على هامش إقالة ياسر عبد ربه … كم عمر الفشل؟! / أنيس فوزي قاسم

 

أنيس فوزي قاسم ( فلسطين ) السبت 1/8/2015 م …

قبيل إجازة عيد الفطر، تمت إقالة ياسر عبد ربه من أمانة سرّ اللجنة التنفيذية لـ «منظمة التحرير الفلسطينية» من دون إبداء الاسباب. وأبدى عبد ربه امتعاضه من «الطريقة» التي تمّت بها إقالته، باعتبار انها تمت من دون قرار من اللجنة التنفيذية التي هو عضو فيها منذ اربعين عاماً تقريباً. وللعلم، فإن النظام الداخلي للمنظمة لم يورد ضمن هيكليته منصب «أمين سر»، بل هو ابتكار من المرحوم ياسر عرفات من دون سند ومن دون قرار من اللجنة التنفيذية.

ومثل الكثير من السياسيين، حين يخرجون من مناصبهم، تراهم فجأة يبلغون «سن الرشد». وكمثال على ذلك، حين انتهى الرئيس جيمي كارتر من أعباء الرئاسة، اكتشف ان اسرائيل دولة «أبارتهايد»، وهو الذي مارس ضغوطاً ثقيلة على المصريين في كامب ديفيد للوصول الى «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية». ونلحظ ذلك أيضاً على المستوى الوطني والعربي من دون أن نسوق أمثلة معروفة. وينطبق الحال ذاته على الاخ ياسر عبد ربه، فمنذ أن تمت إقالته وخروجه من دائرة الرئيس المصغرة قال: «ينبغي علينا الاعتراف صراحة بأن خطتنا السياسية منذ أوسلو حتى الآن فشلت فشلاً ذريعاً وتاماً، وأن رهاننا على حلِّ يؤدي الى انهاء الاحتلال عن ارض وطننا عبر المفاوضات كسبيل أوحد انهار كلياً». إن هذا قول يدلل على بلوغ «سن الرشد»، لكن كم هو عمر الفشل الذي يتحدّث عنه الأخ ياسر عبد ربه؟ ومنذ متى أدرك أن العملية السياسية فاشلة؟ وهل كانت إقالته بسبب خلافه السياسي مع الرئيس من أن العملية السياسية فاشلة قد عجلت في بلوغه «سن الرشد»؟!

إذا لم يأت التاريخ إلاّ على مهمتين اثنتين من المهام التي شارك فيهما ياسر عبد ربه، فهذا يكفي أن يذهب في سجلات التاريخ كأحد مهندسي أكبر مصيبتين تمّ ارتكابهما بحق القضية الفلسطينية. المصيبة الكبرى الاولى انه كان أحد أعضاء الخلية السرية الضيّقة التي تولت عملية السمــــسرة «لاتفاق أوسلو». وبشـــكل أدقّ، كان هو الوحيد الذي رافق العملية التفاوضية من بدايتها الى تاريخ إقالته في 30 حزيران 2015،

وكان يجيد الانكليزية باعتبارها لغة التفاوض. أي أنه كان على علم ودراية بكل معاني الكلمات التي صاغ بها يؤئيل زنجر، وهو المحامي الأميركي المتمرس الذي كان موضع ثقة شمعون بيريز، إعلان المبادئ والاعتراف المتبادل. إن قدرته اللغوية كانت أفضل من قدرة اعضاء الخلية الباقين.

كانت الحلقة التي أدارت المفاوضات السرية تتكوّن من أبي العلاء وحسن عصفور وأبي مازن وياسر عبد ربه والمرحوم ياسر عرفات. وبسبب قربه من ياسر عرفات، استطاع أن يزيّن له ما عجز ابو مازن عن صياغته وتفسيره وتسويقه. ويؤكد تاريخ المفاوضات، أو ما تبقى منه بعد فقدان ملف المفاوضات من ارشيف وزارة الخارجية النرويجية، أن دوره كان مفصلياً. ويعلم الجميع أن ابا مازن هو صاحب نظرية التنازلات التي لا تنتهي باعتبار أنه مقتنع بأن المجتمع الإسرائيلي ليس كتلة صماء، بل يمكن التأثير على أجنحة مختلفة منه والوصول الى حلٍّ معها. وكان ياسر عبد ربه من القلائل الذين اعتنقوا الاطروحة ذاتها.

