بوح على أبواب دمشق (١ ـ ٢) / علي عقلة عرسان
تضغط علي دمشق التي لا يمكن مجاوزة دَورها وحضورها وتاريخها القريب والبعيد، ولا تجنّب أوضاعها وأوجاعها وما فيها من خناجر تدمي، هذا إذا لم يسر سمها في العروق، وأزمات ومواقف وتكسر الظَّهر.. كما لا يمكن اختصارها بزكريا وبولس وابن عبد العزيز وابن عساكر وابن عربي وصلاح الدين، وآلاف القامات في كل مجال وميدان من مجالات الحياة وميادين العمل والإنتاج، ولا بالسُّور سورها وأبوابه السبعة “بل العشرة”، والجامع الأموي الكبير، والقلعة، والأسواق والخانات والحمامات.. فدمشق أكبر من ذلك وأعظم، وتوغلها في الزمن يجعلها من شواهد الزمن. تأسُرني دمشق وتدميني، وبين الدم المطلول غدرا والمهَراق أسُرا أعيشُ دمشق ولا تعيشني. لكن من قال إن العاشق المتيّم الذي يخيم على باب المعشوقة يطلب الرضا، يَسأل عما يصيبه في أثناء انتظار طال أو يطول، من معاناة ونزف دمٍ مطلول؟! والعشق الحق عذري الروح والقوام والغاية، يكاد صاحبه يذوي عطاءً ويذبُل خجلا، ويتمنى لو تبتلعه الأرض إذا استُشفَّ منه وفيه، نظرا أو كلاما، غَلَثٌ ما يخالط نورَ الروح وصفاء القلب ونقاء الحب، ويكاد يطمس البهاء، ويفسد الغاية، أو يشوه القصد.
بيني وبين دمشق سبعون عاما من المكابدة، وآلاف أخرى من محاولات التوق إلى المعرفة والفهم والهضم والتمثّل، وكلها سنوات وفاء وانتماء. ولا أكاد أشعر بأنني ارتويت أو اشتفيت أو فُطِمت أو شارفت على فِطام، فأنا رضيع معرفة لا يُطَم.. وليس ذلك لنهم، أو كسل في أداء، أو انكسار في إرادة، فما بذلْته من وقت وجهد لمعرفتها وفي رحابها من عمل يربو بتقدير الأعمار على عمر نسور لقمان بن عاد، بدأب نمل عملاق الصبر، وما حَمَلتُه وحُمِّلته من ذلك وبسببه، تنوء به العصبة أولو العزم.. ولم أفعل ما فعلت، ولا أفعل ما أفعل، لكي أفوز برضاها.. فالعشق بذل لا حدَّ له ولا ثمن، وصاحبه لا يؤجر عليع بالمعنى المادي خاصة.
هي تشتعل في قلبي فتشعلني، بوتقَة من حديد وتراب وضياء وحنين ونشيد تغلي أغدو.. وتمتد أمامي من سجون العدم إلى قبور القيم وأناشيد القِمم، حيث أردد فيها: “الله أكبر”، مع ابن الوليد وابن الجراح على بابيها باب الجابية والباب الشرقي، ومن أشد “موطني.. موطني”، و”من قاسيون أطل يا وطني”.. و”شآم أهلولكِ..”.. و”يا شام أنت الفخار.. “.. أردِّد ولا أملُّ ولا أقنط.. وألتصق بها لأن الشام معتَصَم قلب، ومستنبَت حلم وأمل، وبيت إرادة أمة ومجد تاريخها، ولأنها رمز الوطن وعنوانه، وحبُّ الوطن من الإيمان.
من يسأل دمشق تجبه، ومن يبحث فيها يجد فيها كل شيء تقريبا، من المادي إلى الرُّوحيِّ، من الخشب إلى السوس، من القومي إلى ضده، من المنتمي إلى المُنْبَتِّ، ومن الناثر دمه دفاعا عنها إلى العابث بذلك الدم والمتاجر به.. ممّا يلهِبُ ويهبِل، ممَّا يتيه بالذات عشقا وفخرا إلى ما يحبطها عقما وحسرة، “ماديا ومعنويا”.. وفي دمشق ما لا أستطيع حصره ولا أريد فطلب المستحيل تخييلٌ وبيل.
