واقع التعليم العالي في الوطن العربي / د. الدكتور عادل عامر

د. الدكتور عادل عامر ( مصر ) الأحد 10/2/2019 م …




من التحديات الكبيرة التي يواجهها التعليم العالي في الوطن العربي عملية التمويل، فالقطاع الخاص ينظر إلى الاستثمار في التعليم العالي من زاوية تجارية محضة، أي منطق الربح بغض النظر عن متغيرات هامة، كالجودة وتمويل البحث العلمي ورعاية المتميزين والمتفوقين، أما الدولة ومع تزايد الأعداد الهائلة من الطلاب المقبلين على الجامعة فإنها إما أنها تتنصل من دورها وتترك المجال للقطاع الخاص

 وإما أنها تتكفل بالموضوع دون احترام معايير الجودة الشاملة والنوعية، فالتعليم العالي أصبح يكلف الكثير، خاصة إذا تمت مراعاة الجودة والنوعية. فما تخصصه الدول العربية للإنفاق على التسلح يفوق بكثير ما يُخصص للتربية والتعليم والبحث العلمي، وما تخصصه الدول العربية قاطبة للبحث العلمي لا يتعدى الملياري دولار، وهو في حدود ما تخصصه جامعة هارفارد ومشيجان الأمريكيتان للبحث العلمي.

وهذا دليل آخر على أن الكلام على صناعة المعرفة يتطلب الكلام على شروط ومستلزمات هذه الصناعة، فالبحث العلمي يتطلب إمكانات مادية معتبرة، وباحثين وعلماء في مستوى عال وإدارة رشيدة وفعالة واستراتيجية واضحة المعالم وصناعات ومشاريع تنموية تتفاعل مع المشاريع البحثية وتمولها وتستخدمها في تطوير الأداء والنتائج وأهم من كل ما تقدم بيئة بحثية ومجتمع يقّدر العلم والمعرفة والبحث العلمي. في الوطن العربي نلاحظ أن بعض هذه المعطيات غير متوفرة وإذا توفرت فالمشكل يكمن في التخطيط والإدارة والتنسيق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن البحث العلمي هو ثقافة وسلوك وحضارة يجب أن يؤمن به المجتمع بمختلف شرائحه، خاصة صانع القرار. وهنا نلاحظ تناقضا آخر، وهو الفجوة التي توجد بين صناعة القرار والبحث العلمي في الوطن العربي.

من المشاكل التي تعاني منها الجامعات العربية كذلك هجرة العقول، حيث إن المتفوقين والمتميزين من الخريجين من الجامعات العربية يحصلون عادة على منح لمتابعة دراساتهم في الجامعات الغربية، فيلتحقون بها وفي غالب الأحيان يتفوقون ويحصلون على منح أخرى وامتيازات، وفي آخر المطاف يستقرون في تلك الدول،

نظرا لتوفر شروط البحث العلمي والمنافسة والجودة والتميز والتفوق، الأمر الذي لا يتوفر في البلد الأم. الأمر الذي يجعلهم يقررون البقاء في الغرب وهكذا تخسر الدول العربية مئات، بل الآلاف من أحسن باحثيها وعلمائها ومفكريها في كل سنة، فالدول العربية تزرع ونظيراتها في الغرب تحصد. وهذا النزيف يعتبر خسارة كبيرة جدا، لأن الدول العربية تخسر النخبة المتخرجة من جامعاتها وهذه النخبة هي التي من المفترض أن تقود الإبداع والابتكار والاختراع وصناعة المعرفة.

التحدي الآخر الذي تواجهه مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي هو الفجوة بين مخرجات الجامعات وسوق العمل، ونلاحظ هنا أن نسبة البطالة في العالم العربي تقدر بـ15% وهذا يعني أن هناك آلاف الخريجين ينهون دراستهم الجامعية ويجدون أنفسهم دون عمل وأن البعض يعمل في وظائف بعيدة كل البعد عما درس في الجامعة وعن مستوى تأهيله. وهذا يعطي انطباعا عاما بأن التعليم الجامعي لا جدوى من ورائه ويفضل الشباب التوجه نحو التعليم المهني أو العمل في سن مبكرة أو الهجرة…إلخ.

ومن المشكلات التي يواجهها التعليم العالي في الوطن العربي التبعية والتقليد ومشكلة الازدواجية اللغوية والهوية، حيث إنه في غياب إنتاج المعرفة والإنتاج العلمي تعتمد الجامعات العربية على ما ينتجه الآخر وفق معاييره وقيمه ومبادئه وأهدافه. فالاعتماد على الآخر وثقافة الاستهلاك والتقليد عوامل تؤدي إلى التبعية وذوبان الهوية الوطنية والثقافة الوطنية في طوفان العولمة التي لا ترحم. إصلاح واقع التعليم العالي والبحث العلمي وصناعة المعرفة في الوطن العربي يحتاج إلى إجراءات تنظيمية وهيكلية ومعرفية جذرية، تتمثل في تغيير الذهنية وتطوير الإدارة وزيادة الميزانية بنسب عالية وإشراك القطاع الخاص في التمويل.

