السيرة التاريخية للحرية .. (من حكم الضرورة إلى وعيها) / د.عدنان عويّد
د.عدنان عويّد ( سورية ) الجمعة 8/2/2019 م …
(1)
يظل تاريخ الحرية في سياقه العام مرتبطاً بصراع الإنسان مع الطبيعة ممثلة في قوانينها العمياء من جهة, و بصراعه مع أخيه الإنسان ممثلاً في حالات القهر والظلم والاستعباد من جهة ثانية, وأخيراً مع نفسه هو, أي مع ذاته ممثلاً هذا الصراع بمقاومة غرائزه وأهوائه الضيقة الخارجة عن نطاق العقل. التي تدفعه دائماً إلى ارتكاب الخطيئة.
إن كل انتصار يحققه الإنسان في هذا الصراع بكل اتجاهاته الثلاثة سيساهم إلى حد كبير في تحسين وتطور قوى وعلاقات إنتاج الإنسان (الفرد أو المجتمع), أي وجوده الاجتماعي أولاً, ثم تطوير لغته ومعارفه وابداعاته ثانياً, وبالتالي تنظيم حياته الاجتماعية ثالثاً, وسيساهم هذا الانتصار أخيراً في تطوير وعيه الذي يجد تعبيره في العلم والسياسة والتكنولوجيا والفنون والآداب والفلسفة والأخلاق والقانون. فالوعي يمنح الإنسان الوسائل الضرورية لكسب حريته.
(2)
مع ظهور التقسيم الطبقي في المجتمع, أي مع انتقال الإنسان من مرحلة المشاعة إلى المرحلة المدنية, شكل هذا الانتقال مجالاً واسعاً لانتصار الحرية الإنسانية بالرغم من دخول الإنسان عالماً جديداً من العبودية, وهي عبودية الإنسان للإنسان, أي العبودية التي يدخل في ممارستها الوعي الإنساني الذي تتحكم به مصالح الإنسان الأنانية الضيقة التي راحت تتضخم كثيراً مع ظهور الملكية الخاصة. بيد أن هذه العبودية الجديدة تظل في السياق التاريخي لنضال الإنسان من أجل حريته أفضل بكثير من عبودية الضرورة الحكمية التي تمثلها قوانين الطبيعة العمياء التي تجبر الإنسان على الرضوخ الكامل لهذه القوانين, والتي دفعته بدورها إلى عبادة قوى الطبيعة ذاتها وتأليه أو تقديسه لظواهرها, بل التضحية بالنفس من أجلها أو ابتغاء إرضائها.
إن مسألة الخلاص تدريجياً من تحكم قوانين الطبيعة بالإنسان, يعتبر كما قلنا انتقالاً لمجال من الحرية أوسع, وهو في التحليل المادي ناتج عن تطور في قوى وعلاقات الإنتاج, وخاصة وسائل الإنتاج التي ساعدت الإنسان كثيراً في السيطرة على قوانين الطبيعة وإخضاع الكثير منها لإرادته. فمع تطور إنتاج الإنسان وانتقاله من مرحلة المشاعة واقتصاد الكفاية الذاتية, إلى المدنيّة واقتصاد الربح / اقتصاد السوق, دخل الإنسان في علاقات استغلالية يمارسها المالك على المنتج, وهذا التحول يتناقض في الحقيقة مع مرحلة الانتاج المشاعية التي كان فيها الفرد يعمل بحرية داخل قبيلته أو عشيرته, حيث كان يعمل بإرادته, فينشأ العمل ويتكامل بصورة طبيعية عبر حركة الكتل الاجتماعية القائمة آنذاك, وهي حركة يلعب الدور الأساس فيها المصالح العامة المرتبطة بالحاجات الضرورية لبقاء الإنسان. فالإنسان يخضع في المرحلة المشاعية في محيطة الاجتماعي لذاته ولحاجاته التي يسعى بحريته وإرادته على تأمينها دون إكراه من أحد عدا قوانين الطبيعة العمياء التي تتحكم بيسر آلية عمل الطبيعة, وبالتالي آلية عمله هو بالذات, أي تحكم الضرورة.
(3)
إن الحرية في المرحلة المشاعية تعتبر حرية حقيقية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ودرجة الوعي التي يتحلى بها الإنسان آنذاك. أي هي حرية تعبر عن وعي الضرورة المحدودة في مضمار علاقات إنتاج متأخرة جداً.
