حكومة السّياسة .. و سياسة الحكومة … فلسفة السّياسة بين الدَّسيسة و الاختيار ( 2 من 5 ) / د. بهجت سليمان
د . بهجت سليمان* ( سورية ) الخميس 17/1/2019 م …
* مفكر سوري ، سياسي وجنرال متقاعد، وسفير سابق في الأردن …
1▪ في الأحوال العادّية اليومّية ، و في تبادل العلاقات الاجتماعّية السّياسيّة ، و في خارج أوقات ”الأزمات” الشّاملة ، لا ُتعَدُّ الممارسات الحمائيّة ، للدّولة ، فعلاً سياسيّاً نوعيّاً خالصاً .
و تظهر هنا ”السّياسة” العامّة بوصفها فعلاً ”لا سياسّياً” ، أو فعلاً سياسيّاً غير نوعيّ ؛ و ذلك بقدر ما يكون الأمر صالحاً في المقارنة بين أفعال المؤسّسات السّياسيّة ، في هذا الوضع ، مع أفعال أخرى يتوقّف عليها تعزيز ”النّظام” العامّ ..
إذ يمكننا أن نقول إنّ السّياسات العامّة ، هنا ، تدخل في صلب ”السّياسة” النّوعيّة كالحدّ و الكفّ و ”الاستراتيجيّات” الواسعة التي تعود في أصولها إلى المفهوم العسكريّ ، الحربيّ ، في أوقات التّدخّل السّياسيّ النّوعيّ المباشر لمؤسّسة الدّولة .
2▪ و يختلف الأمر في مناسبات ممارسة الّسلطة الاستثنائّية ، إذ يُعتبر الأمر كّله ، على هذه الدّرجة ، أمراً سياسيّاً نوعيّاً ، محضاً ، بما فيه الصّراع المستتر أو الجهريّ على “الأدوار” .
3▪ يظهر ، في هذا الانخراط المباشر للّدولة في الممارسة ، تعضٍّ لآليّاتِ ممارسات و أداء الحكومة ؛
و إذ يرتفع منسوب ”الدّسيسة السّياسيّة” [ و الدّسيسة هي ما أُضمرَ من العداوة ! ] في أوقات الصّراعات الاجتماعّية – السّياسيّة في انصراف ”الحكومة” و آليّاتها ، في المؤسّسات و الأفراد الفاعلين ، إلى تحقيق المصالح الخاصّة و الانصراف إلى الاستثمار الّشخصيّ في معرض العمل ، من جهة عدم تفويت فرصة الفوضى الأخلاقّية و الثّأر الاعتباريّ ، و اعتبار أنّ الأمر اهتبالٌ للظّرف و الّلحظة السّياسيّة و الاقتصادّية الضّائعة في الأحوال الطّبيعيّة ..
فإنّ فرص قرار ”الاختيار” السّياسيّ الآمر تتقلّص و تنكمش أمام ضغط ”الأمر الواقع” ، و ذلك إلى أدنى مستوياتها الضّروريّة المتاحة من قبل ”الموضوعيّة” بوصفها ( أي : الفرص ) مجرّد البقيّة الباقية من ”الممكنات” التي تفي بحاجات استمرار السّيولة السّياسيّة في ظروف ”إدارة الأزمة” أو ”الأزمات” ؛ ليصلَ واقع الدّولة في إطار السّلطة و السّيطرة و الحكم ، إلى تنازع بيّنٍ بينَ مفهومين عمليين لواقع ”المؤسّسة” و ”المرفق العامّ” الّلذين تتولّاهما ”الدّولة” في ظروف من التّناقضات ”الموضوعيّة” ( و الحتميّة ) ، و هما تبادل النّزاع الإداريّ حول ما إذا كانت ”الدّولة” قد دخلت في صراع ذاتيّ ، سرّيّ و مُعلن ، مع ”الحكومة” ..
فإذا بنا أمام شهادة حيّة للصّراع بين واقعين سياسيين هما ”حكومة السّياسة” ، و ”سياسة الحكومة” ؛ في تراجع جليّ للأداء العقلانيّ الذي تدخل فيه الدّولة و المجتمع في أدنى حدّ في السّلطة على ”القرار” التّنفيذيّ ..
