في راهنيّة روزا الحمراء: من سراب الحقوق، إلى برنامج الثورة / د. هشام البستاني
عندما يُمسِكُ الجسدُ البروليتاريُّ ذو المليون رأس، بكامل سلطة الدّولة في قبضته الصّلبة، مثلما يُمسكُ الإلهُ ثور مِطرقتهُ، ويسحقَ بها رأس الطّبقات الحاكمة: تلكَ، وحدها، هي الدّيمقراطيّة.
– روزا لوكسمبورغ، «ما الذي تُريده عُصبة سبارتاكوس؟».
كان عصرُ روزا لوكسمبورغ (1871-1919) عصرَ مخاضات وهزّات وتحوّلات كبرى غيرت وجه العالم. أمّا سيرتها العاصفة فلم تكن فقط سجلًّا لتلك الأحداث وتداعياتها، بل نموذجًا لما يُفترض أن يكون عليه الفرد المُسيّس، والمُفكّر الممارس، إذ يخوض وحُولها حتى عنقه، محاولًا تغييرها بكلّ قوّته، حتّى لو تكلّف الأمر أن يكون الثّمن حياته نفسها، مجترحًا، في خضمّ ذلك، الأدوات السياسيّة المناسبة، واعيًا دوره المحدّد، وحدود وإمكانيّات هذا الدّور، لا وحده (باعتباره نبيّ الخلاص، صاحب الكرامات الرؤيويّة)، بل من خلال أداةٍ محدّدة وقادرة، سياسيّة وجماعيّة وديناميكيّة، هي الحزب، مهمّتها دفع طبقة مظلومة، مُفقرة، مُضطهَدة، مُستغلَّة، هي البروليتاريا (الطبقة العاملة الصناعيّة نهاية القرن التّاسع عشر)، إلى الثّورة، فالسُّلطة.
التّفعيل: من النظريّة، إلى ممارسة النظريّة
«إن «طالبَ» المرءُ بشيءٍ،» تقولُ روزا لوكسمبورغ، «فعلى المرءِ أن يفعلَ شيئًا ليُحقّق ذلك المطلب؛»(1) وإلا فإنّ «المطلب» سيكون فارغًا، بلا تأثير يُذكر سوى جَعْلِ «الهواءَ يرتجّ»،(2) بينما تبقى السّلطة المُهيمنة، والأمور التي تُديرها، كما هي، ثابتة دون أدنى حركة أو تغيير. تلك المزاوجة بين الفكر والممارسة، التّشخيص والفعل التغييريّ الملائم، تحليل الواقع الموضوعيّ من أجل اشتقاق أدوات عمل، واستخدامها، تطبع كلّ ما قدّمته لوكسمبورغ من مساهمات فكريّة، أتت جُلّها (مثل مجمل المساهمات النظريّة الماركسيّة الرّفيعة) ضمن سجالات مع كبار مفكّري وسياسيّي عصرها، دون أن يسلم حتى ماركس وإنجلز نفسيهما من نقدها.
دون الممارسة، دون الفعل، دون اشتقاق أدوات العمل، ودون إمكانيّة أن تتحوّل إلى تطبيقات عمليّة أو تُترجم إلى وقائع، تبقى الأفكار أسيرة حيّز التأمّلات الأمنياتيّة التي بلا أنياب، أو أشكال الاستيهامات اليوتوبيّة؛ هذا هو لبّ التّفعيل (Praxis – أي تحويل الأفكار النظريّة إلى تطبيقات وأفعال) كما قدّمها ماركسيّون ويساريّون كثر، سعيًا منهم لإيقاف الفلسفة على قدميها بالاتجاه الذي يرد في عبارة كارل ماركس التي باتت شهيرة جدًّا: «لقد فسّر الفلاسفة، حتى الآن، العالم بطرق مختلفة، لكن المطلوب تغييره».(3) مثّلت روزا لوكسمبورغ (الملقّبة بـ«روزا الحمراء») هذا المفهوم خير تمثيل، إذ انصبّ نقدها لمفكّري واشتراكيّي عصرها على المدى الذي استجابت فيه أفكارهم للواقع من جهة، وإمكانيّة تحوّل هذه الأفكار إلى أدوات عمل حقيقيّة، ومُمكنة، وثوريّة، في آنٍ معًا.
