يوميات نصراوي: عبد الناصر في موسكو / نبيل عودة
نبيل عودة ( فلسطين ) الخميس 30/7/2015 م …
في نهاية كانون ثاني1970 ، كنت اعالج في احد مستشفيات موسكو بسبب تعرضي للسعات البعوض وهو مستشفى معروف بانه الأرقى في موسكو ويسميه البعض “مستشفى اللجنة المركزية” اذ كان لكبار المسئولين وضيوفهم من الأحزاب الشيوعية او من الدول الصديقة.
وانا كنت ضمن الضيوف (رغم اني تحت صيغة طالب) الذين يدرسون بالمدرسة الشيوعية الدولية ( معهد العلوم الاجتماعية باسمها الرسمي) وكنا نتلقى معاشات كبيرة جدا ، تتجاوز معاش طبيب مختص.
بالطبع كنت أتحدث بشكل لا باس به باللغة الروسية..
وصل للمستشفي عضو وفد مصري رفيع المستوى، كان يعاني من أوجاع قاسية في معدته. طُلب مني ان أساعد في الترجمة أثناء فحصه. فيما بعد جلست معه جلسات طويلة ـ كنت متعطشا لأفهم واقع مصر من مصدر رسمي، تحدث بصراحة وفوجئ بان العرب الفلسطينيين في اسرائيل لديهم القدرة على الصمود.. تصفح مجلة “الجديد” التي كان يحررها محمود درويش، وصحيفة “الاتحاد” التي كان يحررها اميل حبيبي معبرا عن إعجابه الكبير، واخذ بعض النسخ.
فهمت منه خبرا سريا بان جمال عبد لناصر متواجد الآن في زيارة لموسكو، اذ ذكر بالصدفة انه وصل مع سيادة الرئيس عبد الناصر في زيارة عمل هامة، قلت ان الصحافة الروسية التي أتصفحها يوميا لم تعلن عن زيارة لعبد الناصر الى موسكو..؟ وعبد الناصر بالنسبة للسوفييت ليس مجرد رئيس دولة، بل شريك دولي استراتيجي من الدرجة الأولى ، فكيف لا يرحب به كما في المرات السابقة بشكل حماسي وتغطية إعلامية تشمل كل وسائل الإعلام السوفييتية؟
سألت:هل هي زيارة سرية لترتيبات لها أهمية سياسية وعسكرية بكل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط؟
انتبه الى نفسه، وشعرت بانه ارتبك بشدة، حاول تضليلي بأنه وصل مع وفد لإعداد زيارة للرئيس ناصر.. لم يقنعني. تبين لي فيما بعد ان عبد الناصر جاء يطلب صواريخ “سام 3” المضادة للطائرات (حدث ذلك بعد مجزرة مدرسة بحر البقر في هجوم شنته القوات الجوية الإسرائيلية في صباح الثامن من أبريل عام 1970، أدت الجزرة إلى مقتل 30 طفلًا وإصابة 50 آخرين وتدمير مبنى المدرسة تماماً). وكذلد طلب عبد الناصر فرقا روسية لتدريب رجال الدفاع الجوي المصريين.
كنا في أواخر شهر يناير 1970، وعندما فهم اني تمسكت بالخبر عن وجود عبد الناصر في موسكو رجاني ان أحافظ على سرية الخبر.. حتى لا اضر بالزيارة وبه.
عدت الى بلادي ومدينتي الناصرة في حزيران او تموز 1970. واستلمت قيادة فرع الناصرة للشبيبة الشيوعية.
ليلة 28.9.1970 طرق بابا بيتنا جار لنا أصله من لاجئي مجدل غزة التي هدمت وشرد كل اهلها، وصل الناصرة مع عائلته الكبيرة بعد النكبة اذ كان معتقلا في المعتقلات الاسرائيلية، اسمه صبحي بلال، قرع باب بيتنا بشدة وكان يبكي مثل طفل صغير.. فتحنا له الباب وهو يشهق بالبكاء وبصعوبة قال ان “جمال عبد الناصر مات”.
رغم ان ناصر بطش بالشيوعيين .. الا ان الشيوعيون كانوا على قناعة من طهارة عبد الناصر ومصداقيته الكبيرة ، وبعد النكسة بدأ التقارب الكبير بينهم وبينه.
في الصباح الباكر بدأت الاتصالات لترتيب جنازة رمزية للزعيم الراحل في مدينة الناصرة، انتشر شباب منظمة الشبيبة الشيوعية في المدينة يدعون للمشاركة في جنازة عبد الناصر، كانت دعوتنا مجرد تذكير بالوقت لآن الجاهزية كانت كبيرة وموت عبد الناصر ترك صدمة وحزنا كبيرين لا سابق لهما في مجتمعنا. كانت الناصرة تبكي، دموع الرجال تسيل بلا خجل، كنا نعزي بعضنا البعض بمصاب لا نعرف كيف نعبره وحيرتنا من المستقبل بدون عبد الناصر تثقل على قلوبنا.. سالت دموعا كثيرة بشعور اننا نفقد الأمل الكبير والحلم الوطني الذي تعلقنا به.
خطابات عبد الناصر كانت تتحول الى تجمعات كبيرة حول اجهزة الراديو.. كنت فتى ناشئ، ما زلت أذكر كيف كانت تتوقف الأشغال في سوق الناصرة ويتجمع اصحاب المحلات التجارية والحرفيين حيث توجد أجهزة راديو في بعض المحلات، يقفون صامتين للاستماع الى خطاب الرئيس!!
لم يكن عبد الناصر رئيس مصر بل رئيس كل العرب.
في الليلة التي سبقت خروج جنازة عبد الناصر اعتقلت بتهمة الدعوة الى مظاهرة غير مرخصة. اعتقل معي عددا كبيرا من اعضاء التنظيم ومن رفاق الحزب ومن ناس بسطاء بكوا ناصر وقالوا كلمات لم تقع جيدا على اذان المخابرات الاسرائيلية فزجوهم معنا في السجن. احدهم ( يعمل حلاقا ولم يشارك بكل حياته باي نشاط سياسي) اطلق اسم خالد على ابنه البكر، فصار يعرف باسم “ابو خالد”، وقف خطيبا امام مظاهرة عفوية لفتيان صغار داروا في شوارع الناصرة يهتفون “ناصر.. ناصر” خطب بهم بحماسة ودموعه تملأ وجهه :”اذا مات ابو خالد ، فانا ابو خالد حيا ، سيروا وفقكم الله، ابو خالد سيظل خالدا في قلوبنا لا يموت”. فاعتقلته الشرطة. التقيت به في سجن الجلمة، أضحكنا بحكايته، ثم اطربنا باغاني عبد الوهاب.. رغم انه يكسر باللحن.. وكان معنا عضو من الشبيبة الشيوعية يستعد للسفر الى بلغاريا لدراسة الموسيقى، فكان يقاطعه ليصحح له المقام الغنائي، فطلبنا منه ان يصمت ويتركنا نطرب ولتسقط كل المقامات الموسيقية !!
التعليقات مغلقة.