إرهاب الدين / د.مراد الكلالدة
د.مراد الكلالدة ( الأردن ) الأحد 11/1/2015 م …
لم اتردد كثيراً للكتابة في حادثة شارلي أبيدو الفرنسية لأنه من غير المقبول أن تمر بدون التعليق عليها، فقد قضى نحبه كل من الجاني والمجني عليه، ولكل منهم تفسيره في هذا المضمار، فهل كان الأخوين كواشي جناة أو مجاهدين، ومن أستغل الدين (للإرهاب) أم أن الدين قد تعرض (للإرهاب) بمؤامرة.
لا أريد أن اخاطب الغرب حتى احظى بنجمة فضية أو ذهبية لا اسعى إليها، ولكني ابحث عن الطرق التي اصل فيها الى عقول أبناء جلدتي، العرب والمسلمين، لأننا الآن في موقف خطير بعد حادثة قتل الصحافيين والرسامين الفرنسيين، فهل أسائوا هؤلاء الى الإسلام فاستحقوا القصاص في الحياة الدنيا، أم انهم ضحايا لمعتقداتهم وقيم الحرية العلمانية، هذا إذا إستبعدنا نظرية المؤامرة التي تشي بأن الحادثة قد تكون مفتعلة لتبرير قوننة إجراءات يراها الغرب ضرورية الآن في حربه على ما يسميه بالارهاب، او أنها ضرورة موضوعية تقتضي إفتعال حدث جلل يهز (قيم الجمهورية) لكي يدافع عنها أبنائها لإخضاع الطرف الآخر.
إن المجتمع الأوروبي بات يتململ معبراً عن عدم إرتياحة للزيادة العددية في المهاجرين الذين تحتاجهم الماكينة الاقتصادية الراسمالية كقوى عاملة رخيصة واصبح يبحث عن الذرائع للتخلص من المنافسين على الوظائف والمكاسب بدعوى انهم فشلوا في الإنخراط التام في المجتمعات الغربية، وتصدى لهذه المهمة الأحزاب اليمينية لكسب التأييد على أساس نقاء العرق وصفاء المجتمع الغربي وقيمه، فهل هي ذات الأفكار التي إنجحت الحزب النازي الالماني والفاشي الايطالي، وادت الى قتل ما يزيد عن (60) مليون إنسان في أقل من سبع سنوات خلال الحرب العالمية الثانية، أم انها تقاطع في المصالح بين اليمين واليسار الذي دعى في أول ردة فعل له على الحادثة الى (تعاضد الأمة) في مواجهة (الإرهاب).
من المؤكد بأن الحادثة مخطط لها بدقة، سواء من قبل الأخوين كواشي، المسلمين ذوي الأصول الجزائرية، أو من قبل دوائر أمنية فرنسية في حال إفترضنا أنها مؤامرة، وستشكل حيثياتها إنعطافة في تعامل الغرب مع الإسلام والمسلمين لأنها ليست حادثة فردية في كلتا الحالتين. ففي حالة إعتبارها عمل جهادي، فإنه يستند لفكر أصولي يحاول فرض نفسه على العالم بالقوة مستنداَ الى نصوص من الشريعة. أتباع هذا الفكر نوعان، الأول جريء يجاهر بما يجول بخاطره ويأخذ السيف بيده وهم أقلية، أما الأغلبية، فهي صامتة مرتاحة داخليا لما حدث على أساس انه إنتقام وقصاص ممن يتطاولون على الدين الإسلامي ورموزه وتنتظر هذه الفئة الفرصة لإشهار البيعة التامة للخليفة في الوقت المناسب، وسنترك فرضية المؤامرة للمعالجة لاحقاً.
لقد قمت بكتابة بوست على الفيسبوك، كنوع من جس لنبض الشارع قبل الشروع بكتابة هذه المقالة التي ينتظرها المهتمين، وكم كان فرحي كبيراً عندما تفاعل معه بعض القرّاء في مساهمة جادة للحوار بين المثقفين في ظل إستقطاب هائل تشهده الساحة بين محورين أساسيين يشهدهما العالم هما التدين والعلمانية.