مع ظهور التقسيم الاجتماعي الأول للعمل ما بين المرأة والرجل (بقاء المرأة في المنزل تمارس نشاطها في تربية الولاد وتأنيس بعض الحيوانات وصنع الأدوات المنزلية.. بينما الرجل كان يعمل في الصيد) تحقق أول كسر للقيد المتعلق بهذه الضرورة الخاصة بتأمين حاجات الإنسان المرتبطة مباشرة مع الطبيعة, فالحرية في إرهاصاتها الأولى التي أعطت الإنسان قدرة السيطرة على بعض قوانين الطبيعة العمياء المرتبطة بإنتاج خيراته المادية الأولية, التي حققها هذا التقسيم الأول للعمل, بدأت الحرية هنا تمتلك شروطا أكثر سمواً. فمع بدء الإنسان بإخضاع الكثير من قوانين الطبيعة في تلك المرحلة البدائية لمصلحته وخاصة ما يتعلق منها بتأمين حاجاته الضرورية من أجل البقاء, بدأت مسالة الحرية (وعي الضرورة) تأخذ وجهاً اجتماعياً. أي أن هذه الحرية في صيغتها الأولية الاجتماعية أصبحت امتيازاً للقليل من أفراد المجتمع, وهم الذين يمتلكون وسائل الإنتاج ومهارات استخدامها, أي حرية من راح يُشعر الآخرين بأن هذه الوسائل ملكاً له وحده. وهذا ما جعل روسو يقول: (عندما قام أول إنسان بتسييج قطعة أرض وأعلن للناس بأن هذه الأرض ملكاً له. وصدقه الآخرون, بدأ استغلال الإنسان للإنسان). وراح هذا المالك يفرض نفسه كضرورة اجتماعية. أي يفرض نفسه قوة خارج إرادة الآخرين وعلى الآخرين أن يخضعوا له. وعلى هذا الأساس فقد رافق وجود المدينة وتطور قوى وعلاقات الانتاج وجود طبقة حرة (مالكة) مع آلاف من العبيد في خدمة مصالح هذه الطبقة الحرة. في الوقت الذي اقتصر دور هذه الطبقة الحرة على الاهتمام بشؤون المجتمع عامة, من إدارة للعمل, والشؤون السياسية, والعلم, والفنون وغير ذلك. فالحرية في أثينا على سبيل المثال لا الحصر, المعبرة عن طبيعة هذه المرحلة من ظهور المدنية والتقسيم الاجتماعي الكبير الثاني للعمل بين أصحاب الحرف, أصبحت الحرية, امتيازاً للأحرار فقط , حيث وجد في أثينا عام (309- ق.م), واحد وعشرون ألفاً من المواطنين الأحرار, يتمتعون وحدهم بالحقوق السياسية, وهناك أربعة مائة ألفاً من العبيد فاقدي الحرية. أما في روما عام (204- ق.م), فقد كان هناك مئتان وأربعة عشر ألفاً من المواطنين الأحرار, يقابلهم عشرون مليوناً من العبيد كانوا في وضع حياتي مزري. (1)
وهذه القلة من (المواطنين) هي ذاتها من يحتكر القدرة والسيطرة على السلطة والمجتمع, وهذه الصفة هي من صفات الآلهة.
لقد اصبح الرقيق أداة عمياء بيد هذه القوى الاجتماعية من الأحرار الغريبة عنهم بعد أن امتلكت السلطة والمال والجاه كحقوق مقدسة لهم وحدهم. وقوة العمل الجماعية للعبيد هنا, راحت ُتنسب إلى سيد الحق المقدس… إلى أمره. أي إلى ضرورة (قوانينه).
في مرحلة المشاعة, لم تكن الأساطير الدينية البدائية في إرهاصتها الأولية إلا تأويلاً خيالياً, لكنه تأويل عفوي لحركة قوى الطبيعة, ولكن مع تطور قوى وعلاقات الانتاج وحدوث التقسيم الاجتماعي الكبير الثاني للعمل بين الزراعة والحرفة والرعي. ومع تشكل القبيلة والعشيرة والسلطة بشقيها المادي والفكري, حدث تطور كبير في مجال الوعي أيضاً, حيث ارتدت الأساطير آنذاك جلباب الكهنوت, وأخذ عالمها الخيالي تركيباً طبقياً. فالسماء تغدو انعكاساً للأرض وما يدور فيها من صراعات. والطبقة التي تتصرف بالعمل الجماعي تفرض ديانتها (أساطيرها), كما تفرض قوانينها. إن مالك وسائل الإنتاج ومن بينها الرقيق هو وحده يعرف غاية العمل ويعي ضرورته مثلما يعرف غاية الدين ودوره في إخضاع الآخرين له. إن السيد الحر هو من يتمتع بهذا الوعي, غير أن هذه الطبقة الحرة الواعية لذاتها تتحول إلى طبقة طفيلية بعد تخليها عن عملها القيادي الحقيقي – أي تحقيق النمو والتطور والعدالة والفن الإبداعي وكل ما يدل على جوهر إنسانيتها, فهذه الطبقة الطفيلية في فترات انحطاطها لا تعود تعي الهدف ولا الواقع لأنها انقطعت عن التأثير بجوهرها الإنساني. هنا يغدو حامل السوط غير متمتع بالحرية مثله مثل العبد, أي أصبح أعمى مثله.