حين أذهب منها إلى حدود جبل الشيخ وأنظر جفون الأرض المقرّحة بمواقع المحتل هناك، أود لو أدفن نفسي في التراب، فأرفض الاندثار، وأعود إليها حاملا سيفا، أجول وأصول، فتندهش مني عيونٌ وتسخَر مني أخرى، فأنظر إليَّ فإذا سيفي من خشب يشقَعُ منه الدم، وإذا دمي من قَطِرانٍ يرهقني نَصَبا ويشعلني لهبا؟!.. أذهب إلى كل الجهات ثم أعود، أعود إليها وأعاودُ العَود، وكيف لا أعود إليها.. أفلا يقصد الطائر عُشه في العاصفة؟! أعود إليها لأنها الأمل في الخَلاص، والعاصِمة والمُعتَصَم، ولأنه ليس لي سواها ولا أريد أن يكون لي سواها.. وعند مداخلها وفي حواريها أشعر كأنني أتجوَّل تحت راية الشهداء وهم هناك زَهوة الفضاء، ويلاقيني من عاش حياته استبسالا وما زال في جراحه بعض الملح، ومَن عاشها استنفارا يحكي ويطيل الشرح، ومَن يعربد على مدار الساعة في ملاهيها، ويتاجر بأهاليها وبكل شيء فيها، ويمُنّ عليهم بأنه يتاجر بِهم من أجلهم، وأنه يستبد به حبهم إلى حد أن ينطبق عليه القول: “ومن الحب ما قتل”؟! وألقى مَن يمشي منتفشا، ومَن يمشي مرتعشا، ومَن يغرِّد في مغانهيا، لا أعرف لماذا وبماذا.. وأحار مما أنا فيه، وما تستره وتبديه، ومما فيها من مُتضادات ومُتناقضات، تمتد بين ضفتي: عِزّةٍ وصمود، وإرادة حرّة مُحرّرة من حديد، وبئرٍ مُعَطَّلَة وقصرٍ مَشيد، ومما يشيع في بعض أوساط الناس من بؤس، ومن تخلُّقً بأخلاق العبيد.. فيهجُم عليَّ قولٌ، أخالُ أنه مِن نفحِ أَحْمَدَ الذي قال: “إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مَكارمَ الأخلاق”، صاغه في الزمن القريب “الشوقي أحمد”، صاحب “ريمٌ على القاعِ بينَ البَان والعَلَم”، وأن قوله ذاك الهاجمُ عليَّ هجوم العُقابان والعَسَس، يَوجُّ ويهيجُ ويضجُّ:
وإنَّما الأمَمُ الأخلاقُ ما بَقيَتْ
فإن همُ ذَهَبَتْ أخلاقُهم، ذَهبوا
ولأنني أربأُ بمعشوقتي دمشق عن أن تبعث على القنوط والحسرة، أتوقف فيها عند التجدد البناء، عند البناء الذي قد يلحقه هدم ودمار وردم، لكنه يُعاد ويُزاد فيه وينمو ويزدهر.. أتوقف عند جسر لا تتوقف فيه الحركة، يمتد ويمتد ويمتد.. يأخذ فيه الحاضر بناصية الماضي ويشد المستقبلُ رأس الخيط، ويستمر النسيج.. إنه دمشق التراث، بالمعنى الأشمل لتاريخ دمشق، ولأبعاد التراث وتنوعه ورموزه. وعندي أنَّ دمشق والتراث حالتان من تفجّر العشق وعناقه، تخطران معا وتتماهيان، وتتسربان في متون الأرض والوقت والقلب، من شفق الفجر إلى تَناومات الغَسَق، ولا تنفكان عن الحضور وتفعيله في الوجود.. تجمعان المدى والزمن عند عتبة القلب ليزداد بصيرة وإبصارا وعبرة واستذكارا.. ولكن ماذا يتذكر العاشق وكيف؟
