باريس .. أعتذر عن البكاء .. ولا أخجل / نارام سرجون
نارام سرجون ( سورية ) الأحد 11/1/2015 م …
أعتذر للشعب الفرنسي فرنسيا فرنسيا وفرنسية فرنسية .. بل وأعتذر من برج ايفيل من رأسه حتى أخمص قدميه العريضتين ..
وأخص بالاعتذار السيد فرانسوا أولاند وقبله السيد نيكولاي ساركوزي وجاك شيراك .. وأتمنى أن أدق على الأبواب في باريس بابا بابا لأعترف أمامها اعترافا يشبه الخطيئة .. لأنني أحس أن مشاعري خذلتني هذه المرة .. ولأن عيوني ليست لتمساح لتمثل البكاء الزائف ..
اياكم أن تعتقدوا أن اعتذاري هو عن حادث شارلي ايبدو وماتبعه من حزن فرنسي لأنني لست مسؤولا عنه ولايد لي فيه ولاسلطة لي عليه أنا ومئات الملايين في هذا الشرق الذي ملأته الثورات العربية الربيعية التي صنعها ابن فرنسا البار برنار هنري ليفي وشركاه ..
انني أعتذر لأنني لاأستطيع أن أنضم الى حفلات البكاء والشهيق والعويل .. ولاأقدر أن أقف دقيقة صمت مطاطئ الرأس حزنا .. وليس عندي ثياب سوداء وربطة عنق داكنة أرتديها في هذه المناسبة الحزينة .. وسأعتذر أيضا لأنني لن أكذب على نفسي ولن أمارس التقية والنفاق .. وسأقول بأنني لست قادرا على الاحساس بالحزن لما جرى في باريس .. ولن انضم الى مهرجانات العويل والتفجع .. ولن تخيفني اصوات تطلب مني أن أخفي برودتي وتنذر بالويل والثبور كل من لم يحزن علنا ويشق ثوبه ..ولن اكترث بملاحقة شرطة الأخلاق الحضارية لي التي ستأخذني الى التحقيق بتهمة أنني “من الأجلاف” الرعاع .. والمتخلفين حضاريا ..
لاتأخذوني أيها القراء الى محاكم الضمير والانسانية .. ولاتتدافعوا لنيل شرف اقتيادي الى محاكم التفتيش التي تفتش على كمّ الدموع وتتفقد الأحزان في الصدور .. ولاتستعجلوا رجمي بما لديكم من ترسانة الأوصاف المقيتة التي تزخر بها قواميس العالم الحر .. ولاتلقوا على وجهي حجارة تدميه كحجارة الثوار على وجه امرأة .. وعلى كثيرين أن يتذكروا قبل رجمي أن يقولوا لانفسهم: من كان بلا خطيئة فليرجم .. فخطيئتي هي أنني لاأحس أنني مذنب اذا لم أبك على الضحايا الفرنسيين ..
اياكم أن تعتقدوا أنني بلا قلب وانني صرت وحشا من الوحوش الطليقة الثورية الذين أثبت التشريح أنهم أجساد لاقلوب لها ولاعقول .. لكن الحقيقة هي أنه ليس لدي فائض من الحزن أتبرع به لأحد .. فلقد شربت كل ماأعطاني اياه الله من أحزان في أقداح الزمن الثوري حتى آخر قطرة .. فأحزاني على ضحايانا تأكل أحزاني على ضحايا العالم حتى لم يبق عندي قدرة على أن أحزن .. وقد اعتقلني الحزن منذ أربع سنوات وضربني جلادوه حتى تقطعت أوصالهم .. وأوصالي .. وحتى صارت أحزاني تغتسل بأحزاني .. ونيراني تغتسل بنيراني .. ولم أعد قادرا على ان أعرف حزنا آخر بعد أحزاني ..
لاأدري كم بقي من الحزن في صدورنا كي نشارك هذا العالم أحزانه .. ولاأدري كم ترك لنا هذا العالم “الحر” من الحزن كي ننفقه في مناسبة كهذه بعد ان سلبنا كل مالدينا من قهر ودمع .. ولاأدري ان بقي ماء في عيوننا التي يبست لنعطي العالم شيئا من الدمع .. ولاأدري ان بقيت في قلوبنا شجيرات و ورود .. أم حطب وجحود .. وغضب ورعود ..
