لم يُفصِح السيد خليل الحية، عُضو المكتب السياسيّ ونائب رئيس حركة “حماس” في قِطاع غزّة، عن الأسباب الحقيقيّة التي دفَعته وحركته إلى رفض استِقبال الدفعة الثالثة من المنحة القطريّة للقِطاع (15 مليون دولار)، واكتَفى بالقول أنّ هذا الرفض جاءَ ردًّا على الابتِزاز السياسيّ الإسرائيليّ والتَّملُّص مِن تفاهُمات التهدئة التي تم التَّوصُّل إليها برعاية مِصر والأُمم المتحدة، ولكِن من الواضح أنّ بنيامين نِتنياهو يُريد تنازلات أكبر من الأُولى التي قدّمتها الحركة وأدّت إلى وصول الدُّفعتين الأُولى والثّانية (أكتوبر ونوفمبر)، وهُناك مَن يَهمِس بأنّ المَطلوب الآن إيقاف مسيرات العودة بشَكلٍ نهائيٍّ، على أساس مُعادلة “الهُدوء مُقابل الدولار” الإسرائيليّة.
نِتنياهو يستخدم ورقة المنحة القطريّة لابتِزاز حركة “حماس” سياسيًّا وأمنيًّا، سياسيًّا كورقة في حملته الانتخابيّة وللرَّد على مُنافسيه الرئيسيّين المُتشدّدين: إفيغدور ليبرمان (إسرائيل بيتنا)، ونفتالي بينيت (اليمين الجديد)، وأمنيًّا لفرض الهُدوء بشُروطٍ إسرائيليّة وتركيع الحركة.
المِنحَة القطريّة التي يَبلُغ حجمها 150 مليون دولار وتقرّرت في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2018 باتت تُشكِّل صُداعًا لحركة “حماس” وتُؤلِب عليها جميع الأطراف تقريبًا، ابتِداءً من السلطة في رام الله التي استخدمتها كذريعة لتشويهها، واتّهامها بالتعاون مع الاحتِلال ونِتنياهو، ومُرورًا بحركة “الجهاد الإسلامي” التي رفضتها بشِدّة، وانتهاءً بالحركات اليساريّة مثل الجبهة الشعبيّة، التي عارضت مُقايَضة المُقاومة والمَسيرات بهذه المنحة التي لم تستفد منها إلا حركة “حماس″، ناهِيك عن فصائل المُقاومة الإسلاميّة المُتشدِّدة التي تتّخذ مواقف صلبة ضِد دولة الاحتِلال وقطر معًا، وتنتقد التهدئة مِن أساسها.
السلطة الفلسطينيّة تُمارس الأُسلوب نفسه الذي تُمارسه دولة الاحتلال في الضَّغط على حركة حماس اقتصاديًّا ومعيشيًّا للرضوخ لشُروطها ومطالبها في إعادة القِطاع إلى مِظلَّة التنسيق الأمنيّ، ولهذا سحبت رِجالها من معبر رفح ممّا أدّى إلى توفير الذرائع لإعادة إغلاقه، وحلَّت المجلس التشريعيّ الذي يتمتّع فيه نوّاب حماس بالأغلبيّة، وأوقفت تقديم أيّ أموال للقِطاع بِما في ذلك دفع فاتورة وقود محطّة الكهرباء على أمل أن يثور أبناء القِطاع ضِد حُكم الحركة، وهو ما لم يَحدُث، ويعتقد الكثيرون أنّه لن يَحدُث في المُستقبل المَنظور.
حركة “حماس” أصابت عندما رفضت الرضوخ للشروط الإسرائيليّة التي سمَّمَت هذه المنحة القطريّة، وجعلتها ممزوجةً بالهوان، لأنّ التَّنازلات السابقة، وخاصَّةً وقف إطلاق الطائرات الورقيّة والبالونات الحارِقة تجاوبًا مع هذه الشروط وضعت الحركة في موقف المُتهاون أمام حُلفائها في الفصائل الأُخرى الذين قدّموا الشهداء أيضًا في هذه المسيرات، واتّهموها بالتَّفرُّد بالقرار، ودون التشاور معهم لحَل مشاكل رواتب مُوظّفيها، والقُبول بهذه المنحة القطريّة عبر بوابة التنسيق الإسرائيليّة، وذهب البعض مِن مُنتقديها إلى التساؤل: ما هو الفرق بين التنسيق الماليّ والتنسيق الأمنيّ مع الإسرائيليّين؟
نُدرِك جيّدًا أنّ أوضاع قِطاع غزّة في ذروة الصَّعوبة بسبب الحِصار الخانِق، ووقف وصول أيّ دعم ماليّ من العرب، أو السلطة التي تتحكّم بالمُساعدات التي تأتي لكُل الفِلسطينيين، وليس لها وأنصارها فقط، ولكن الحِصار ليس جديدًا، والمُقاومة نجحت في كَسرِه، وإجبار الإسرائيليّين على الرُّضوخ وتقديم التَّنازُلات.
بعد احتِلال عام 1967 لقطاع غزّة، كان سكّانه، ومُعظَمهم من اللاجئين، ومن بينهم قادة حركة “حماس” في القِطاع حاليًّا، يعتمدون على مُساعدات وكالة الغوث الغذائيّة، ويلبسون البناطيل المُرقّعة، ولا يَعرِفون الماء والكهرباء في بيوتهم، ويقضون حاجَتهم في مراحيض عامّة، ومع ذلك لم يركعوا مُطلقًا، وانخَرطوا في مُقاومة الاحتِلال بشَراسةٍ، وقدَّموا آلافَ الشُّهداء.
نعم الزمن تغيّر ولا يُمكِن العودة إلى الوراء خمسين عامًا، ولكن لُقمَة الخُبز يجب أن تكون مجبولةً بالكرامة وفي كُل العُصور، خاصَّةً بالنِّسبةِ إلى شَعبٍ يُقاوِم من أجل العودة إلى أرضِه المُغتَصبة.
نتمنّى أن لا يستمع قيادة حركة “حماس” للقِطط السِّمان فيها، ومُبرِّري سياسة التنازل لنِتنياهو، وما أكثرهم، وأن لا تكتفي برفض هذه المنحة، القطريّة، وشُروطها المُهينَة فقط، وإنّما تعود أيضًا إلى تكثيف مسيرات العودة بالصُّورةِ التي كانت عليه في بداية انِطلاقاتِها، وإلغاء كُل التَّنازلات السابقة، وكُل وسائل المُقاومة المَشروعة ضِد الاحتِلال.
التعليقات مغلقة.