(4)
مع تعاظم استغلال وظلم المالك الحر والسيد للمنتج (العبد), تفقد إذاً حرية طبقة الأسياد طابعها الإنساني, ولكي تحافظ هذه الطبقة على حريتها في استغلال الآخرين وقهرهم وتشيئهم واستلابهم, تزيد استثمارها واضطهادها لهم أكثر, وخاصة مع حالات الانهيار الاقتصادي, كما أن وعي هذه الطبقة وثقافتها المعبران عنها تتجردان عن كل محتوى وجوهر إنساني, فالعلم يغدو حذلقة وادعاءً, والفن يتجه إلى القضايا الجوفاء والسطحية من الحياة, والدين يتجه إلى التعصب وشرعنة الاستغلال وقهر المنتجين… نعم, إن حرية الطبقات المالكة تتحول إلى حرية قهر واستغلال للآخرين بشكل كبير وواسع من جهة, كما تغدو مسألة إفساد وتهديم كل القيم الإنسانية الايجابية أو النبيلة خدمة لأهداف هذه الطبقة ومصالحها من جهة ثانية. إنها حرية الموت واللامعقول والعبث واللا انتماء.
أمام هذه التحولات في مسار الحرية وصيرورتها, تصبح انتفاضة المضطَهدين ومن يقع عليهم الظلم والقهر والتشيئ والاستلاب, ضرورة تاريخية, وهنا تبدا مسيرة جديدة لحرية أخرى, هي حرية الجماهير الواسعة. فالتناقضات الناتجة بين نظام الملكية وبين تطور قوى وعلاقات الإنتاج التي تخلق ظروفاً جديدة للمنتج في عمله وأساليب حياته ووعيه وطموحاته, ترسم وتهيئ تحولاً ثورياً في المجتمع يبدأ بشق طريق أسمى أمام الحرية.
من هنا نجد أن الطبقات المضطَهدة هي التي تقوم دائماً بصنع التاريخ عبر أشكال ومراحل الاضطهاد. فكل طبقة صاعدة تاريخياً عندما تحطم قيودها والعوائق التي تقف أمام إنسانيتها وحريتها وتطورها كقوى منتجة, هي من يعيد صناعة تاريخ الحرية وتجديدها.
(5)
إن أشد أزمات تقدم الحرية, هي الأزمة التي تبنت فيها البرجوازية دور المحرر للشعب من العلاقات الاقطاعية الاستبدادية ممثلة بالملك والكنيسة والنبلاء, وذلك بوقوف الطبقة البرجوازية قبل أي شيء ضد هذا النظام القائم على أساس المراتب الاجتماعية والدماء الزرقاء. فالقن (الفلاح) مرتبط بالأرض التي يخدم فيها, وبيع المنتجات يتم في أقرب منطقة من الأرض المنتجة, وعندما كانت المكوس (الضرائب) تستوفى عن البضائع لدى نقلها كانت الحواجز الاقطاعية تحد من تداول هذه البضائع بسبب الضرائب الكثيرة المفروضة على مرور هذه البضائع عبر الاقطاعات, مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار البضائع والحد من تصريفها. ولكن مع تقدم التكنيك وازدهار الصناعة والتجارة وتواجد شبكة واسعة من المصارف والمعارض وطرق المواصلات, أخذت الطبقة المالكة الجديدة (الطبقة البرجوازية) تطالب بالحريات وفرض وجودها كقوى اجتماعية جديدة صانعة للتاريخ أيضاً, وقد جاء في مقدمة هذه الحريات طرح شعار الميركانتيلية : (دعه يعمل , دعه يمر.). فالتحرر وفق مضمون هذا الشعار الميركانتيلي, لم يعدو كونه في البداية أكثر من تحرر اقتصادي لا غير.
إن دخول المجتمع في العلاقات الرأسمالية إنتاجاً وتصديراً واستهلاكاً, أدى بالضرورة إلى فك الارتباط بين أبناء المجتمع القديم في تكويناته الاقطاعية, حيث لم يعودوا مرتبطين مع بعضهم ارتباط القن بالسيد, أو التابع للمولى الاقطاعي, لقد دخل الناس في مجتمع ينتجون فيه للسوق الحرة, ويشترون منها بكل حرية واستقلالية.