هل ستحزن باريس مني ان لم أذرف دمعي وهي التي لم تذرف دمعا عندما شاهدتني أموت عشرات آلاف المرات وهي تصفق لحرية الموت .. وشاهدتني أذبح من عنقي أمام العدسات مئات المرات فباركت موتي كما تبارك القرابين .. وشاهدتني أحرق حيا .. وادفن حيا .. وأصلب حيا .. وتموت ذاكرتي ومتاحفي .. رأتني أتشرد وأصبح من سكان الخيام .. ورأتني أمزق السماء بأظافري عندما كانت تباع أساور أمي وضفائر أختي وشفاه حبيبتي للزناة .. باريس يدها ملطخة بدمي .. وضفائر أختي لاتزال معلقة على جدران مدن الملح بسببها .. وشفاه حبيبتي لاتزال مرمية على أرصفتها .. وأشلائي لاتزال عالقة بمخالبها ..وصوتي لايزال يتقطع بين أسنان باريس كشريحة لحم .. باريس ضحكت من ألمي وشربت الدم من نبع قلبي في أنخاب الثورات وكؤوس الفصل السابع .. وابن باريس هنري ليفي كان يدفن مدنا لي بأكملها .. ويحول دولا الى مدافن عملاقة وحقول للصيادين الذين لايصيدون الا البشر .. وبرنار الباريسي هذا غسل أحداقنا بمشاهد الدم حتى مات فينا بريق العيون وماتت أشجار المشاعر ..
رغم أنني لم اقدر على البكاء الا انني أعرف أن الضحايا الفرنسيون بشر .. مثلنا .. ولهم عائلات مثلنا .. ولهم أحبة وأصدقاء مثلنا .. وهم مثلنا ضحايا دولتهم .. وضحايا برنار هنري ليفي الذي يدير طواحين الموت في الشرق .. وحقهم علينا أن نترحم عليهم ونرحمهم من برودة الطقس في أرواحنا وعواصف الثلج في صدورنا .. وأن نبحث في زوايا ومنحنيات صدورنا عن ثمالات الحزن الذي لم نستعمله بعد لنلقي به وردا على قبورهم .. وان نبحث عن الوجوم كي نستعيره ونحن ننظر في وجوههم واسمائهم .. نريد ذلك كي نبقى بشرا ..وكي نحافظ على الأرواح فينا .. وكي نتمكن من أن نبكي في صلواتنا كما كنا نبكي عندما كنا نسمع أذان الفجر وتكبيرات العيد .. نريد ذلك الحزن أن ينمو من جديد .. لينمو الحب فينا أكثر .. وكي لايحرز برنار هنري ليفي أول نصر علينا ويحتفل مع ثواره بأنه حولنا الى بشر منحوتين من حجر أصم أبكم ..لتسير التماثيل في شوارعنا ولتعيش الأصنام في بيوتنا ويتحول الياسمين في شوارعنا الى منحوتات حجرية بدائية على شبابيكنا ..
هل أقول لك ياباريس كلاما قاله بدوي الجبل لك منذ سبعين عاما عندما كنت تحتلين دمشق .. فوقعت يومها بنفسك ضحية لاحتلال نازي أبكاك؟؟ .. لقد عاد بنا الزمن ياباريس لتسمعي نفس الكلام الذي قاله شاعر سوري جرحت روحه من مخالبك .. وهذا اليوم تذوقين فيه شيئا يسيرا جدا مما ذقناه ..
اسمعي ياباريس ماذا قال بدوي الجبل عندما دخل النازيون غرفة نومك .. وداسوا قبر نابوليون .. فلعلك تتعظين وتستفيقين .. وأشك أنك ستفعلين ..
قال الشاعر السوري:
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها ….. هلا تذكرت ياباريس شكوانا؟؟؟!!
لعلّه تبعث الأحزان رحمته …… فيصبح الوحش في برديه إنسانا
والحزن في النفس نبع لا يمر به …. صاد من النفس إلا عاد ريانا
والخير في الكون لو عرّيت جوهره ….. رأيته أدمعا حرّى وأحزانا
التعليقات مغلقة.