من المهم أن نتذكر أن عبد ربه جاء من جناح اليسار الفلسطيني، حيث جاء من لدن الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وقد انشق عن نايف حواتمة وأسس فرع «فدا»، وهذه قصة من قصص الخيال الفصائلي الفلسطيني. وباعتباره من جناح اليسار كان أقرب ـ او هكذا كان من المفروض ـ الى الفهم العميق بالصهيونية ومن انها «اعلى مراحل الاستعمار» وأن تركيبها الايديولوجي ومناهجها لا يسمح لها بالعيش بسلام، وإذا رغبت الصهيونية بالعيش بسلام مع جيرانها، فإنها سوف تفقد مبرر وجودها ولا تعود ذات وظيفة خدمية للاستعمار البريطاني والأميركي، وينتهي بها الحال الى الاندثار.

وكانت هذه عقيدة اليسار الفلسطيني والعربي والإسرائيلي. وجميعنا يذكر حركة «ماتسبين» الاسرائيلية التي كانت تحذر الفلسطينيين من تصديق أطــــروحات السلام التي تـــنادي بها القيادة الصهيونية، وقد تطورت هذه الحــــركة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وهي الفـــترة التي كان فيها ياسر عبد ربه من رموز اليسار الفلسطيني.

ثم نعود إلى اتفاقيات اوسلو التي اكتشف الاخ ياسر عبد ربه فجأة عند إقالته أنها عملية فاشلة. يقول الآن إنه أدرك أن مسار اوسلو فشل في إيصال الفلسطينيين الى «انهاء الاحتلال عن ارض وطننا». وهل يحتاج عبد ربه الى عقدين من الزمن لإدراك أن الفشل كان من مكوّنات اتفاقية اوسلو الاولى وان السقوط وقع منذ رسائل الاعتراف؟ وعلى سبيل المثال، هل يدلّنا عبد ربه على نصٍّ واحد في اتفاقيات اوسلو الثماني يؤشر بشكل مباشر او غير مباشر على «إنهاء الاحتلال» أو على كلمة «الانسحاب من الاراضي المحتلة» أو على الوصول الى «حق تقرير المصير»؟ هل يدلنا على حق واحد ورد في اتفاقيات اوسلو لمصلحة الفلسطينيين او لمصلحة الأراضي المحتلة أو لمصلحة القضية الفلسطينية؟ ألا يدرك انه حين اطلع على مسودة اتفاقية اوسلو الاولى والثانية حمّلت الجانب الفلسطيني مهمات الاحتلال وأصبحت «منظمة التحرير الفلسطينية»، صاحبة أنصع تاريخ وأكثر احتضاناً وتعاطفاً في العالم، مجرد مقاول من الباطن للاحتلال؟ فهل من الضروري أن تمضي اثنتان وعشرون سنة على اعلان اوسلو لكي نبلغ «سن الرشد»، أم أن الإقالة هي التي اوصلتنا الى سنّ الرشاد؟!

ولو قارن عبد ربه أوّل اتفاقية من اتفاقيات اوسلو مع التوصية الاممية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة في العام 1947 الخاصة بتقسيم فلسطين، لأدرك بسرعة وببساطة أن قرار التقسيم كان أكثر عدالة ورحمة للفلسطينيين وفلسطين من أيٍ من اتفاقيات اوسلو. إن التوصية بالتقسيم ـ على قباحتها وهمجيتها ـ كانت أكثر رحمة على الفلسطينيين حيث خصصت لهم دولة على جزء من فلسطين ووضعت شروطاً تحرم التمييز العنصري على اساس من الدين او العرق او اللون في كلتا الدولتين، ووضعت هيئة الأمم صيغاً دستورية كانت سوف تحمي الفلسطينيين من ممارسة التمييز العنصري ضدهم، ومصادرة ممتلكاتهم. حتى أن «إعلان بلفور»، الذي لم يشارك في صياغته سوى حكومة الحرب البريطانية وحاييم وايزمن، كانت أكثر عدالة من أي من اتفاقيات اوسلو. ألم يرد في الإعلان شرط صريح وقاطع «انه من المفهوم ان لا شيء سوف يضرّ بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهودية في فلسطين». هل ورد شيء في اتفاقيات أوسلو تضمن حقوقاً مدنية او شبه مدنية للفلسطينيين؟