يجب كذلك التنسيق المنهجي والمنظم بين وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم وكذلك التنسيق مع سوق العمل والقيام بدراسات وبحوث واستطلاعات دورية لتحديد الاحتياجات ووضع الاستراتيجيات للاستجابة لها.

قد تأكدت أهمية العلم والمعرفة في حياة البشرية عندما بدأت رحلة آدم من السماء إلى الأرض بالتعلم : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) [البقرة : 31] واستمرت رسالة السماء إلى الأرض في هذا الاتجاه، حتى ختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي بدأت بالقراءة والكتابة والقلم ، ويتأكد نفس المعنى في المقولة المشهورة : إن المعرفة قوة ، ثم جاء تقرير اللجنة الدولية برئاسة ديلور عام 1996م ليؤكد أن الحياة في القرن الواحد والعشرين تعتمد على أربعة أعمدة للتعلم هي : تعلم لتكون ، وتعلم لتعرف ، وتعلم لتعيش ، وتعلم لتعمل .

إن هذه الأنواع من التعلم حين تتم بفاعلية وكفاءة، كفيلة برعاية الكنز الإنساني الكامن والمواهب الإنسانية الخبيئة، وبحسن تنميتها وتوظيفها لخير الفرد والمجتمع والإنسانية .

فالفلسفة التربوية العربية -مثلا- ينبغي أن تستند إلى المنطلقات الفكرية والقيمية الأساسية للفلسفة الاجتماعية العربية الإسلامية الشاملة والمميزة بمكوناتها الرئيسية التي تتمثل في تصورها الاعتقادي تجاه الألوهية والكون وطبيعة الإنسان وطبيعة الحياة والمجتمع عامة، كما تتمثل في تصورها الاجتماعي ، وفي القيم الحضارية للأمـة كالعلم ، والعـدل ، والحرية ، والشورى أو الديمقراطية، والوحدة، والإحسان في العمل ، وبناء المستقبل على نحو أفضل .

ومهمة الفلسفة التربوية أن تعبر عن كل ذلك بصورة شمولية متكاملة ، من حيث الأهداف والهيكلة والنظام والإدارة والمحتوى والمنهجيات والتقويم والمتابعة الخ.

إذن يجب أن تستمد الفلسفة التربوية العربية مقوماتها من أصول الثقافة العربية الإسلامية، ومن خصائص الشخصية العربية الأصيلة، ومن حاجات المجتمع العربي وتطلعاته، ومن واقع التربية العربية نفسها ، ومن حصيلة التجربة العربية والعالمية.

 وكل ذلك يتطلب أن يكون للتربية العربية فلسفة تهتدي بها في تعيين مقاصدها، التي هي الأهداف العامة للتربية. أما الأهداف العامة للتربية فهي مجموعة المواصفات التي تصدر عن الفلسفة التربوية، لتقرر وتجدد وتوضح خصائص الإنسان العربي، عقيدة، وأخلاقا، وفكرا، وسلوكا، ومعرفة، ومهارات. تلك الخصائص التي تمكنه من ممارسة دوره في حياته الشخصية والمجتمعية والإنسانية بإيجابية وفاعليه.

والأهداف التربوية تمثل دليل العمل الذي تهتدي به السياسات التربوية، والاستراتيجيات التربوية، والخطط التربوية في كل المستويات التي تليها في التسلسل المنطقي لمسيرة حركة التربية ومشروعاتها المختلفة.

أما السياسة التربوية ، فهي التي تجسد الأهداف العامة للتربية، وتوضح مواقف الجهات الرسمية والمسئولة عن القضايا المتعلقة بنظام التربية والتعليم ، فتحدد الأولويات التربوية في ضوء السياق السياسي ، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع ، وتعتمد الإجراءات التنظيمية العريضة لمعالجة المسائل المهمة في التربية والتعليم ، وتوجه الاستراتيجية التربوية، التي تكون بدورها أساسا لوضع الخطط التربوية.

أما الاستراتيجية فتعرف على أنها تحديد الأهداف والسياسات الأساسية بعيدة المدى، وتوزيع المصادر وتكييف الأداء لتنفيذ هذه الأهداف.

 فالاستراتيجية التربوية تنبثق عن السياسة التربوية العامة، وتتحدد بموجبها، وتكون مسارا رئيسيا في العمل التربوي ككل ، مسارا محكوما بأفكار وتوجهات معينة، تندرج في سلمها الصاعد من السياسة التربوية، إلى الأهداف العامة، إلى الفلسفة التربوية إلى الفلسفة الاجتماعية الشاملة. وهكذا تقع الاستراتيجية-

من حيث مستوى عموميتها- بين السياسة التربوية والخطط التربوية أما الخطط التربوية فتأتي لتنفيذ الاستراتيجيات التربوية، باختيار أفضل السبل لمجابهة المشكلات التربوية والتعليمية والتوصل إلى حلول متطورة لها، عن طريق المشروعات التعليمية، والمناهج والبرامج التربوية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.