دولة المواطنة… أي الدولة المدنية / د. عدنان عويّد




Image result for ‫عدنان عويد‬‎

د. عدنان عويّد 8 ( سورية ) الخميس 17/1/2019 م …

     إذا كانت المواطنة لغة, مشتقة من الوطن, الذي اشتق بدوره من الفعل وَطِنَ أي أقام أو استقر, ويأتي منها, استوطن ومستوطن وغير ذلك.

     فإن المواطنة مجازاً, هي الانتماء في صيغته القانونية, أو الجنسية لوطن محدد, كان نقول سوري أو مصري, أو فرنسي, أو أمريكي, وله صيغته أو دلالته السياسية أيضاً كأن نقول عربي أو أوربي أو أفريقي, وله دلالته العقيدية كقولنا مسلم أو مسيحي, سني أو شيعي, كاثوليكي أو بروتستانتي… وغير ذلك.

     إن ما يهمنا في المواطنة هنا هو دلالاتها السياسية, (أي المواطنة في مشروع الدولة), وهي موضوع بحثنا هنا, ليست كحالة عرضية أو مؤقته في حياة الفرد أو المجتمع, بل كحالة تاريخية, لها سيرورتها وصيروتها التاريخيتين, حيث تتشكل عبر مراحل طويلة من حياة الفرد والمجتمع, بدءاً من لأسرة مروراً بالقبيلة فالعشيرة فالمجتمع وصولاً إلى الدولة, وهي الشكل الأرقى, أو الحالة الأكثر تطوراً من حالات الانتماء السابقة.

     إن المواطنة عندما تصل إلى مرحلة الدولة, وأقصد هنا الدولة في وضعيتها أو صيغتها التاريخية العقلانية, أي الدولة التي تجاوزت فكراً وممارسة كل الانتماءات التقليدية السابقة, لتمثل فعلاً الدولة المدنية, أو دولة القانون وليست دولة الغنيمة. .. هي الدولة التي تجاوزت بناها التقليدية القائمة على الاقتصاد العيني أو الريعي وتحول نمط اقتصادها إلى الاقتصاد المحقق للإنتاج التنموي وللعمالة والربح الذي يدعم ميزان مدفوعات الدولة بقيمة إضافية… أي هي الدولة التي تجاوزت في بنيتها الاجتماعية بنىة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والحزب الواحد الشمولي… هي الدولة التي استطاعت في بنيتها السياسية أن تجعل من الشعب وحده مصدر السلطات, وتتجاوز أي سلطة تحد من سلطة الشعب … وهي الدولة التي استطاعت في بنيتها الثقافية أن تتجاوز ثقافة الخضوع والذل والاستسلام والوصاية, ولكل ما يحد من القيم الإنسانية التي غيبتها عقلية القرون الوسطى, أي بتعبير آخر في هذا الاتجاه, تجاوزت ثقافة التمسك بالنقل على حساب العقل, وتجاوزت ثقافة الأساطير والكرامات والخرافة وكره الحياه واحتقار الجسد وتحميله مسؤولية الرذيلة, وبالتالي إذلاله وتحطيمه تحت ذريعة تنقيته من دنس الحياة … ثقافة الدعاء والاستسلام والامتثال للمطلق, وتوسد الكتب الصفراء التي تحمل بين طياتها الكره والضغينة للآخر المختلف… الثقافة الداعية إلى الهروب من الأرض إلى السماء… ثقافة القتل والصلب والحرق وقطع الرؤوس .. ثقافة المسواك والتمسك بقشور الدين المتمثلة بلباس الكلابية القصيرة وحف الشارب وإطلاق الدقون ونبش القبور والتدخل في تفاصيل الحياة اليومية كالدخول أو الخروج من المرحاض.

     إن دولة المواطنة الحقيقة هي فعلاً تلك الدولة التي تجاوزت كل تلك البنى التقليدية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. أي ليست هي تلك الدولة التي أصبح لها علم ومؤسسات ونقد وأعترف بها المجتمع الدولي فحسب, في الوقت الذي لم تزل بناها وآلية عملها قائمة على العشيرة والقبيلة والطائفة ومفرداتها التي جئنا عليها أعلاه… وهي ليست دولة الحزب الواحد الذي يمارس وصايته على الجماهير واعتبارها قاصرة لا بد لها من نخبة تقودها وتخطط لها كيف تعيش في حاضرها وترسم لها مستقبلها, وأنها وحدها من يحدد لهذه الجماهير حقوقها وواجبتها, كما هو حال الكثير من دولنا العربية. وإنما هي في حقيقة أمرها دولة المجتمع المدني, أي الدولة التي حاز فيها الفرد على حقوقه الطبيعية, (حق الحياة والعيش الكريم, وحق الملكية, وحق الرأي), وعلى حرية إرادته … وهي الدولة التي حاز فيه الشعب على حقه باختيار مؤسساته التشريعية التي تشرع لعدالته ومساواته, وحق المشاركة في قيادة الدولة والمجتمع, بعيداً عن أي استئثار لأحد بالسلطة وفرض نفسه وصياً على الشعب واعتباره قاصراً… وهي الدولة التي فُصلت فيها السلطات عن بعضها وراحت كل منها تعمل وفق الدستور الذي أقره الشعب بإرادته, بما يخدم تطور المجتمع وأمنه واستقراره وعدالته … هي الدولة التي تسودها التعددية الحزبية وحرية الصحافة والإعلام واحترام الراي والرأي الآخر…. وهي الدولة التي تسود فيها الكفاءة والقدرة وتكافئ الفرص في قيادة الدولة والمجتمع, وليس الثقة والولاء والمحسوبيات لهذه العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو الحزب أو الحاكم, هي الدولة التي يحاسب فيها الفاسد أخلاقياً وإدارياً أمام القانون, ويسأل من راكم الثروات على حساب أموال الشعب من أين لك هذا؟. هي الدولة التي يؤمن فيها المواطن بأن عليه واجبات اتجاه الدولة مثلما له حقوق أيضاً وعليه أن يؤدي واجباته بمحض إرادته ويدافع عن حقوقه.

     إن دولة المواطنة هذه لم يزل وطننا العربي يفتقد إليها, أو هي لم تحوز بعد على كل شروطها.

     لا شك أن السلطات الحاكمة في عالمنا العربي قد بذلت الكثير من أجل تثبيت أركان دولها (الماقبل) الدولة, وهي دول في حقيقتها هشة وضعيفة وقابلة للانكسار عند تعرضها لأزمات حادة, بيد أن هذه القوى الحاكمة قادرة على تقوية هذه الدول وتنميتها وتحويلها إلى دول مجتمع مدني, أو دول مواطنة وقانون إذا ما تخلت عن أنانيتها وحب استئثارها في السلطة, وهذا يتطلب تحولاً تاريخياً في بنية الدولة ذاتها, فالأماني وحدها لا تحرك أصغر نبتة في الأرض إذا لم ترتبط بالوعي والمسؤولية والممارسة, وهذه مسؤولية الجميع.

* كاتب وباحث من سورية

[email protected]

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.