ولا بدّ من تأكيد ملاحظة مهمة في السياق الفلسطيني وهي أن مشاركة الفلسطينيين في مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت ضئيلة وتمّت عبر الوفود العربية المرعوبة من الهيمنة البريطانية والأميركية عليها. ومع ذلك، حين فاوض القادة الفلسطينيون قضيتهم، عادوا بخفيّ حنين… نعم بخفيّ حنين! وحين فاوضوا، وكان عبد ربه من مهندسي اتفاقيات اوسلو أوصل، ورفاقه، القضية الى الدرك الأسفل من جهنم.

اما المعصية الكبرى الثانية التي تظل معلقة في رقبة عبد ربه، فكانت «وثيقة جنيف» التي وقعت بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على مهزلة أوسلو «وفشلها» في إنجاز تقدم واحد. شارك عبد ربه في ما يُسمى «وثيقة جنيف»، في العام 2005، والتي رسمت حدود التنازل الرسمي/ غير الرسمي الفلسطيني لمصلحة الصهيونية. وحين شارك في وضع الوثيقة كان أمين سرّ اللجنة التنفيذية، أي أنه كان يتقلّد منصباً رسمياً. وبرغم إعلانه المتكرر انه كان يقوم بتلك المهمة بصفته الشخصية، إلاّ ان المعصية قد لاحقته في الحالتين. فلو كان يتصرف بصفة رسمية ـ وعلى الأرجح انه كان يقوم بتلك المهمة بتكليف من ياسر عرفات ـ فإنه من غير اللائق لقائد يساري فلسطيني أن يركض وراء يوسي بيلين، أكثر الصهاينة نعومة وخبثاً، مصدقاً إياه أنه مع الحلول العادلة لأي مسألة تتعلق بالقضية الفلسطينية، ويشترك معه في هندسة وثيقة جنيف. ولو كــــان يــــشارك بصفته الشخصية، فإنه من غير اللائق كذلك لقائد فلسطيني يساري أن يشترك في مهزلة أكثر أذى من مهزلة اوسلو سيما وهو مشارك فعال في وضع تلك الوثيقة.

إن أكبر مخاطر وثيقة جنيف أنها بعثت برسالة الى الإسرائيليين من أحد أكثر القادة قرباً وتأثيراً على ياسر عرفات، وأحد أعضاء «منظمة التحرير» هم على استعداد للتنازل عن حق عودة اللاجئين. قد يُقال إن تلك وثيقة غير رسمية، وهذا صحيح، الاّ أنها كانت تؤشر على مدى استعداد القيادة الفلسطينية الرسمية للذهاب في مقايضة «حق العودة» بمجرد أي فتات من طاولة مفاوضات الصهيوني.

وللحق، يجب التذكير أن سلوك عبد ربه في جنيف، لم يؤثر في سلوك صائب عريقات في مفاوضاته التي كشفت عنها أوراق «الغارديان» البريطانية. فكل ما كان يعرضه على تسيبي ليفني كانت تلقيه جانباً باحتقار وإهمال، وتقول له بما معناه «سمعنا ذلك قبلك… اعطني شيئاً ذا معنى». وظل الدكتور عريقات يلهث بالتنازلات المتكرّرة، إلاّ أن الشكر يُزجى إلى الطمع الإسرائيلي الذي أفشل مسلسل التنازلات المذلّة. اي ان مسار ياسر عبد ربه والذي تبعه صائب عريقات يدلّ على أن هذا المسار المعيب في التنازلات هو سياسة ثابتة للسلطة القائمة على شؤون «منظمة التحرير».

ومن دون أن يبدو ياسر عبد ربه وكأنه الوحيد الذي ارتكب هذه الكبائر بحق القضية الفلسطينية، فإن جميع مهندسي أوسلو واللاهثين وراء السراب الصهيوني يقعون في الحفرة ذاتها، وهكذا تحوّلت اوسلو، بالنسبة لهم، الى مجرد Business!

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.