و هو ما يجعل مفهوم الاختيار السّياسيّ ”الوطنيّ” في أزمة و معضلة ، أمام زخم الحراك المؤسّسيّ العامّ في انتشار مستويات الاشتقاق التّنازليّ للاختيار بمفهومه الحازم و الضّروريّ ، بما ينبغي أن يكون من الحزم السّياسيّ التّاريخيّ لصالح الدّولة و المجتمع ، دفاعاً عن القطاعات المتضرّرة جرّاء هذه الظّاهرة .
4▪ ليس النّظامُ السّياسيّ للدّولة هو أداءُ الحكومة ، و لا كذلكَ شكل الدّولة المقرّر في الدّستور ، فحسب ، و إنّما هو أيضاً السّياسة التي تسيطر على هذه الحكومة مع باقي أدوات الدّولة في العمل .
و عندما تدخل ”الحكومة” بوصفها جهازاً تنفيذيّاً في منافسة مع الدّولة على القرار السّياسيّ ، فإنّ ممارسة ”الحكومة” تستحيلُ إلى مشاركة غير شرعيّة للقرار السّياسيّ العامّ العائد لوظيفة الدّولة وحدها ؛ لأنّ ”الحكومة” ، في هذه ”المنافسة” ، تتحوّل إلى بديل للدّولة ، فنكون أمام سياسة للحكومة بدلاً من الوضع الطّبيعيّ لوظيفة ”الحكومة” ، الذي هو على ”الدّولة” أن تبقيه في إطار ”حكومة السّياسة” بدلاً من ”سياسة الحكومة” .
و بمعنى آخر فإنّ ”النّظام” السّياسيّ العام ؛ الذي هو تحديدٌ و تفعيل و تنظيم لأداء ”الدّولة” في إطار صيغة من الصّيغ التي تتمكّن معها ”الدّولة” – و يجب أن تتمكّن – من جعل ”الحكومة” حكومة للسّياسات العامّة التي على ”االدّولة” ، وحدها ، احتكارها ..
هو الفلسفة العلنيّة لأمن الدّولة الدّاخليّ و الخارجيّ، بما في ذلك الأفكار التي يجب أن تطبّقَ و المتعلّقة بصناعة الأجهزة الحكوميّة و تدبير خطابِ المستقبل الذي يجعل الدّولة بكلّ عناصرها ، في إطار ”النّظام السّياسيّ” ، مندمجةً في “نظام العالم” دون أن تذوبَ فيهِ أو تكون جرماً تابعاً في فلكه.
فالنّظام السّياسيّ للدّولة ، بالاستنتاج ، هو فلسفة الدّولة في الوجود و قابليّاتها الاستراتيجيّة العمليّة على التّقدّم و التّطوّر و الدّيمومة في المكان ، مع حذف جميع مفاعيل خرافات الزّمان .
5▪ تظهر الثّنائيّات السّياسيّة في هذه المنافسة بين ”سياسة الحكومة” و ”حكومة السّياسة” ، في أوقات ”الأزمات” الشّاملة، كشكل من أشكال اعتداء السّياسة على الدّولة و المجتمع في حال ما إذا كنّا أمام ”سياسة الحكومة” ..
و بالعكس فإنّ السّياسة تندرج في مدرجها الأصليّ عندما نكون أمام ”حكومة السّياسة” ..
إذ أنّه ليس للحكومة أن تتفوّق على الدّولة في السّياسة ، لأّنها ، و الحالة هذه ، تختزل ”الدّولةَ” في وظيفة فرعيّة تسخّرها لمصالحها و مبادئها التّحتيّة ، بدلاً من أن تكون (الحكومة) وظيفة من وظائف الدّولة و السّياسة في وقت واحد .
6▪ في رأينا ، لم يعط ( كارل ماركس ) هذه المعضلة حقها ، في معرض نقده للسّياسة ، و ذلك لأّنه – على عادته – كان يعتبر ”السّياسة” وظيفة اشتقاقيّة للدّولة ، وفق تصوّره الخاصّ ل ”الدّولة” ، في إطار أفق تفكيره الخاصّ حول مستقبل ”اضمحلال الدّولة” في طور ”الشّيوعيّة” ..