إن بلوغ السوق التي لا يحدها حد, أو يعيقها عائق, هو الذي شكل أساس الحرية في النظام الرأسمالي. فالناس أصبحوا يحملون إلى السوق ليس منتجاتهم فحسب, بل سواعدهم أيضاً, ومؤهلاتهم كي يبيعوها لمن يدفع لهم أكثر. لقد أصبحت السوق هنا لا شخصية, شأنها شأن الطبيعة بقوانينها العمياء. فكما أن القوانين العمياء هي التي تسير الطبيعة, فكذلك أصبحت قوانين السوق غير الواعية وغير المخطط لها هي من يتحكم بالناس وطريقة حياتهم, وهذا ما يجعلنا نؤكد على مقولة : (إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم, ولكنهم لا يصنعونه على هواهم.).
بتعبير آخر: لقد أصبحنا نجد في السوق الرأسمالية الحرة قوى متباينة جداً, ولكنها تجتمع تحت سقف الحرية العامة, فهناك نجد التاجر الحر, والعامل الحر, والرأسمالي الصناعي الحر. لقد أصبحت العلاقة بين الناس ضمن هذه السوق الحرة شيئاً آخر هو البضاعة. أي أن جملة حياة الناس ليست أكثر من حركة للبضاعة تتحكم بها قوانين السوق العمياء التي اخضعت الإنسان ومنتجاته لسيطرتها, حيث لا يوجد من يشرف وينظم العرض والطلب والإزدهارات والأزمات فيها سوى الربح وكيف يتحقق. وبالتالى أصبحت العلاقة العبودية القائمة بين الرأسمالي والعامل أشد ضراوة وفوضوية…. إنها مرحلة ضياع الإنسان في منتجاته, المالك والمنتج معاً..
(6)
أما الدولة التي تظهر في هذه المرحلة بمظهر الحياد وكأنها فوق جميع الطبقات, فهي لا تتدخل إلا لتؤمن حرية سير قوانين السوق الخاصة. إنها عملياً تضمن حرية الطبقة المالكة وتعزز عبودية المنتجين باسم القوانين التي تسنها أو تُشرعنها الطبقة المالكة بعد وصولها إلى السلطة, وتحكمها بالسلطات كافة, التنفيذية والتشريعية والقضائية.
إن الطبقة البرجوازية توجز في ثورتها جميع مطالبها تحت اسم الحرية, أي حرية السوق, وبذلك استطاعت إثارة ظلم الماضي وضحاياه في هجومها على الماضي ذاته برفعها شعار الحرية والعدالة والمساواة بلا حدود. بيد أن شعار الحرية هذه بصيغتها اللامحدودة, وجد حدوده عند الطبقة البرجوازية نفسها, وذلك عندما بدأت الطبقات المسحوقة تسعى لتحقيق حريتها التي سلبتها منها الطبقة البرجوازية ذاتها, وحرية هذه الطبقات المسحوقة لن تتحقق إلا على حساب المالكين, الأمر الذي دفع الطبقة البرجوازية لتراجع حساباتها, وتعيد مد الجسور مع الماضي ومن يمثله من القوى التي ظلمتها هي ذاتها ممثلة بالملك والنبلاء والكنيسة, وتتحالف معها ضد أصدقائها من الجماهير المسحوقة والمضطهدة. وعندما أصبحت الدولة ملكاً للطبقة الرأسمالية ومن تحالف معها من طبقة الارستقراطيين الملاكين الكبار للأراضي, أصدر هؤلاء مجموعة من القوانين ووسائل الإكراه, هدفها إجبار المنتجين قبل غيرهم على الرضوخ للطبقة الحاكمة باسم القانون, ويأتي في مقدمة هذا الرضوخ, القبول بالأجور التي تفرضها الطبقة البرجوازية, وساعات العمل وكل شروطه. وبذلك حققت البرجوازية تطوراً صاعداً لتراكم الرأسمال واجتياز مرحلة المانيفاكتورة ودخول الثورة الصناعية. هذه الثورة التي اتاحت للبرجوازية الدخول في مرحلة الانفجار بعلاقاتها, وخاصة مع حليفتها الطبقة الارستقراطية, فدخول الآلة البخارية التي أصبحت مع الصناعة القوة المسيطرة, أصبح بمستطاع الطبقة البرجوازية أن تعمل على فصم عرى التحالف مع الطبقة الارستقراطية الزراعية دون أي خوف. فالبرجوازي الكبير الحر لم يعد بحاجة لحماية الملك أو الطبقة الارستقراطية ولا حتى الكنيسة, بعد أن امتلك ثروات هائلة حققتها له الثورة التكنولوجية, وبدأ البرجوازي يقود الشعب والقوى العمالية من جديد تحت شعارات الحرية أيضاً ضد التقاليد والامتيازات والتراتب الاجتماعي التي ظلت قائمة مع تواجد الطبقة الارستقراطية, والسبب كله يعود في هذا التحول إلى التراكم الهائل للرأسمال وتمركزه بيد الطبقة البرجوازية بسبب الثورة الصناعية.