إذا ذكرت دمشق ذكرت التراث، وإذا ذُكر التراث برزت لك دمشق بألف حُلَّة قشيبة وحُلّة، وبألف ذؤابة مَليسة وذؤابة، بينهما وجه جميل أصيل يعمق فيك معنى الحياة وحبّها، ويقيمك معافى في أرض “البساتين والحمَّامات والشهوات”؟ أرض الغوطتين والنيربين وبردى، بين ماء وثَمر وقَمر.. فتسأل هل تُرى بقي في الشام من الغوطتين والماء والثمر والقمر شيء؟ في ظني العزيز “بَردَى” ممتقع الوجه، نحيل القامة حزين، يمتد كخيط ذاكرة زاهٍ بين المَنبع وبحيرة الجَبُّولِ شرق دمشق، ويبكي من حسرة على ذاته، ومن عجزٍ عن “إسقاءِ العِطاش”، وعن إهداء الطبيعة والناس بهجة الرَّبيع وثمار الصيف.
لا أعرف بداية موفقة تكون مدخلا طيبا إلى هذه الدارة البهيّة، دارة دمشق ـ التراث، تجمع بين الحلم البهي والوجع الممضّ، بين ما كان وما يشكل مرآة الزمان الآن.. وربما لهذا السبب أسلمت قياد نفسي للعشق، يُرَجِّحُني في مغانيها على هواه، ويريني منها ما يحب أن أراه.. فأنا المأخوذ من ناصية القلب بعشق مدينة، والعشق داءٌ قَتّال، وفي مثل حالتي هذه يسقط كل عتب ولوم.. فعين الرضا عن كل عيب كليلة.
إن قلت متى بدأ تاريخ المدينة: هل مع الآراميين أم من قبلهم بعقود وقرون؟ فلا أصل إلا إلى ضمائم من تراث تشمخ به جبهة الحجر، وتسجله أساليب تسجيل البشر، يقول: “منذ ما قبل التاريخ المكتوب كان لدمشق تاريخ”. وإذا قلت إنها تعاصر الآموريين وتعتصرهم في خوابيها، وتمتد إلى ما يقرب من زمن السومريين والأكاديين والبابليين والكنعانيين، نهضت التلال الآثارية المحيطة بها ـ تَلْ الغُسُول وسواه ـ محتجة على الإجحاف والتجاهل، معلنة حرب الوثائق على الظلم والجهل، رافعة أشرعتها المتماوجة في بحر الزمن، لتؤكد تواصل التاريخ الحضاري للمنطقة وامتداده، من الخطوات الأولى للاستقرار البشري “الحضاري” في سهل نَطُوف ـ قرب أريحا ـ في الألف العاشر قبل الميلاد، وامتدادا إلى “تَلْ حلف” في الشمال الشرقي من سوريا، بين الشام والعراق.