و هو الأمر الذي دحضه تاريخ تطوّر الدّولة المعاصرة ، بازدياد دور ”الدّولة” ، التّاريخيّ ، و تعقّد مفهومها و تركّزه النّاجم عن تظاهر فينومينولوجيّات الدّولة الإمبريالّية المعاصرة ، و هو ما أغفله ( ماركس ) نتيجة للحتميّة التّاريخيّة المزيّفة التي أدخل فيها ( ماركس ) الصّراعات الطّبقيّة في تخطيطة مستقيمة تاريخيّاً ، الأمر الذي كذّبه تطوّر االبنية العامّة للإمبريالّية و انعكاس هذا ”التّطور” على مفهوم االدّولة ، التّاريخيّ ، في العالم كلّه .
[ انظر : ماركس و نقده للسّياسة – أندريه توزيل ؛ سيزار لوبوريني ؛ و إيتين باليبار – ترجمة جوزيف عبد الله – دار التّنوير للطّباعة و النّشر – الطّبعة الأولى – بيروت ، لبنان – ١٩٨١م – ص(٥) و ما بعد ] .
7▪ تحتّم علينا ظاهرة الحرب الكونية السّوريّة ، ضرباً من نقد السّياسة أكثر التصاقاً بالواقع المباشر الذي عمل و يعمل حتّى استبعاد ”االدّولة” من ممارسات سياسات الحكومة ”المبرمجة” على إيقاعات الشّأن الشّخصيّ للفاعلين ، و الذي فضّلنا تسميته بالدّسيسة ، على اعتبار أنّنا نعيش ، اليومَ ، في ظلال آثار الحرب من حيث هي آثار مشبوهة في أعمال ”الحكومة” التي تسعى ، بإطلاق ، إلى ممارسة دور سياسيّ من خارج الرّصيد السّياسيّ للدّولة ، سواءٌ في ”النّظريّة” أو في ”المفهوم” أو في ”الممارسة ” ( Praxis ) ، أو في ”العمل” ( Work ) – (Job) ، أو ( Labor ) كعمل خالق لمختلف القيم و تعدّدها في إطار الشّغل الخالق للمغزى .
8▪ عندما نلاحظ انفضاض “الاجتماعيّ” عن “السّياسيّ” فإنّنا ، على عكس الشّائع ، لسنا أمام انحراف اجتماعيّ أو عزوف عن المشاركة العامّة ، و إنّما نحن نَغرق ، أكثرَ فأكثرَ ، في “التّسييس” ، على اعتبار أنّ “التّسييس” يغزو “الواقع” الاجتماعيّ من باب انحراف“الحكومة” في الخوض و التّقرير في “السّياسة” بدلاً من أنْ تكون “الحكومة” خادمة للسّياسة ، و بالتّالي خادمة للمجتمع ..
و هو ما يوفّر على “المجتمع” أو على “الاجتماعيّ“ هواية “التّسيّس” ، ليتفرّغ للشّؤون “المدنيّة” المعاصرة التي تتجاوز اختصاصات “السّاسة” – أو تقلّ عنها – ، إلى الاهتمام بالواقع الاجتماعيّ الذي ينقصه الكثير من “الإنجاز” ، و على رأس هذا “الإنجاز” التّحوّل إلى تنفيذ برامج الخدمات العامّة في “المجتمع المدنيّ” ، الذي يجعل علاج القهر الاجتماعيّ نفسه ، و الحدّ من المضاربات الفكريّة و المنافسات ”المتحضّرة” أو ”المجانيّة” ، هدفاً أو أهدافاً اجتماعيّة بذاتها تنبني على حالة سياسيّة طبيعيّة و مقنعة ، خارج إطار الشّكّ و التّهمة ، على الدّوام ، الموجّهة إلى أعمال الحكومة التي تجاوزت اختصاصاتها نحو لعب دور “السّياسيّ” كعامل من العوامل التي يجري عليها الاحتكار .
