الشيوعي الذي أنار طريق الثورة الإسلامية في إيران / خليل كوثراني
خليل كوثراني ( الثلاثاء ) 12/7/2019 م …
كان يمكن الثورةَ الإيرانية أن تكون «إسلامية»، بلون ثقافي ديني، وبلا كل ذلك الاشتباك المعقّد مع الغرب «الاستكباري» بالبعد السياسي للصراع. الأمثلة وافرة على نماذج من هذا الاتجاه تزخر باتجاهات «إسلاموية» لا تضع مبدأ «الاستقلال» هدفاً ذا بال في تراتبية صياغة الهوية الحضارية السياسية.
هذا «الاستقلال» كان على الدوام حجر الزاوية المائزة لثورة إيران. أسهم في ترسيخه على سلّم ترتيب الأولويات تاريخٌ من الأحداث السياسية في بلاد فارس، أهمها الانقلاب على حكومة محمد مصدّق، وما قبل وما بعد، بموازاة جيل من المفكرين والكتّاب المعايشين، الذين صاغوا مفاهيم في ضوء معاناة الأمة الإيرانية.تعرّف العالم العربي إلى نتاج الأغلبية من هؤلاء، ولو تأخرت عمليات ترجمة الكثير من نصوصهم، كما هو الحال مع شخصيات كشريعتي (تعرّف إليه العرب بعد قرابة عشرين عاماً من انتصار الثورة) ومطهري والخميني، وآخرين. إلا أن نصيب البعض، ولا سيما في المجال الأدبي، ليس بالقدر نفسه، برغم أربعة عقود من انتصار الثورة.
جلال آل أحمد، الأديب والسياسي والمفكر، في مقدمة ذلك الرعيل. إليه يرجع الفضل في إقامة جسر بين الانزياح للهوية الثقافية الخاصة المتمايزة عن الغرب الاستعماري، وبين تسييل ذلك عملياً في أخذ المسافة من هذا الغرب سياسياً وعلى المستويات كافة. يقول مبتكر مصطلح «لوثة الغرب»، إن للابتلاء بـ«وباء التغريب» طرفين: نحن وهم. والـ«النحن»، لدى آل أحمد، ليس الشرق بمفهومه الجغرافي. «أغلب دول أميركا اللاتينية قطعة من الشرق»، وفق جلال. إنه مفهوم أقرب إلى تقسيم الدول إلى شمال وجنوب، معياره الفقر مقابل الغنى، رغم الاتجاه إلى الإسلام بمفهومه العام لدى آل أحمد، لاسترجاع الهوية والعلاج من «التغريب»، وهو الذي عاد إلى الدين بعد استقالته من حزب «تودة» الشيوعي، مدفوعاً بالبحث عن الاستقلال التام الذي لم يجده في علاقة رفاقه الشيوعيين بالاتحاد السوفياتي.
أخرج ردّ الفعل تجاه الغرب، لدى الكاتب، تطرّفاً كاد يبلغ العداوة للآلة والمدنية، حتى اعتبر أن مجتماعتنا متفككة بسبب كونها سوقاً للغرب، تركت الزراعة واتجهت نحو «الإله الجديد»: الآلة الصناعية الآتية من الغرب. «نحن الدول النامية ــ سكان دول المجموعة الثانية ــ لسنا من صناع الآلة، لكن بحتمية الاقتصاد والسياسة وتلك المواجهة بين عالم الفقر وعالم الثروة من الواجب أن نكون مستهلكين مؤدبين ومطيعين… وهذا ما يستلزم منا أن نجعل أنفسنا على مقاس الآلة… كل شيء عندنا بقدر حجم الآلة وطولها»! هذا ما يورده آل أحمد في كتابه الشهير «الابتلاء بالغرب» أو «نزعة التغريب» وفق ترجمات أخرى. ينقل الكاتب عبد الجبار الرفاعي، في تقديمه لكتاب جلال آل أحمد «قشّة في الميقات» (وهو مشاهدات من رحلة إلى الحج)، عن الناقد الإيراني رضا براهني، حول كتاب «نزعة التغريب» أنه «كان له من حيث تحديد واجبات البلدان المستعمرة حيال الاستعمار نفس الدور والأهمية التي كانت للبيان الشيوعي لماركس وإنجلز في تحديد مهمة البروليتاريا إزاء الرأسمالية والبرجوازية، وكتاب (معذبو الأرض) لفرانز فانون، في تعيين ما يجب على الشعوب الأفريقية فعله قبالة الاستعمار الأجنبي، إن (نزعة التغريب) أو الرسالة الشرقية يرسم وضع الشرق مقابل الغرب المستعمر. ولربما كانت الرسالة الإيرانية، الأولى التي اكتسبت قيمة اجتماعية على مستوى عالمي».
ومن النقاط التي يضيء عليها الرفاعي في حياة الرجل أن «حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء أو قبعة الرجال، اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه عداءً كامناً للغرب، ما لبث أن انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية تلفظ كل ما هو غربي»، وهو ما يفسر خلفيات آل أحمد، وتالياً مسار الإيرانيين ما بعد انتصار الثورة.
قضى آل أحمد، في ذروة شبابه (46 عاماً) في عزلة اختارها في كوخ بناه داخل غابات أسالم (شمال إيران)، تاركاً مخزوناً من رسائل إشكالية وروايات أدبية، من دون أن يشهد انتصار ثورته التي أوقد جمرها قبل سنوات. لكن الشعب الإيراني لا يزال ممتنّاً للرجل الذي أسهم بصورة أو بأخرى في صياغة هويته الخاصة، بعد عقد على رحيله مع انتصار الثورة، وهو ما يعبّر عنه المرشد علي خامنئي بوصفه آل أحمد بأنه «وقف على رأس أدب المقاومة».
