“مفهوم التسامح” / الأب سامر حداد
الأب سامر حداد ( الأردن ) الأربعاء 23/1/2019 م م …
سجَّل مفهوم التسامح Tolérance حضوره في عمق التجربة الإنسانية، ويتبدى في صيغٍ تتنوع بتنوع المجتمعات الإنسانية في إطار الزمان والمكان والمراحل التاريخية.
جاء في قاموس “اللاروس” الفرنسي أن التسامح Tolérance يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية الدينية. وجاء في قاموس العلوم الاجتماعية أن مفهوم “Tolérance” يعني قبول آراء الآخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم من أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي.
ومن يستعرض تطورات هذا المفهوم في التاريخ الإنساني يجد بأنه أخذ أشكالاً وصيغاً مختلفة ومتنوعة من حيث البساطة والتعقيد والامتداد والحضور. وسجلت هذه الأشكال والصيغ حضورها بوحي التنوع الحضاري والثقافي للمجتمعات الإنسانية.
ولدت كلمة التسامح Tolérance في القرن السادس عشر، إبان الحروب والصراعات الدينية، التي عرفتها أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت حيث انتهى الكاثوليك إلى التسامح مع البروتستانت، وبشكل متبادل. ثم أصبح التسامح يمارس إزاء كل المعتقدات والديانات الأخرى. وفي القرن التاسع عشر انتشر هذا المفهوم ليشمل مجال الفكر وحرية التعبير وليضمن جوانب اجتماعية وثقافية بالغة الغنى والتنوع. وغني عن البيان أن الحروب والصراعات الدينية الطويلة التي عاشتها أوروبا في ألمانيا وهولندا وإنكلترا واسبانية وفرنسا كانت في أصل هذا التحول الذي شهده مفهوم التسامح.
وتتضح الحقيقة التاريخية لتطور مفهوم التسامح في كتاب جون لوك سنة 1689 الذي عنون بـ “رسالة في التسامح Lettre sur tkolérance حيث يعلن في طيّات هذه الرسالة: “أن التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكري الإصلاح الديني في هذه المرحلة التاريخية، إلا الدعوة والمناداة بالتسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف والاعتقاد.
ومن الواضح أن مفهوم التسامح استطاع تجاوز حدود الدين واقترن بحرية التفكير وبدأ ينطوي تدريجياً على منظومة من المضامين الاجتماعية والثقافية الجديدة التي أوحت بها العصور المتلاحقة بما تضمنت عليه هذه المراحل من صور جديدة لتصورات اجتماعية متجددة أسفر العصر الحديث بتطوراته المختلفة عن وجودها.
وغني عن البيان أن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 تشرين الثاني 1995 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي. حيث ورد في البند الأول من هذه الوثيقة إعلان المبادئ حول التسامح Declaration de principes sur la Tolérance الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:
أولاً: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.
ثانياً: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني، والحريات الأساسية للآخر.
ثالثاً: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.
رابعاً: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
كما أنها ربطت بين مفهوم التسامح والسلام على أساس أن هذا الأخير لن يرسخ كثقافة إلا بوجود الأول. فالتسامح على حد تعبير فدريكو مايور F.Mayor شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو بمثابة “التوابل” اللازمة لكل ثقافة للسلام.
ويعد التسامح من جهة أخرى إخضاع المرء قناعاته الخاصة لضرورات الحياة المشتركة مع أناس يتأكد من أنهم على خطأ أساسي. إن التسامح بالمعنى النبيل لا يستند إلى أساس التساهل ولا الشهامة والضعف ولا الحساب النفعي أو الذرائعي، إنه الاعتراف بتعددية المواقف الفلسفية الإنسانية، بتنوع الآراء، والقناعات والأفعال والأخلاق الناجمة عنها وبضرورة التوفيق بين تبايناتها الحاسمة وتنافراتها ضمن نظام مدني سياسي.
الأب سامر حداد / كاهن في بطريركية القدس للاتين
من بحث نشر لي عام 2013
التعليقات مغلقة.