إنّ مفهوم ”الاختيار” الذي تستبعده ممارسة الحكومة للسّياسة ، عوضاً عن أن تكون”الحكومة” هي ”حكومة السّياسة” ، و ليس العكس ، هو الذي يجعل ”المجتمع” ، ”الاجتماعيّ” ، يحتل دوره الطّبيعيّ في ”السّياسة” على أنّها حالة اجتماعيّة كافية في إطار المجتمع المتحضّر ، الذي ينصرف فيه الجميع كلٌّ إلى شأنه في البنية و المنظومة و الدّور .
و في سياق عكس ذلك ، أي عندما تقوم ”الحكومة” باحتكار السّياسة لتكوين ”سياسة الحكومة” أو ”سياسة حكوميّة” ، فإنّ الثّقة الاجتماعّية بالدّور الوظيفيّ الحكوميّ تتخلخل و تهتزّ ، و ربّما ، أو غالباً ، تتبدّد ، و هو الأمر الذي يجعل انصراف ”الجميع” إلى ممارسة السّياسة كنوع من العدوى أو على سبيل الرّقابة و التّرقّب و النّقد و الانتقاد .. إلخ ..
بحيث يُفضي الواقع إلى مجتمع ”ثقافويّ” و ”فوقيّ” و فارغ و مجوّف من أبعاده و مقوّماته في الدّلالات ، و مُعَلَّقاً في فراغ ..
9▪ في واقع ”سياسة الحكومة” ، تنفصل ”الحكومة” عن ”الدّولة” لتختطَّ لها دولة ضمن دولة ، و ذلك بظهور ”دولة الحكومة” في أيّ مظهر آخر ، تمارس ”السّياسة” باستخفاف تناقضيّ للدّولة و الأفراد ، لتجعل الكائنات الوظيفّية الطّبيعيّة في ”الدّولة” كائناتٍ خارج مجالاتها العملّية ، في مختلف أشكال العمل و أنواعه التي بيّنّاها أعلاه ..
و هذا ما يؤدّي بالخروج العامّ من المجالات الطّبيعيّة في الوظيفة و الدّور ، نحو اهتمامات مصطنعة و مفتعلة ، خلقتها ”الحكومة” نفسها في معرض اشتغالها بالسّياسة ، و ليس بأداء دورها في التّنفيذ و الخدمات العامّة ، لنغدو جميعاً أمام حالة شاذّة للمجتمع من حيث عناياته بالطّفح التّاريخيّ الذي أثارته ”الحكومة” ، في تحقيرها للواقع و في عدم احترام الحاجات الضّروريّة للمواطنين و السّاكنين ، و بضربها بالهموم الاجتماعيّة الطّبيعيّة التي جعلت منها الأزمة – الحرب هموماً استثنائيّة ينبغي أن تكون الشّغل الشّاغل و الوحيد لحكومة السّياسة هذه السّياسة التي حدّدها قرار الدّولة الرّئيسي ، و التي تكرّرت على مسامع المجتمع و الحكومة مرّات لا ُتحصى و من دون حدود .
10▪ يقول ( إيتين باليبار ) – [ المصدر المذكور ، أعلاه – ص(٦) ] – :
“ ليست المفاهيم قطعَ آلةِ نظريّةٍ آليّة و لا أدوات إرادة أو انعكاسات ثقافة . إّنها متطلّبات موضوعيّة في المعرفة ، حتّى في تناقضاتها . و لذلك فإنّ بروز معرفة جديدة ، يمرّ بالضّرورة ، إن هي لم تتحوّل بداهة إلى مفاهيم ، ”بتحوّل” جليّ إلى تاريخ حقيقيّ للمفاهيم ، و هو تاريخ يُحلِّلُ بالدّقّة الممكنة مجمل الظّروف الواقعيّة لصياغتها و البنية الدّاخليّة ( الفلسفيّة و العلميّة ) التي اقتضتها ” ..