هذا «الاستقلال» كان على الدوام حجر الزاوية المائزة لثورة إيران. أسهم في ترسيخه على سلّم ترتيب الأولويات تاريخٌ من الأحداث السياسية في بلاد فارس، أهمها الانقلاب على حكومة محمد مصدّق، وما قبل وما بعد، بموازاة جيل من المفكرين والكتّاب المعايشين، الذين صاغوا مفاهيم في ضوء معاناة الأمة الإيرانية.تعرّف العالم العربي إلى نتاج الأغلبية من هؤلاء، ولو تأخرت عمليات ترجمة الكثير من نصوصهم، كما هو الحال مع شخصيات كشريعتي (تعرّف إليه العرب بعد قرابة عشرين عاماً من انتصار الثورة) ومطهري والخميني، وآخرين. إلا أن نصيب البعض، ولا سيما في المجال الأدبي، ليس بالقدر نفسه، برغم أربعة عقود من انتصار الثورة.
جلال آل أحمد، الأديب والسياسي والمفكر، في مقدمة ذلك الرعيل. إليه يرجع الفضل في إقامة جسر بين الانزياح للهوية الثقافية الخاصة المتمايزة عن الغرب الاستعماري، وبين تسييل ذلك عملياً في أخذ المسافة من هذا الغرب سياسياً وعلى المستويات كافة. يقول مبتكر مصطلح «لوثة الغرب»، إن للابتلاء بـ«وباء التغريب» طرفين: نحن وهم. والـ«النحن»، لدى آل أحمد، ليس الشرق بمفهومه الجغرافي. «أغلب دول أميركا اللاتينية قطعة من الشرق»، وفق جلال. إنه مفهوم أقرب إلى تقسيم الدول إلى شمال وجنوب، معياره الفقر مقابل الغنى، رغم الاتجاه إلى الإسلام بمفهومه العام لدى آل أحمد، لاسترجاع الهوية والعلاج من «التغريب»، وهو الذي عاد إلى الدين بعد استقالته من حزب «تودة» الشيوعي، مدفوعاً بالبحث عن الاستقلال التام الذي لم يجده في علاقة رفاقه الشيوعيين بالاتحاد السوفياتي.
أخرج ردّ الفعل تجاه الغرب، لدى الكاتب، تطرّفاً كاد يبلغ العداوة للآلة والمدنية، حتى اعتبر أن مجتماعتنا متفككة بسبب كونها سوقاً للغرب، تركت الزراعة واتجهت نحو «الإله الجديد»: الآلة الصناعية الآتية من الغرب. «نحن الدول النامية ــ سكان دول المجموعة الثانية ــ لسنا من صناع الآلة، لكن بحتمية الاقتصاد والسياسة وتلك المواجهة بين عالم الفقر وعالم الثروة من الواجب أن نكون مستهلكين مؤدبين ومطيعين… وهذا ما يستلزم منا أن نجعل أنفسنا على مقاس الآلة… كل شيء عندنا بقدر حجم الآلة وطولها»! هذا ما يورده آل أحمد في كتابه الشهير «الابتلاء بالغرب» أو «نزعة التغريب» وفق ترجمات أخرى. ينقل الكاتب عبد الجبار الرفاعي، في تقديمه لكتاب جلال آل أحمد «قشّة في الميقات» (وهو مشاهدات من رحلة إلى الحج)، عن الناقد الإيراني رضا براهني، حول كتاب «نزعة التغريب» أنه «كان له من حيث تحديد واجبات البلدان المستعمرة حيال الاستعمار نفس الدور والأهمية التي كانت للبيان الشيوعي لماركس وإنجلز في تحديد مهمة البروليتاريا إزاء الرأسمالية والبرجوازية، وكتاب (معذبو الأرض) لفرانز فانون، في تعيين ما يجب على الشعوب الأفريقية فعله قبالة الاستعمار الأجنبي، إن (نزعة التغريب) أو الرسالة الشرقية يرسم وضع الشرق مقابل الغرب المستعمر. ولربما كانت الرسالة الإيرانية، الأولى التي اكتسبت قيمة اجتماعية على مستوى عالمي».
ومن النقاط التي يضيء عليها الرفاعي في حياة الرجل أن «حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء أو قبعة الرجال، اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه عداءً كامناً للغرب، ما لبث أن انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية تلفظ كل ما هو غربي»، وهو ما يفسر خلفيات آل أحمد، وتالياً مسار الإيرانيين ما بعد انتصار الثورة.
قضى آل أحمد، في ذروة شبابه (46 عاماً) في عزلة اختارها في كوخ بناه داخل غابات أسالم (شمال إيران)، تاركاً مخزوناً من رسائل إشكالية وروايات أدبية، من دون أن يشهد انتصار ثورته التي أوقد جمرها قبل سنوات. لكن الشعب الإيراني لا يزال ممتنّاً للرجل الذي أسهم بصورة أو بأخرى في صياغة هويته الخاصة، بعد عقد على رحيله مع انتصار الثورة، وهو ما يعبّر عنه المرشد علي خامنئي بوصفه آل أحمد بأنه «وقف على رأس أدب المقاومة».
التعليقات مغلقة.