(7)
عندما بدأت الرأسمالية تنتقل إلى المرحلة الامبريالية, بدأ يتجلى بوضوح أن الحرية التي تدعيها البرجوازية والتي تطالب بها للفرد المدافع عن مطامحه ورغباته وربحه الحر, هي حرية أعجز من أن تحقق للإنسان حريته, بل هي تعمل على جعل الإنسان عبداً للمصادفة وقدر الحروب الخارجية التي تشنها الدول الغربية الرأسمالية, وعبداً للبطالة والافلاس والاغتراب والتشييء.
إن تطور الآلة, وتوجه التركيب العضوي للرأسمال نحو الرأسمال المالي (التحام الرأسمال المصرفي بالصناعي), ثم تمركز الرأسمال واخيراً مركزته, كل هذه التحولات للرأسمال, كانت تُحول بدورها كل يوم الحرفي إلى عامل لا يملك إلا جهده, بل في أحيان كثيرة لا يملك حتى جهده, الذي بدأ يتحول إلى سلعة في سوق العمالة, بل إن غرائزه ذاتها أخذت تتحول إلى سلعة. بينما راح التاجر يتحول إلى وكيل مُخزن لبضاعة الصناعي الكبير, والصناعي الصغير يتحول إلى عميل تابع لأحد الشركات الاحتكارية . وبشكل عام إن الحرية هنا تتحول إلى غول يفترس الحرية ذاتها, أو بتعبير آخر إن الحرية تلد خصمها وهو العبودية ولكن بأثواب جديدة تتجاوز مرحلة أسواق النخاسة.
إن عصر الرأسمالية في صيغتها الاحتكارية وهي المرحلة العليا من الامبريالية, تمثل عصر الفاشية والاستعمار المتوحش المفترس الذي تُحرك قواه الفتوحات الاستعمارية والسيطرة على الشعوب والمنافسة والاحتكار.. إنه عصر الشركات المتعددة الجنسيات. فحرية المنافسة والاحتكار في هذا العصر هي حرية حرب الجميع على الجميع, فكل واحد يعمل على تحطيم الآخرين قبل أن يحطموه, لذلك يعمل الرأسمالي في هذه المرحلة على تقوية نفسه عن طريق زيادة ثرواته وتوسيع رأسماله الثابت على حساب المتحرك وتطويره, فتطور الآلة سيؤدي بالضرورة إلى تجذير قانون (فضل القيمة) بشكليه المطلق والنسبي, وبالتالي إلى تحقيق أو خلق الأزمات وفوضى الانتاج والبطالة ونهب المستعمرات والحروب وعسكرة الاقتصاد.
(8)
إن النشاط الذي اعتقدت البرجوازية أنها واجدة فيه قيمة حريتها, سيكون هو النشاط ذاته الذي سيسير بها إلى حفر قبرها بيدها.
إن الحرية بالنسبة للبرجوازية تصبح جهلاً للضرورة لا الشعور بها أو وعياً لها, وإن تاريخ الحرية البرجوازية الذي جئنا عليه يؤكد لنا ذلك القانون الذي يقول: ( لا يتمتع أحد بالحرية في زمن معين, وأن مجتمعاً مقسماً لطبقات ستكون فيه حرية من يملك وسائل الانتاج غير حرية فاقد هذه الملكية, وكل طبقة لا تستطيع تأمين حريتها في المحصلة إلا على حساب حرية الطبقة المناقضة لها في مصالحها. أو بتعبير آخر , ليست الحرية إلا تلك القدرة القادرة على الاستيلاء والسيطرة على الآخرين واستعبادهم والتشريع لهذا الاستيلاء والسيطرة قانونياً او دستورياً). (2). في مثل هذه الحالة تنتقل الحرية فعلاً من وعي الضرورة إلى جهلها وإعادة تحكم الضرورة (قوانين السوق) بالإنسان المستغِل والمستغَل نفسيهما, حيث يأتي تحكمها بالمستغِل من حيث تقييده بمصالحه الخاصة الضيقة على حساب مصالح الآخرين. وتتحكم الضرورة بالمستغَل عندما يشيئ ويستلب ويغرب, و وبالتالي فالكل في مثل هذه الوضعية يضيع هنا في المنتجات واقتصاد السوق الحرة التي تعتبر نموذجاً متطوراً لشريعة الغاب .. القوي يأكل الضعيف.
