مؤتمر وارسو مؤامرة لتغيير بوصلة الصراع / مهدي مبارك عبد الله
في محاولة أمريكية جديدة تدل على مستوى التخبط وقصر النظر السياسي والبعد عن الحيادية والنزاهة تستمر إدارة الرئيس ترامب بالانحياز الأعمى والدعم المتعصب للكيان الصهيوني الغاصب في ظل حالة من الإرباك الشديد الذي تعانيه على ارض الواقع حيث عقد بالأمس في بولندا مؤتمر وارسو الذي يعتبر سلسلة متقدمة من حلقات صفقة القرن بدعوة من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو شاركت فيه عدد من الدول تحت شعار مموه “تعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط ” ومواجهة النفوذ الإيراني المزعزع والهدام للاستقرار في الشرق الأوسط ومحاولات باطنية أخرى لتخويف العرب من ما يسمى بالخطر الإيراني وتحريضهم للانخراط في هذه الصفقة وتأمين التغطية المالية المطلوبة لاستكمال فصولها ومن ثم حشد وتوسيع وتنظيم حلفاء أمريكيا في أوروبا والشرق الأوسط وخلق أجندة صراع دبلوماسي متواصلة لزيادة الضغط على إيران لوقف أنشطتها النووية وتدخلها في المنطقة وإلغاء برنامجها للصواريخ البالستية وبناء إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، تقوم على تعزيز الدعم والتفوق الإسرائيلي المطلق في المنطقة وعدم السماح لأي قيادة فلسطينية بالتدخل أو المشاركة وفرض الحصار عليها وتهميشها بعدما منعت أمريكيا المصارف الدولية من التعامل مع السلطة الفلسطينية واقتطاعها من المساعدات المالية ومخصصات الاونروا بهدف ارضاخها وتدميرها حيث تعمل إسرائيل بقيادة نتنياهو بالاستفادة من وجود ترامب كحليف مختلف عن كل الرؤساء الأمريكيين السابقين وتحاول بوجوده انتزاع مواقف جديدة لتصفية القضية الفلسطينية وقد رأى المؤتمرون في وارسو أن هذا التجمع يعتبر فرصة مناسبة لاستعراض وحدة الصف كرد قوي ومباشر على نظام إيران الديني الذي يحتفل بمرور 40 عاما على إطاحة الشاه محمد رضا بهلوي الدكتاتور الذي كان مقرب من الغرب وإقامة الجمهورية الإسلامية ولم يشارك وزيري خارجية المانيا وفرنسا مما يشي بوجود انقسام داخل الاتحاد حول سياسات وقرارات ترامب وقد رفضت روسيا المشاركة أيضا لأنها لا تثق بترامب ونتنياهو وتتّهمهما بالعنصرية والكذب والخداع وهي ليست مستعدّة لتوريط نفسها في أحلاف ومغامرات أمريكية إسرائيلية مشبوهة في الشرق الأوسط وهنالك اعتقاد كبير بأن اختيار مكان انعقاد المؤتمر في العاصمة البولندية وارسو هو جزء من خطة أمريكية خبيثة لشق صف الدول الأوروبية التي مازالت تحاول الاحتفاظ بالاتفاقية النووية مع إيران وتؤمن بإمكانية حل الصراع بطرق تفاوضية
ورغم أن الاجتماع يجري في نطاق الاتحاد الأوروبي لكن يبدو إن أمريكيا لن تنجح في كسب تأييد أطراف جديدة لصالحها خاصة وان بعض الدول الكبرى في الاتحاد خفضت تمثيلها باستثناء بريطانيا التي أوفدت وزير خارجيتها جيريمي هانت الذي أشار إلى أن أولوياته تتمثل بالتطرق إلى الأزمة الإنسانية التي تسببت بها الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن إلا إن نتانياهو أوضح في غير مرة وبصورة استفزازية أن إيران ستتصدر جدول الأعمال وستجرى مناقشة كيفية مواصلة منعها من ترسيخ وجودها في سوريا ومنع أنشطتها العدائية في المنطقة بالقوة العسكرية المشتركة والأهم منعها من الحصول على أسلحة نووية وهو ما يتفق مع نظرة واشنطن أحادية الجانب المبالغ فيها اتجاه إيران كمصدر للشر كله في المنطقة والتي تعارضها الكثير من الدول التي ترى أن النفوذ الإيراني في المنطقة يشكل جزء من الحل وليس أصل المشكلة وأن إيران لا زالت ملتزمة بشروط الاتفاقية النووية وان إصرار الرئيس الأمريكي على الانسحاب منها العام الماضي