009 و2013، أكثر من خمسين مليار دولارا من القُرُوض في مشاريع تضاعفت خطورتها على الصحة وعلى البيئة، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، وصُنِّفَتْ هذه المشاريع على أنها الأكثر خطورة على المجتمع والبيئة “بشكل لا رجعة فيه، أو لم يسبق له مثيل”، كما تسببت سياسة البنك العالمي في ارتفاع حجم الديون، وارتفاع نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي للدول المُسْتَدِينَة، وهي دول “نامية”، أي فقيرة، ادّعى البنك العالمي إن القُرُوض تهدف مُساعدة هذه البلدان على تحقيق النّمُو الإقتصادي، والقضاء على الفَقْر، ولكنها أدّت إلى ارتفاع الدّيون وخدمة تلك الدّيون، وزاد ارتباط الدّول المُقْتَرِضة بالبنك العالمي وبصندوق النقد الدّولي، وزادت تَبَعِيّتُها، وفقدت استقلالية القرار الإقتصادي والسياسي، وأصبحت دول عديدة تُخَصِّصُ أكثر من 20% من الإنفاق السنوي، لتسديد الدّيون، وفاقت قيمة تسديد الديون وخدمة الديون (الخارجية لوحدها)، ميزانيات الإنفاق على الخدمات الأساسية، في المغرب وتونس ومصر والأردن، وفي دول أخرى عديدة من العالم، خارج الوطن العربي…
أثارت مثل هذه البيانات والوقائع عَجَب بعض الإقتصاديين (الذين يُدافعون دفاعًا مُسْتَمِيتًا عن النهج الإقتصادي الرأسمالي)، لأنها تتعارض مع ادّعاءات البنك العالمي، من “استهداف الحد من الفقر”، أو تنقية البيئة ودعم برامج الحصول على المياه النقية والرعاية الصحية وتعليم الأطفال، بدل العمل في الشوارع والمَزارع، وأعلن هؤلاء الاقتصاديين إن الأهداف المُعْلَنة للبنك العالمي تُشَكِّلُ غطاءً لتكبيل البلدان الفقيرة، وإجبارها على تطبيق سياسات “نيوليبرالية” تجعل ثروات هذه البلدان بأيدي الشركات والمؤسسات المالية “الغربية”…
أصبح المواطنون أكثر وَعْيًا بخطورة الدّيون الخارجية، وبالتأثِير السّلْبِي لشُرُوط الدّائنين على حياتهم اليومية، وعلى الوظائف والرواتب والقطاع العام والإنفاق الحكومي وغير ذلك من التأثيرات السّلْبِية، وتظاهر المواطنون العرب (سُكّان البلدان العربية) من المغرب إلى المَشْرِق ضد السياسات والبرامج التي فَرَضَها تَوْأم “بريتن وودز (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي)، ولكن الأحزاب والمنظمات المُعارضة (الأحزاب التقدمية واليسار) لا تولي أهمية كبيرة للتفكير في بدائل للسياسات الحالية (الإقتصاد والسياسة والتّنمية والتّشْغِيل والإنتاج…)، وترفض بعض أحزاب اليسار شعار التّوقّف عن تسديد الدّيُون التي لم يستفد منها الشعب، أو شعار “إلغاء الدّيون”…
من الضروري، وهذا أضْعَف الإيمان،إطلاق نقاش واسع حول البدائل المُمِكِنة، والبدائل الضّرُورِية لسياسة التّبَعِيّة الحالية للدول العربية التي ارتفعت ديونها الخارجية بسرعة خلال العقد الأخير (المغرب وتونس ومصر ولبنان والأردن والسودان…)
=+= للتّوسّع، يرجى الإطلاع على:
*كتاب “الإغتيال الإقتصادي للأمم” – اعترافات قُرصان اقتصادي للمؤلف “جون بركنز” – John Perkins – (مُترجم للعربية منذ 2015)، وهي شهادة من جَوْف الإمبريالية الأمريكية
*كتاب “التاريخ السّرِّي للبنك العالمي” – تأليف “زكي العايدي”، بالفرنسية سنة 1989، ونُشِرَ بالعربية سنة 1992
*معظم البيانات وردت في صُحف “إيكونوميست” + “غارديان” + “لوموند” + “فايننشال تايمز” + تحاليل وكالات “بلومبرغ” ورويترز وأ.ف.ب، ويمتدح معظمها “مساهمة البنك العالمي في القضاء على الفقر المدقع”، وتمتد فترة هذه التقارير على فترة تفوق عشرين سنة (بين نيسان/ابريل 2015 وكانون الثاني/يناير 2019 )
التعليقات مغلقة.