ومن هنا سمى أحد الاقتصاديين هذه الحرية بـ (فوضى الرأسمالية), وفوضى التجارة. وإن حرية المنافسة تؤدي برأيه إلى رذيلتين هما :
1- رذيلة الربا الحر تحت إسم المصرف.
2- ورذيلة الكذب الحر تحت إسم التجارة. (3).
لا شك أن الحرية ستبقى دائماً حرية مجردة عند شعب لا زال فيه الفقراء محرومين من الثقافة والمعرفة والثروة, ومكرهين على تأجير سواعدهم وعملهم ونشاطهم وابداعاتهم لصاحب العمل أو المالك للثروة والسلطة.
ثم ما هي فائدة الحرية التي تعطي للمواطن حق التصويت وحق الانتخاب وهو لم يزل يبحث عن تأجير سواعده لتحقيق قوت يومه بالحد الأدنى, أي بأجر زهيد غير كاف حتى لإعادة إنتاجه في اليوم الثاني بصورة طبيعية؟!. ماذا تفيد الحرية السياسية بالنسبة له طالما قد منعت عنه الحرية الاجتماعية وحرم التقسيم العادل للثروة الوطنية ؟!.
إن كل حرية غير منظمة, وغير محققة لشروطها الإنسانية, هي حرية كاذبة ومجردة وشعارية. وكل من يقول بالحرية في الأنظمة التي يفقد فيها الإنسان حق الرأي والعدالة والمساوة والمشاركة في قيادة الدولة والمجتمع بشخصه أو عن طريق من يمثله, هي ليست حرية شعب يريد الحرية المشخصة فعلاً, وإنما يمارس حرية أقل ما يقال عنها إنها حرية تقع تحت رحمة السوط والسلاح. أو بتعبير آخر, إن الحرية في مثل هذه الأنظمة بالنسبة للقوى المسحوقة, هي حرية أشباح لا حرية لأناس من لحم ودم. وأن الحرية الحقيقية هي الحرية المقيدة بشرطين أساسيين أولهما, التملك, وثانيهما الاشتراك في الحكم, بسلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية, أو إدارة الشؤون العامة للمجتمع والدولة, وهذا ما أرادت وتريد الاشتغال عليه كل القوى التي تؤمن بجوهر إنسانية الإنسان.
(9)
مع تطور الثورة الصناعية في أوربا ووصول الطبقة البرجوازية إلى السلطة وتوظيفها الدولة بكل مكوناتها لتحقيق مصالحها على حساب شعوبها وشعوب العالم الثالث بفعل الاستعمار, بدأت تظهر رؤى وأفكار جديدة في الحرية تطرحها أحزاب وتنظيمات تتبنى الفكر الجدلي منهجاً والاشتراكية العلمية أيديولوجية, ممثلة بالأحزاب الشيوعية, أو أحزاب الديمقراطية الثورية التي ربطت ما بين النضال القومي والاشتراكي, وهي بعمومها أحزاب وتنظيمات تمثل القوى الاجتماعية المضطهدة والمسحوقة, حيث راحت تعمل على تفنيد الحرية التي تدعيها الطبقة الرأسمالية من جهة, والتأسيس لحرية أخرى هي حرية كل الشعب ويأتي في المقدمة حرية قوى الشعب العاملة.
تنطلق هذه القوى اليسارية التقدمية في مسألة الحرية, من أن الواجب يقتضي تحقيق الحرية, ولكن تحقيقها يجب أن يكون للناس جميعاً, وإذا كانت الحرية مرتبطة بالملكية فيجب أن يكون الجميع بلا استثناء مالكين.
إن الملكية وحق التصويت في نظام أو دولة يسودها الاستغلال للمنتجين والتفاوت في الملكية, وشيطرة مطلقة على السلطة, سيحقق بالضرورة تناقضاً بين الملكية وحق التصويت الذي يعني تحقيق العدالة والمساواة والمشاركة في إدارة الدولة والمجتمع وحرية الرأي والتعددية والمواطنة.