بعد وصفه إياها بـالرديئة وأعادته فرض عقوبات تهدف إلى خنق اقتصاد إيران والحد من نفوذها الإقليمي لم يكن قرار سليما ولا موضوعيا وقد قوبلت الدعوة الأمريكية لهذا المؤتمر بفتور واضح من قبل بعض الدول الفاعلة في السياسة الدوليّة كروسيا والاتحاد الأوروبي وغيرها والتي تعارض سياسات إدارة ترامب العنصريّة الاحتوائيّة في التركّيز على أمريكا أولا ولهذا حاول الدبلوماسيون الأمريكيون التلاعب بجدول أعمال وأهداف المؤتمر لإقناع المزيد من الدول بالحضور فقد أعلنوا أن المؤتمر سيبحث مجموعة من القضايا الدولية الهامة منها الوضع في إيران وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط والأزمة السورية وحرب اليمن ولن يركز على الإرهاب الإيراني فقط كما ذكر بومبيو سابقا لكن النتيجة كانت مخيبة لآمالهم لأن عدد الدول التي حضرت كانت دون المطلوب مقابل عدد الدول التي وجهت إليها الدعوات ولم تستطيع إدارة ترامب إقناع السلطة الفلسطينية بالحضور ولن تكون قادرة على إلزامها بأي اتفاق أو نتائج تصدر عن المؤتمر في الوقت الذي لا تزال فيه ممتعضة من قرار ترامب التاريخي في 2017 الاعتراف بالقدس المتنازع عليها عاصمة لإسرائيل وان المؤتمر لا يعني الفلسطينيون لأنه يعمل على إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة وإجهاض القضية الفلسطينية من خلال خطة سلام كوشنر التدميرية والتي تعرف بصفقة القرن المشئومة والتي رفضها الفلسطينيون بتأكيدهم المستمر على أنهم لم يفوضوا أحد للحديث باسم فلسطين إلا الشعب الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير ولا يمكن لأحد أن يوقع على تسوية سياسية غير عادلة ولا ممكنة في مستقبل أجياله وإنهم يرون في المؤتمر دعوة مشبوهة لإملاء وجهة نظر الإدارة الأمريكية في الشق الاقتصادي من صفقة القرن وتمويل تصفية القضية الفلسطينية بأموال وهبات الدول العربية الشقيقة فالولايات المتحدة لم تعد راعيا مقبولا لآي بحث للقضية الفلسطينية طالما ما زالت القدس من وجهة نظرها عاصمة لدولة الاحتلال وطالما ترامب مازال متمسكاً بصفقته وطالما هذا الانحياز الكامل لدولة الاحتلال الصهيوني مستمر إما نتنياهو فقد وجد في المؤتمر ضالته للقاء بعض قيادات الدول العربية التي تقيم علاقات سرية وعلنية مع دولة الاحتلال وإظهار البسمات والتصافح والود والفرح إمام عدسات المصورين
أمريكا وإسرائيل تسعيان إلى استغلال هذا المؤتمر الذي سيحضره نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الى توجيه رسالة للدول الأوروبية التي رفضت قرار ترامب بالانسحاب من الاّتفاق النووي مع إيران ومواصلة الضغط على الدول العربية وابتزازها بمقايضة التستر على قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان وحماية أنظمتها مقابل المزيد من العلاقات والتطبيع مع إسرائيل وهذا ما يؤكد ان المؤتمر صهيوني الوجه والإعداد والإخراج يهدف قبل كل شئ إلى كسب وتأييد أكبر عدد ممكن من دول العالم لسياسات أمريكا العنصرية وإلى دعم إسرائيل وضمان أمنها وإخضاع الأمة العربية للإرادة الأمريكية الصهيونية في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومشاريع التصفية القائمة