الصديق الفيسبوكي المهندس وائل المصري، كتب معلقاً: لا أدري عن النصوص الشرعية و”الفكر الأصولي” التي يستند إليها الإرهابيون لتبرير قتل من يستهزئون بالإسلام ورموزه، ولكني أجد الرد على ذلك في كتاب الله عز وجل:
“وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.”
“وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم.”
هذا هو رد رب العالمين في قضية الاستهزاء و السخرية بآيات الله .. لم يقل اقتل يا محمد ولم يقل اذبح يا محمد .. لم يقل غير “فلا تقعد معهم وأعرض عنهم” .. صدق الله العظيم وصلي الله علي نبينا محمد خير خلق الله وخير من كان قرءاناً يمشي علي الأرض … إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك يا رسول الله”
إنتهى الإقتباس،
أعلم، ومعي كثيريين بأن الغالبية الصامتة لم تعلق على الحادثة، وقد قرئت تعليقات في مواقع أخرى تعتبر الحادثة عملية جهادية تخللها نداء الله أكبر، وفيها إنتصاراً للدين، ويستندون في ذلك الى نصوص واضحة من القرآن والسنّة، غير تلك التي إستعان فيها المهندس المصري، فما هو المعيار في الحكم على الآخر، أهو النص المجتزأ أو روح النص حسب مقتضى الحال.
ما نحن بحاجة له هو القراءة المعاصرة للنصوص التي تستند اليها الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية وان نخرجها من النص الجامد الذي كان يحاكي ظروف مغايرة تماما لظروفنا الحالية. إن الاحتكام الى النص وتفسيراته القديمة سيقيدنا وسيجعلنا امام خيارين لا ثالث لهما، الاول أن نطبق حذافير النص فنبدوا خارج سياق المعاصرة، والثاني أن نهجر النص فنصاب بالإغتراب.
لقد حاول الغرب أن يلعب على الإستقطاب الأساسي بين المسلمين السنة والشيعة بغرض التفرقة، وحقق بذلك نجاحات مذهلة في سورية والعراق واليمن، وعمل على خلق استقطابات فرعية بين السنة انفسهم فخلق القاعدة وداعش وانصار الله وما الى ذلك من تسميات جديدة، وكذلك بين المجموعات الشيعية كالإثنى عشرية والزيدية والعلوية وغيرها، ولكن هل ينجوا الغرب من الهزات الإرتدادية لما صنع من خراب ودمار.
إن النظر الى المهاجرين في بلاد الغرب، وخاصة المسلمين منهم على انهم تهديد وليس فرصة، كما يحدث حاليا في مدينة دريزدن بشرق المانيا وغيرها، إنما هو تجسيد لهذا الاستقطاب على الارض وإستبدال الحوار بالحراك في مواجهة الآخر، فما هو الهدف من هذا الحراك الذي قد يحمل في طياته المؤامرة التي اشرنا اليها في البداية.
علينا ان نعترف بأن الإسلام يمارس الحراك أيضاً من خلال المراكز الثقافية في بلاد الغرب والندوات وصلاة الجمعة، ولم تعد المساجد كافية في بعض المدن الأوروبية لإداء الصلاة، فاصحبت جموع المصلين تلجأ الى الأرصفة وتغلق بعض الشوارع حتى انتهاء الصلاة في مدن مثل جراتس بالنمسا وغيرها كثير، فكيف ينظر أصحاب البلد الاصليين الى هذا الإستقطاب.
إن ما يجري في منطقتنا من صراع دموي منظور ومتابع على الشاشات من قبل الناس أجمعين، وقد ساعدت فكرة نشر الدعوة الإسلامية في سائر بقاع الأرض على زيادة تخوف المجتمعات العلمانية على منجزاتها وقيهما وأبنائها الذين ساهموا في هذه الحرب، مجاهدين ام قتلى فباتوا يلفظون المهاجرين الذين يجسدون هذا الفكر ممن يشكلون (قنابل) محتملة قد تنفجر في جريدة ساخرة أو متجر خمور أو محطة قطار.
وكذلك علينا أن نعترف بأن هناك ممارسات قد تكون مثار إستغراب ومبعث خوف الآخرين مِنّا، مثل الجلد والتعزير، والرجم وقطع الأطراف وزج الأعناق، التي جائت ضمن سياقات تاريخية إنتهت، ولم تعد تقنع ممارستها حاليا شركائنا على هذه الأرض من شعوب وقبائل، حيث وجدنا معنا لنتعارف لا لكي نتسايف.