و من المفهوم أنّ الحديث يدور مع ( باليبار ) ، هنا ، حصراً ، على ”السّياسة” . و لكن كيف ينصرف هذا ”الكلام” في سياق حديثنا ، نحن ، على ”سياسة الحكومة” ، أو على ”حكومة السّياسة” ، على الضّبط ؟
11▪ بالعودة إلى (ماركس) ، فإنّنا نرى أنّ أفق ”النّقد السّياسيّ” ، أفق ”نقد السّياسة” ، قد أخذ فيما بعد ”كومونة باريس” ( 1871 ) [ المصنّفة كأوّل ثورة اشتراكيّة – فاشلة – في التّاريخ الحديث ] ، شكلاً مستقلّاً عن نقد السّياسة ، سواءٌ في ”المادّيّة التّاريخيّة” أو في ”نقد الاقتصاد السّياسيّ” ؛ من حيث ظهور نضوج الفكر السّياسيّ المستقلّ ، في النّقد الماركسيّ ، عن الظّواهر الأخرى ، الاجتماعّية و الاقتصادّية ..
و هو ما يوحي بانفراد طبيعة ”السّياسيّ” و تطوّره كحرفة احترافيّة ، حتّى في مذهب ( ماركس ) الاقتصاديّ – الاجتماعيّ – التّاريخيّ ..
و هذا الأمر هو مّما يدفع بنا و يُلزمنا بالخروج ”المحلّيّ” إلى الفضاء التّاريخيّ العالميّ ، لإدراك خطورة ”السّياسة” حتّى و إنْ بدت لنا أنّها تُمارس من قبل ، أو تصدر عن ، ”هُواة” ، و ذلك بسبب طبيعتها المعقّدة و الطّاغية و التي تشتغل بآليّات غالباً ما تُبدي استقلالاً نوعيّاً و خاصّاً يجعل منها ، حتّى في تداخلاتها الأخرى ، أكثر إشكالّية ممّا قد لا تبدو عليه في واقع الأمر .
12▪ في ( سورية ) ، تجاوزْنَا ، مع هذه الحرب ، في الواقع ، الكثير و الكثير من ”الوصفات” السّياسيّة التي توجّهت إلى ”الحكومات” المتوالية ، من دون أيّ طائل ، استطاع أو تمكّن من مطاولة ”الأزمة” الشّاملة التي لم يعد من الممكن إخفاؤها أو التّحايل عليها ، بواسطة أيّ تبرير أو تسويغ يمكن أن ينقذنا من مغبّة التّدمير التّناقضيّ للبنية الاجتماعّية و الاقتصادّية و السّياسيّة و الطّبقيّة للدّولة ، كمنظومة بنيانٍ أصبح مهدّداً ، و باطّراد ، بالمزيد من تفوّق ”الوظيفة العامّة” عبر التّغوّل السّياسيّ للحكومة ، على ”المجتمع” بوصفه جزءاً من ”الدّولة”، ناهيك عن تغوّل ”الحكومة” نفسها ، تغوّلاً سياسيّاً ، في وجه ”الدّولة” ، كقرار ، أو خطاب مُستعاد ، بالذّات .
و في رأينا ، فإنّ الأمر يعود ، بالأسباب ، إلى عمق الأزمة التي ”استطاعت” أن تبتكر لها “سياسة” مستقلّة ، بمفاهيم سياسيّة شكّلت ، و تشكّل ، تاريخاً جديداً و متمايزاً للمفاهيم ، خارج إطار المفهوم السّياسيّ نفسه الذي يجب أن يحدّ من ”سياسات” الحكومات المتعاقبة في انفصالها الشّرخيّ عن ”المجتمع” و ”الأفراد” ، باستهتاراتها المقصودة أو غير المقصودة ( و أعني بعجزها و بغياب قدرتها و إرادتها ) بالواقع ”السّياسيّ” نفسه ، عندما نؤمن بأنّ ”السّياسيّ” ، من حيث الواجب و المآل ، ينبغي أن يكون من مهامّ صناعات ”الدّولة” .
13▪ و المفارقة التي نحلّلها ، هنا ، لا تقف عند حدود استيلاء الحكومة ، الحكومات ، و الوظيفة العامّة ، على اختصاصات سياسة ”الدّولة” ، و حسب ، و إنّما تتجاوزها – ذاتيّاً و موضوعيّاً – إلى حالة من حالات تقزيم السّياسة نفسها ، عندما تكون السّياسة قد شكّلت منتظراً متكرّراً لحلول موعودة تحوّلت إلى أحلام اجتماعّية و فرديّة متبدّدة ، مع تعاقب استهتار المرفق العامّ بالقرار السّياسيّ .