وحين يعجز المرء عن تحديد البدايات، ويتجاوز تلك العقبة الكأداء، أو يقفز فوقها، سالكا مع الزمن طريقه الطبيعية الهيّنة، ملتمسا في التاريخ ما يحدده حرفٌ مكتوب، وظلٌ بشري مسكوب في نقش وعمارة وإنجاز وشكل من أشكال الحضارة، يجد نفسه بين لمسات وبصمات وإشارات ومعطيات، تمتد من الكتابة المقطعية المسمارية إلى أبجدية أوغاريت، ومن هذه الأخيرة إلى دوامة هذا العصر وفضاءاته، ويجد في كل ذلك تسجيلا وتوثيقا وتحقيقا لتلاقح حضاري مع الحضارات والأمم والأقوام في “العصر اليوناني القديم، والهلنستي، والروماني، والبيزنطي.. على أرضية الكنعانية والآرامية والسريانية والنبطية والتدمرية”، مُغشَّى بأصالة أهل المنطقة الذين شَرَّشوا فيها، ولم يخرجوا في تكوينهم وانتمائهم ونسيجهم السكاني والاجتماعي والثقافي، عن دائرة الأمم والأقوام التي نبتت من الأرومة العربية أو على جذعها أو ورثتها، سواء أكانت من العرب الذين شرَّشوا في المنطقة منذ القدم، وتفاعلت فيها عطاءاتُهم ولهجاتهم و”شَفتهم”، وقيل لغاتُهم، أو تفاعلهم في أثناء تواصلهم مع الآخرين في جولانهم وجولاتهم وهجراتهم الداخلية في الجغرافية والبيئة العربيتين الممتدتين في مستنبت الحضارة القديم، الذي يضاهي الفرعونية القديمة ويجاورها ويحاورها ويأخذ منها ويعطيها، ويكوِّن معها أرض العالم القديم وسقفَه والفضاء الذي بين الأرض والسقف.
وهم يتفاعلون مع الحضارات والأمم والثقافات فيأخذون ويعطون بثقة وتفتح، وتبقى لهم شخصيتهم ودمشقيتهم بوصفها العاصمة الأقدم والأعرق “لسوريا الطبيعية ـ بلاد الشام”، يلونون بها الحضور، ويبقى لهم حضورهم الذي يمتد ما امتد بالإنسانية تاريخ وحضور، إذ التاريخ تواصل بشر وتفاعلهم.. سواء باتجاه الشرق حيث كان زهو الفرس ومجدهم وحضور الهند والصين، أو باتجاه الغرب حيث أعطت الفتاة السورية “أوربة” أخت “أجينور”، ابنة الكادميّين “القدموسيين” وسليلتهم حسب هومر وهيرودوت.. أعطت للقارة الجديدة “العجوز الآن” اسمها أوروبا، وحيث هاجر إليها من نسل “الكادميين ـ الصُّوريين نسبة إلى مدينة صُور، الكنعانيين أو الآموريين” أي “العرب الغربيين” عامة.. هاجر أقوامٌ ساهموا في إقامة دعائم حضارة وثقافة لم تكونا بعيدتين بحال من الأحوال عن تأثير هذا الجزء من أرض البشر الذي كان مهد الحضارة ولم يكن مجرد ملتقى للحضارات، كما يحب بعض الغربيين أن يقرر أو يوحي أو يقول.
وهذا هيرودوتس يعيد لهذه المنطقة من العالم فضل نشر الميثولوجيا القديمة في اليونان ومن ثمة في الغرب كله، فيقول: [[ وأنا أقرر الآن أن ميلامبوس MELAMPUS ـ بمعنى الأسود القدمين ـ ذلك الرجل الحكيم الذي أوجد العَرافة، قد تعلَّم من المِصريين أشياء عديدة مختلفة، نقل منها إلى بلاد اليونانيين ـ بعد تعديل طفيف ـ ما يختص بديونيزوس، وأنا لا أومن مطلقا بأن الاتفاق بين شعائر ديونيزوس في مصر وفي بلاد اليونان وليد المُصادفة، وإلا لانسجمت هذه الشعائر مع طباع اليونانيين، وما كان دخولها عندهم حديث العهد. ولن أقول أبدا إن المِصريين نقلوا هذه الشعائر عن اليونانيين، لا هي ولا غيرها من العادات، ولكن من المُحتمل جدا ـ كما يخيل إليَّ ـ أن ميلامبوس تعلم هذه الشعائر من كادموس الصُّوري، ومن أولئك الذين هاجروا معه إلى البلاد التي تسمى حاليا: بيؤوسيا]]- هيرودوتس يتحدث عن مصر- ص149-150، ترجمة: د. محمد صقر خفاجة- دار القلم بالقاهرة- 1966.
التعليقات مغلقة.