إن الحرية في الأنظمة التي تنهج النهج الاشتراكي, غالباً ما تقع في الدكتاتورية, وخاصة دكتاتورية الفرد والحزب الواحد, وهنا يأتي الهجوم على هذا الصيغة من الحكم, على أنها أنظمة شمولية لا تختلف في قهرها وظلمها للقوى المنتجة عن ظلم وقهر الأنظمة الرأسمالية في صيغتيها الإمبريالية والاحتكارية. وهذا ما يجعل القوى المعادية للتقدم على حق عندما تتهم الحرية في المجتمع الاشتراكي بانها حرية تضحي بالفرد بل بالمجموع من أجل حرية الطبقة الملكة بحزب شمولي أو بإسمه.
تقول القوى التقدمية العقلانية التنويرية : إن قوى الشعب العاملة غير قادرة على منح الحرية محتوىً إيجابياً ومجابهة افتراءات الحرية البرجوازية في صيغتها العليا (الاحتكارية), إلا عندما تكون متمترسة أمام الرأسمال كقوة مستقلة ومنظمة في نقابة أو حزب قادرين على استلام السلطة والحد من حرية السوق. إن كل انتصار للقوى العاملة من خلال نضالها من أجل تحديد ساعات العمل, وتحقيق الضمان الاجتماعي, والأجور والدعوة على التعددية السياسية وحرية الرأي ودولة المواطنة والمشاركة في السلطة وتحرير المرأة وغير ذلك , هو حد من الحرية البرجوازية في مرحلتها الامبريالية والاحتكارية, أو حرية القوى المستغِلة والمحتكرة للسلطة مهما تكن طبيعتها.
إن هذه القوى التقدمية عندما ربطت الحرية بالوضع الطبقي, أدركت القانون الأساس للتحرر وهو: إن حرية طبقة ما في مجتمع مقسم إلى طبقات يفترض استعباد الآخرين, وأن الحرية الحقيقية هي حرية المجتمع الذي تتحقق فيه عدالة المشاركة في الثروة والسلطة, وما يترتب على هذه المشاركة من قضايا قيمية نبيلة تعبر عن الجوهر الحقيقي للإنسانية الإنسان.. وهذا ما يجعلنا نؤكد القول: بأنه : طالما أن قوى حاكمة مستغِلة تتحكم بالسلطة والثروة الاجتماعية, فإن أي تفكير بالحرية والمساواة يجب أن يضع أمامنا الأسئلة التالية : حرية ومساواة وعدالة من أجل من؟. ولأية غاية؟. إن أي شعار للحرية والمساواة والعدالة عندما لا يجاب على هذه الأسئلة, إنما هو تضليل ونفاق من القوى الحاكمة المستبِدة. (4).
إن الحرية في الفهم العقلاني النقدي ليست حرية تقوم على الغاء الإكراه فحسب, وإنما هي سلطة حقيقية على الطبيعة والحياة الاجتماعية والذات نفسها, فالإنسان هنا يأخذ بيده قيادة التاريخ قيادة فعلية. إن حرية المواطن تكون حقيقية عندما يكون شريكاً حقيقياً في الملكية وإدارة الإنتاج وشؤون الدولة والمجتمع. إن تربية الجميع وتمليك الجميع هما الشرطان الأساسيان للحرية, ولكي تصبح الحرية أمراً واقعاً حقيقياً, يقتضي عدم حرمان أي فرد من التراث الإنساني الذي حققته الأجيال أيضاً, وأن الأنظمة العادلة في حكمها هي وحدها القادرة على تعميم الثقافة وجعلها في خدمة الفرد والمجتمع. فالحرية هي الحق بالسعادة وإيصال الناس إلى المشاركة في تقرير مصيرهم والعودة إلى مرجعيتهم الإنسانية التي سلبتها منهم أنظمة القهر والاستغلال تاريخياً… الحرية الحقيقية هي الحق بالوصول إلى الملكية والإبداع والثقافة والحياة وصولاً حقيقيا…. الحرية الحقيقة هي التي تمنح الإنسان الحق بالتمتع بخيرات وطنه تمتعاً كاملاً والقدرة على تطوير شخصية الإنسانية, وليست الديمقراطية هنا توزيع قسائم الاقتراع على الناخبين الجائعين الذين سيجبرون على انتخاب من سيقمعهم في البرلمان ويشرع ضد مصالحهم. إن الحرية والديمقراطية تظلان جزءاً من مشروعها تمثلان في نهاية المطاف, حرية اقتصادية تعمل على تحقيق التقسيم العادل للثروة الوطنية, وحرية اجتماعية وسياسية تعمل على اقصاء كل المرجعيات التقليدية من طائفية وعشائرية وقبلية, أو حزابية أحادية, إنهما الحرية والديمقراطية اللتان تعملان على تجذير المواطنة ودولة القانون وتحقيق التعددية السياسية وتداول السلطة والقضاء على الدولة الشمولية…وأخيراً هما حرية وديمقراطية تريدان ثقافية تنبع من صميم قضايا الجماهير, وللمثقفين من أدباء وفنانين وكتاب ومفكرين وفلاسفة ومؤرخين دور بالاشتغال على كل ما يحقق عبر هذه الثقافة عظمة وبطولة الإنسان, من أجل خلق حياة كريمة للجماهير التي عانت تاريخياً من القهر والظلم والاستعباد والتشيئ والتغريب والاستلاب. وهنا فقط تكون كل الطاقات المبدعة أداة حقيقة لتجذير الحرية وممارستها واقعاً وفكراً.