و في الوقت الذي تتفاقم فيه هذه الظّاهرة أكثر ممّا قد وصلت إليه – و هذا هو الاحتمال المتمادي – فإنّ العودة عن السّؤال التّشكيكيّ و التّشكّكيّ الذي تطرحه ”التّطوّرات” ، تصبح خوضاً في المعالجات التّقليديّة التي أثبتت ”الأزمة” امتناع إمكانّية حصرها في دائرة الإمكانيّات ، لا سيّما أنّ لبعض المظاهر و الوقائع خاصّيّات تنبو حتّى عن الظّاهرة التي تعبّر عنها أو تشكّلها ، و ذلك وفق قوانين ذاتيّة رهيفة و حادّة و ماضية للجزئيّات ، لا يوقفها العلاج إن لم يسبقه اعتبار الوقاية كجزء مستقبليّ أو حاضر و مضارع من أدواته و وسائله المقبولة و الممكنة ، في عموم التّحوّلات المرغوبة سياسيّاً و المعروضة في الثّوابت و المتغيّرات .
إنّ الفضاء السّلبيّ الذي تصنعه ”الوظيفة” الذّاتيّة ، و الدّور المرحليّ و التّاريخيّ للأزمة ، يمكن أن يكون ، و يجب أن يكون ، محلّاً واقعيّاً ، اليوم ، قبل أن يستحيل إلى محلّ مستحيل من أعمال السّياسة البحتة أو الواقعيّة .
فثمّة من الحدود العمليّة التي يتمّ تجاوزها نهائيّاً ما لن يكونَ من مكوّنات المستقبل ، هذا إن لم يصبح ، هو ، نفسه ، طارداً لحاضره في مستقبل مستقلّ و نهائيّ و ثابت و جديد .
ليس ثمّة عودة بعكس الجاذبيّة ، عندما تكون هذه الجاذبيّة قد أصبحت مخاضاً عميقاً للتّهتّك و التّحلّل و التّداعي التّاريخيّ ، لمقوّمات الضّرورات المستقبليّة غير الدّاخلة ، اليومَ ، في قائمة الحاجة التي ستبزغُ على التّوالي ، مع نفاد احتياطيّ الثّقة و القوّة و الأدوات و الهيمنة الاحتماليّة .. على ”الانحرافات” الحاّدة .
14▪ من جهة الشّكّيّة السّياسيّة التّلقائيّة و العفويّة ، فإنّ ”الدّسيسة” السّياسيّة هي أقصى مراحل الصّراع المحدِّد للسّياسات ”النّوعيّة” ، التي ترافق ظروف الصّراعات ذات الجذر الاجتماعيّ و الأيديولوجيّ في الفضاء السّلبيّ للانتقائّية السّياسيّة ، التي تُمارَسُ في ظلّ ظروف ”العُدوان” المتبادل الخادم للسّيطرة ، الذي تولّده بيئة التّناقضات القصوى للاختيار ”السّياسيّ” الذي تجاوز طبيعته اليوميّة في الظّروف العاديّة ، و تحوّل إلى صراع إرادات لا تستكين ..
و لكنّ ما يجعله صراعاً مبطّناً – و هو كذلك ، بطبيعته – هو واقع ”المصالح” الخفيّة التي تُضمرها ”الأطراف” تجاه بعضها ، صوناً للأهداف و الغايات السّياسيّة التي ينفرد بها كلّ من الأطراف ، لتحصيل النّتائج النّهائيّة لها في خطاب الدّلالة السّياسيّ الذي يضع في أفقه ، دوماً ، تحقيق المغزى النّهائيّ للتّفوّق المفروض بقّوة السّياسة ، التي تواشجت بواسطة الجسور الدّاخليّة للفكرة العامّة للدّولة ..