لقد رفضت أمريكا مرات عديدة جميع المحاولات التي بذلت في السابق لعقد مؤتمر دولي شامل لحل الصراع العربي الإسرائيلي فلماذا بادرت الآن بالدعوة لعقد هذا المؤتمر الجزئي وادعت بأنه سيناقش مشاكل الشرق الأوسط لكنه لم يتطرق للقضية المركزية حل الدولتين الذي يطالب به الفلسطينيون عدالة وترفضه إسرائيل ظلما ولماذا لم تدعى تركيا مثلا لحضوره أليست هي دولة شرق أوسطيّة هامّة وعضوا في الناتو أم هل تخشى أمريكا وإسرائيل حضور رجب طيب أردوغان المؤتمر وفضح أهدافه المشبوهة وماذا يعني غياب طرفي الصراع المفروض على جدول إعمال المؤتمر فلسطين وإيران إضافة إلى العديد من الزعماء والرؤساء ووزراء الدول الأوربية والعربية وقد أحسن وأجزل التعبير جلالة الملك عبد الله في وصف أجندة المؤتمر مسبقا في لقاء مغلق بأنها لا تقدم بوضوح أي جدول أعمال لإنهاء الاحتلال وأكد بأن الأردن لا يؤيد أن يكون التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة هو أولوية على جدول أعمال المؤتمر بل ينبغي ان تكون الأولوية حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني واستئناف المفاوضات والعودة الى إحياء عملية السلام وقد قرر جلالته عدم المشاركة شخصيا في هذا اللقاء المثير للجدل واقتصار التمثيل على مستوى وزير الخارجية بسبب وجود تحفظات أردنية مشروعة اذ يعتبر الأردن نفسه ليس معنيا بتاتا بالتوصيف الذي أطلقه بومبيو على جدول إعمال المؤتمر وقد دعمت عمان الخيار الفلسطيني في مقاطعة المؤتمر والمطالبة بإعادة تعریف مفهوم العدو وعدم اعتبار الخطر الإیراني المزعوم أكثر أهمية من الاحتلال الصهيوني الغاشم والذي سبق في إجرامه وقتله وقهره للمدنيين واعتقالهم وتدمير بيوتهم واحتلال أراضهم وتشريدهم منذ عام 1948 وحتى اليوم وقبل ظهور إيران الإسلامية عام 1979على مسرح الوجود وقد عبر سياسيون ومسئولون أردنيون عن مخاوفهم من ان تتحول فعاليات المؤتمر إلى مناسبة استعراضية لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو وقيادات إسرائيلية وعربية تخدم التقاط الصور التذكارية والإعلامية المشتركة واغفال التنسيق العربي الجماعي او المطالبة بإعادة إحياء عملية السلام وتفعيل المبادرة العربية وقد برر الأردن مشاركته في المؤتمر رغم أنه لا يتوافق مع رؤية واشنطن في العلاقات مع إيران وصفقة القرن حيث حضر لتأكيد موقفه الثابت بأنه لا سلام ولا استقرار في المنطقة بدون تلبية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في الحرية وإقامة دولته على ترابه الوطني وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران 1967و للتأكيد على المواقف الأردنية الثابتة والراسخة حول سبل التعامل مع تحديات المنطقة وان القضية الفلسطينية هي أساس الصراع وانه لا خطر أكبر من بقاء الاحتلال وانعدام آفاق زواله
المطلوب حالياً رفض استمرار الانفراد الأمريكي بترتيب أوضاع المنطقة ليس فقط في الجانب الفلسطيني فحسب بل في موضوع إيران وسوريا والعراق ومحاولتها خلق عدو وهمي للدول العربية متمثلاً في إيران ثم إلزامها الذهاب لمؤتمر دولي تشارك فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن مع توسيع قاعدة المشاركة العربية والإقليمية على أساس تنفيذ القرارات الدولية وليس الدعوة الى مؤتمر وارسو المصغر والمنزوي الذي خفض مستوى بحث القضية الفلسطينية إلى مجرد مسألة إنسانية وخدماتية والعمل على مواجهة المؤامرة الأميركية الإسرائيلية التي تحاك في الخفاء تحت مسمى “صفقة القرن” والتي تسعى إلى شرعنة الاحتلال و شطب قضايا الحل النهائي والتشديد على تحقيق المصالحة الوطنية بين غزة ورام الله والتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً ودعوة كل أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وكل أحرار العالم المؤمنين بالحق والعدل للاعتراف بالدولة الفلسطينية والتصدي لجميع المخططات الآثمة وفي مقدمتها صفقة القرن الأمريكية الإسرائيلية التي تستهدف حقوقهم الثابتة وتصفية قضيتهم العادلة لصالح الاحتلال الإسرائيلي الذي يعرقل كل محاولات الوصول إلى تسوية عادلة وشاملة لتحقق السلام في المنطقة
التعليقات مغلقة.