وحتى لا يطل علينا أحدهم ملوحاً بالنص المجتزء، أذكرهم بما فعله سيدنا عمر رضي الله عنه في عام المجاعة عندما أوقف العمل بالآية (38) من سورة المائدة، حيث يقول العزيز الحكيم: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم. صدق الله العظيم.
أليست 1400 عام كافية لكي ندرك أن ما كان غير ما سيكون، وماذا لو اعدنا النظر بخطبة الجمعة فاصبحت درس وعظ وإرشاد ورش للبخور والتطيب، بدلا من إستغلالها منبراً للتهديد والوعيد والزجر، الا تستقيم الخطبة الا بالصراخ.
اين هو الحد الفاصل ما دامت الأطراف قادرة على تعزيز الآراء بالحجة والبراهين إستنادا الى نص هنا أو حادثة هناك، يخرجونها من سياقها التاريخي الذي اتت به ويسقطوها على حالات متشابهة لشخوص غير متاشبهة. هذا في النصوص الواضحة والتي لا تحتمل التأويل، فماذا عن النصوص الأخرى التي تحتمل القراءات المتعددة مثل شرب الخمر أو لبس الخمار أو الحجاب في باريس ولندن وبرلين وروما وغيرها.
نعم، نحن بحاجة الى علماء إجتماع من شتى المنابت والأصول يعيدون النظر بموقعنا كبشر ضمن هذا العالم من منظور اجتماعي لا نكفّر فيه الاخرين لأن رب العزة بجلالة قدره قد قال: ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر….وإن الله شديد العقاب وهو كذلك غفور رحيم، فدعوا الخلق للخالق.
ما حدث في فرنسا لم يكن البداية ولن يكون النهاية، لأنه تعبير حراكي عن الإستقطاب بين قيم الجمهورية العلمانية التي دفع الشعب الفرنسي ملايين الشهداء من أجلها، وبين قيم الدولة الدينية التي دفع اتباعها وما يزالون ملايين الشهداء للوصول اليها.
ما نشهده حالياً من هجرة لكثير من الهندوس والمسيحيين والمسلمين وغيرهم الى بلاد الغرب العلماني هي تعبير عن استعداد الناس للتخلي عن معتقداتهم وتغيرها مقابل الاستقرار الاجتماعي الذي توفره لهم تحت سقف (قيم) المجتمع العلماني. إن الثمن المطلوب منهم عند العيش في هذه المجتمعات هو الانخراط في المجتمع وليس (تغييره) كما يحاول البعض ان يفعل لتصبح باريس مثل صنعاء أو عدن. وسيكون جواب هذه المجتمعات المضيفة لأيه محاولة للتغيير من قبل الضيف… أما القبول بقيمنا او التخلي عن الجنسية ومغادرة البلاد، لكي لا يصبح المهاجر … ضيف وحامل سيف.
إن المرحلة القادمة في أوروبا وأمريكا واستراليا ودول شرق أسيا ستشهد صراعاً واضحا بين العلمانية والتديّن بشقين، الأول صراع عسكري عتاده السيوف والصواريخ والرصاص والثاني فكري عتاده العلم والبراهين. فاين هو الحد الفاصل بين إرهاب الدين، وإرهاب الدين … الأول، إرهاب بإسم الدين، والثاني إرهاب للدين من قبل أعداء الدين.
إن العولمة حتمية، وستتداخل الأعراق وستزول القوميات والطوائف وستختفي اللغات الضعيفة وستضمحل الدول ليسود العرق الإنساني في عالم هو أقرب الى المدينة الكبرى، يعيش فيها البشر وفق توافقات مقيدة بدستور أممي (ميثاق) تحت سقف دولة واحدة اسمها الأمم المتحدة، نتقاضى فيها أمام محكمة دولية تطبق فيها قوانين الأرض والإنسان، وتحرسها جيوش القبعات الزرق.
وحتى ذلك الحين، دعونا نحيا الحياة ونوفر الدم الضائع على وهم حكم العالم بالسيف والمنجل… وليكن شعارنا الكل لواحد، والواحد للجميع All for One and One for All
التعليقات مغلقة.