و لو بدا الأمر على أّنه تقاهرٌ علنيّ لتمثيل القوى المصطفّة في أقصى الاستقطابات المتبادلة و المتناحرة ، بحكم الأفكار التي تقوم عليها شراسة المصالح الحاّدة التي تُحدّد نسبة كلّ من القوى من نصيبها من العنف المبطّن ، الذي سيتحوّل في ظروف أخرى ، ”مؤاتيّة” .. إلى إعلان ”العنف” كبديل للقّوة في مجرى أسطورة السّياسة في الاجتماع ، الذي زيّفته الأفكار العابرة للعقلانّية ، تقهقراً تاريخيّاً ، نحو غرائزيّة معقوليّتها الخاصّة .
و هكذا يواجهنا سؤالٌ عن كيفيّات تخطّي جميع المخاطر المحتملة مع نتائج المخاطر الحالّة ، و هذا في الظّروف التي تستعصي على العمليّانيّة السّياسيّة من إخماد صورة هذا الحريق !؟
15▪ لقد قمنا ، حتّى الآن ، برسم ما نعتبره من ضرورات النّموذج الواقعيّ و غير الافتراضيّ لآليّات اعتقادنا بالأصالة السّياسيّة للدّولة – و ضمناً ، الحكومة ، طبعاً – مهملين ”خصوبة” الاجتماعيّ ، عن عمد ، و ذلك لاعتقادنا بخصوبة ”السّياسيّ” في التّاريخ ، و الذي لا يفتأ يخوض التّجربة الوجوديّة وراء الأخرى ، كمتلازمة وجودّية صِرفة لتناقضات الأفكار ، الحادّة ، التي لا تسوّيها العلاقات الاجتماعّية بالبراءة التي يفترضها النّموذج الأخلاقيّ الوهميّ للتّفكير .
و من دون أيّة تسميات أخرى ، فإنّ ”إدارة” النّوعيّ من ”السّياسة” – و أعني به ما يمسّ و يمثّل المصالح التّاريخيّة للقوى التي لم تُخلق للانسجام ! – لا يمكن أن تتحقّق بواسطة ”السّياسات” غير النّوعيّة – أي غير المناسبة للتّعبير عن خصوبة الخيارات – الرّامية إلى تحقيق أهدافها بالفعل .
إنّ الدّولة المسمّاة ”تمثيليّة” معاصِرة – و هي كانت تاريخيّاً ، دوماً ، كذلك – لا تستطيع أن تعّبر عن ”رِضَى” التّطوّرات العالميّة السّريعة و المتسارعة ، و ذلك لأّنها لا يمكن لها أن تمثّل ، بالفعل ، غير مصالح الطّبقة السّياسيّة المعاصرة التي يزداد تمثيلها لذاتها ، وحسب ..
و هو ما لا يضمن دخول ”نظام الدّولة” ، نفسه ، في حقل التّهديد السّياسيّ ”النّوعيّ” ( الحكوميّ ) في ظروف دولة سياسيّة غير نوعيّة ( إداريّة ) ، و هو الخطر الماثل ، بكلّ تأكيد ، بحلول ”الإدارة” محلّ ”السّياسة” ..
و هذا ما يعني اختلاق عدوّ سياسيّ جديد للدّولة ، أسهمت الدّولة في وجوده ، إن لم تكن هي المسؤولة عن وجوده ، و هو المتمثّل بإدارة ناعمة ( نوعيّة ، أيضاً و متخصّصة ) تنثني على كلّ شراسة النّوعيّ السّياسيّ الذي يستبعد ”الدّولة” ، تدريجيّاً من حقول الفعل و إحالتها إلى فضاءات غريبة عنها ، و قد غيّر من جلده ، فحسب .
16▪ في معطيات التّحوّلات التّاريخيّة الجذريّة ، كما يحصل ، اليومَ ، في ( سورية ) ، ينقسم ”الصّراع” إلى شكلين ، صريح .. و متنكّر ، و لكنّه يسعى إلى تحقيق هدف واحد ، مشترك ، هو إحداث الفارق السّياسيّ في عهد تاريخ الدّولة أو في أحد عهودها ، بالأحرى ، لإعادة الواقع ، من ناصيته ، إلى عهد أو عهود أخرى من رخاء تزمّن الواقع ، بلجمه من جديد لإبقائه تحت السّيطرة التّاريخيّة ، بواسطة كلّ ما تملكه عناصر و قوى الصّراع التي استشعرت الخطر الجديد النّاجم عن الهزّات الفكريّة و الزّلازل السّياسيّة المرافقة لحركة العالَم .