ملاك القول: إن الحرية في فهم العقلانية النقدية, هي وعي الضرورة, أو الضرورة الواعية. فالحرية هي وفقاً لهذه لرؤية الفلسفية ليست عبارة عن ادعاء للاستقلال عن قوانيين العمياء للطبيعة والمجتمع فحسب, وإنما هي دعوة لمعرفة هذه القوانين وإمكانية استخدامها في النشاط العملي للإنسان. إن الضرورة, – أي القوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع- هي المعطى الأول, وإرادة الإنسان وإدارته هي المعطى الثاني, وطالما أن الإنسان يجهل الضرورة فهو عبد لها, وعندما يعرفها سيسيطر عليها, وبالتالي ليست الحرية إلا معرفة الضرورة والتحكم بها وتسخيرها لمصلحة الإنسان.
تعلمنا النظرية المادية في المعرفة, إن قوانين الطبيعة موجودة بشكل مستقل عنا, وعلى أساس معرفتها ستقوم الحرية. إن حرية الإنسان وإرادته ليستا سوى نتاج متفرع من هذه الحقيقة الأساسية وتالِ لها, هذا في الوقت الذي يجب أن نقر فيه بأن هناك ضروراتٍ كثيرةً لم تزل خارج معرفتنا ولم نزل حتى الان نحن عبيداً لها, وعلينا أن نعلم أن حريتنا تؤثر على الضرورة من خلال النشاط العملي الوعي والمسؤول الذي يبدل في الطبيعة والإنسان نفسه, بل في العمل يخلق الإنسان نفسه.
إن كل الرؤى الفلسفية المثالية للحرية, وفي مقدمتها الرؤى الفلسفية المدافعة عن مصالح القوى المستغِلة عموماً, تقوم على أساس النظر إلى العالم مشطوراً إلى ناحيتين هما: ناحية طبيعة, وناحية روحية. والحرية بالنسبة للفلسفة المدافعة عن الاستغلال والتسلط تعتبر امتيازاً للروح التي تتمتع عندهم بإمكانية العمل بمعزل عن قوانين الطبيعة والمجتمع معاً.
إن الطبيعة عندهم تعني هنا جسد الإنسان ورغباته وأهواءه وحركاته الآلية. بينما الروح فهي عندهم القدرة الحقيقية القادرة على تغيير مجرى نظام هذه الطبيعة, أي هي الأثر الإنساني الذي يهبنا كرامتنا وشخصيتنا الإنسانية ومن ثم حريتنا. إنها عندهم بتعبير آخر اندفاع الروح في المادة, وهذه الرؤى ليست إلا تعمية لحياة الحرية التي وضعناها أمام مبضع التحليل المادي للمعرفة.
ملاحظة:
إن معظم التجارب الاشتراكية التي تبنت الرؤى والمفاهيم الماركسية في الحرية, إن كان لدى الأحزاب الشيوعية او الأحزاب الديمقراطية الشعبية قد شوهت الحرية في فهما العقلاني النقدي, عندما ركزت في اقتصادها على رأسمالية الدولة, وعلى تجذير اللدنيّة أو عبادة الفرد, وبالتالي تحويل الحزب الحاكم ومن يلتقي معه من أحزاب بإسم جبهة وطنية أو قومية أو اشتراكي مع المنظمات الشعبية إلى حزام ناقل للفئة الحاكمة التي تفردت بالسلطة وحولتها إلى غنيمة.
(1) . (راجع – أصول الحرية- تعريب بدر الدين السباعي- دار التقدم – بيروت- 1973- ص27).
(2). (المرجع نفسه –ص51).
(3). (المرجع نفسه ص52).
(4). ا(المرجع نفسه – ص 63.).
التعليقات مغلقة.