17▪ من جديد ، تفرض علينا هذه المعطيات و غيرها أيضاً ، حالة واقعيّة بالتّقريب التّشخيصيّ الطّبيعيّ و الحقيقيّ ، من شكلٍ مُخِلٍّ بالتّجربة المتاحة و التي يمكن لها ، عند حسن حصرها و تبويبها و تفريغها في أدوات .. أن تشكّل في تاريخ ( سورية ) ، و لأوّل مرّة منذ قرون مديدة .. مصنعاً لخبرة و ثقافة جديدتين قادرتين على التّمهيد العمليّ و المباشر من أجل انعطافة ”اجتماعيّة” فوقيّة بصيغة سياسيّة عالميّة تضمن للبلد تجاوز ”اجتراراته” الحضاريّة نحو عالم جديد ..
و إنّها فرصة حقيقيّة نحو النّموّ الاجتماعيّ و الاقتصاديّ و السّياسيّ و المحلّيّ و العالميّ في وقت واحد ، و بالتّأكيد .
و الشّرط الأبرز من بين جملة من الشّروط دون هذا ”النّمو” ، هو خلق المناسبات المختلفة الكفيلة بعدم السّماح بالارتداد إلى الخلف في هذه الآونة التي لا يزال يحكمها التّردّد و التّكرار .
18▪ من الطّبيعيّ ، أخيراً ، أن نؤكّد أنّه لا يوجد هنالك فكرة خّطيّة مستقيمة واحدة و لا مجموعة من الأفكار الأخرى الشّبيهة .. الكفيلة بقسمة ”السّياسيّ” بين الأطراف و بخاّصة منها ”الدّولة” و ”المجتمع” و ”الأفراد” و ”القوى” و ”المصالح” .. و ”الحكومات” ، إلخ ؛ غير أنّ ”الأفكار” كفيلة بخلق هذه ”القسمة” ، و بخاّصة عندما تكون مثل هذه الأفكار قادمة بحزم من عالم آخر لا بدّ أن ينفصل عن ، و يتمفصل مع ، الواقع ..
و عندها ، فقط ، نكون أمام تجربة الدّولة السّياسيّة التي تحتكر السّياسة ، فيما تترك فتات الأوهام للدّسيسة التّاريخيّة التي ما برحت تعاود تُطلّ بجسدها كلّه ، بقوّةٍ ، جاهلةً أنّها توجّه سهامَ ثأرها إلى جماهيرها و مناصريها و مستقبلهم ، قبل غيرهم ، و الجاهلين هم ، أيضاً ، بذلك ، بالذّات .
19▪ من الغنيّ عن البيان أن نقولَ إنّ ”قصّة السّياسة” كلّها تكمن في ”سيطرة الدّولة” ، و ليس في ما يظنّه ؛ الكثيرون من الغريبين على ”السّياسة” ؛ من أنّ تلك ”القصّة” هي أشكال الاستيلاء على ”السّلطات” ، و حسب ؛ هذا إن كان فعل الاستيلاء على ”السّلطات” ، بالأصل ، فعلاً سياسيّاً نوعيّاً ، و هو الأمر المشكوك في استقراره حتّى اليوم .
20▪ و هنا يجب التّفريق بين ”الاستيلاء” على ”السّلطات” ( كما يسمّونها ، و هي غير ذلك ؛ كأن نسمّيها ، نحن ، المؤسّسات و الاستراتيجيّات ، و هذا من باب أَولَى و أدقّ ) ، و بين ”الاستحواذ” على الدّولة ..
هذا مع أنّ الاستحواذ على ”الدّولة” هو فعل سياسيّ طبيعيّ و غير نوعيّ في مجريات صراعات العالم ، و لا يُضاهي ، أبداً ، فعل السّياسة النّوعيّ الذي قلناه متمثّلاً في ”قصّة” السّياسة في التّاريخ ، في ”سيطرة الدّولة” ، و ليس غيرها ، و على الحصر ؛ و هو ما سوف يكون لنا فيه حديثٌ آخر في التّالي من المقبل من الكلام .
التعليقات مغلقة.