الثّورة العمّالية على الأبواب: عالم نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين
من على بُعد زمنٍ يزيد عن القرن، سينتاب القارئ اليوم شعورٌ غريب وهو يراجع أحداثًا (واستجاباتٍ للأحداث) باتت الآن بعيدةً، وصعبة التّصديق، كالحُلُم. لكنّ ذلك القارئ عليه أن ينتبه إلى أنّه يستفيد من، أو يقعُ في فخّ، القراءة البعديّة؛ هو شخصٌ ينظر إلى ذلك الماضي من مستقبله الذي صار محتومًا ومحدّدًا الآن، ولم يكن كذلك حينها.
لذا، ولنفهم روزا لوكسمبورغ دون أن نغبنها حقّها وقيمتها، علينا أن نتذكّر أنّ عصرها كان بداية ذروة الرأسماليّة الصناعيّة الحداثيّة، عصر العمّال الصناعيّين وإضراباتهم الكبرى، عصر انتظامهم في نقاباتٍ وأحزاب مؤثّرة، عصر انتفاضاتٍ عاصفةٍ في روسيا القيصريّة العُظمى، التي تمكّن فيها البلاشفة نهاية الأمر من السّلطة، ليخرج الاتّحاد السّوفيتيّ إلى الوجود، عصر تطاحنت فيه الرأسماليّات في حرب كونيّة مُدمّرة تركّزت في أوروبا، وتفكّكت فيها امبراطوريّات كبرى، وطالت آثارها جميع القارّات، عصر كانت فيه الثّورة الاشتراكيّة قاب قوسين أو أدنى في بلد مركزيّ مثل ألمانيا، عصر كان وثيق الصّلة ما يزال بالثّورة الفرنسيّة «البرجوازيّة» (1789) وكومونة باريس «الشيوعيّة» (1871)، عصرٌ كانت فيه منظّمة أمميّة نشطة (الأمميّة الثانية، 1889-1916) تجتمع فيها كثرة من الأحزاب الاشتراكيّة الأوروبيّة وتنسّق مواقفها عالميًّا. بجملة: عصرٌ كانت فيه الثّورة العمّاليّة العالميّة المُنظّمة، ونهاية الرأسماليّة كما نعرفها اليوم، قريبةً وممكنةً مثلما لم تكُن في أيّ وقتٍ من الأوقات قبلها أو بعدها.
موتان مُتعارضان: بين انتحار شتيفان زفايغ واغتيال روزا لوكسمبورغ
لنفهم روزا لوكسمبورغ جيّدًا، سيكون من المفيد أن نُقابلها بنموذجٍ آخر، من نفس الحقبة، يقع على النّقيض من خياراتها: شتيفان زفايغ (1881 – 1942)، الكاتب والقاصّ والنّاقد المولود في فيينا التي كانت حينها عاصمة الامبراطوريّة النمساويّة-الهنجاريّة، فيما كان هو نموذجًا لنخبة الطّبقة الوسطى المتعلّمة الرّاقية فيها، ومثقّفها المعجون بالأدب والموسيقى والأوبرا والصّحافة والسّجالات الثقافيّة، غير المهتمّ فعليًّا بالسياسة، إلى أن بدأ عالمه المرفّه، الذي حقّق فيه مكانةً رفيعة وبارزة، بالتّداعي شيئًا فشيئًا وصولًا إلى الضربة الحاسمة: الحرب العالميّة الأولى، وبعدها القاضية: صعود النازيّة والفاشيّة في عالم ماضيه الذي لم يبقَ منه، فعليًّا، أيّ شيء.
في خياراته السياسيّة التي جاءت متأخّرة، انحاز زفايغ (كما هي تقاليد الطّبقة الوسطى التي ينتمي إليها ويعبّر عنها) إلى محاولات التّسوية وإحلال السّلام القائم على روح أوروبيّة جامعة، شيء أقرب إلى «الأمنيات الجميلة» في وقتٍ كانت فيه طبول الحرب تقرع بصخب، والتّناقضات بين مصالح وطموح دول أوروبا الرأسمالية على أشدّها. ازداد اغتراب زفايغ عن ذلك «العالم» (الأوروبيّ طبعًا) الذي خفت فيه نجمه واختفى ذكره بصعود النازيّة (وهو اليهوديّ العلمانيّ المتوطّن)، وخيارات الحرب واستقطاباتها القوميّة (وهو داعي السّلام، الأوروبيّ النّزعة)، لينتهي به الأمر، بعد رحلته مرّ فيها ببريطانيا والولايات المتّحدة، في البرازيل، خاتمًا حياته بكتابة حسرته على ذلك الماضي في كتابٍ من أجمل الأعمال الأدبيّة في السيرة هو: «عالم الأمس: مذكّرات أوروبيّ».(4) بعد يومٍ واحدٍ من دفع مخطوط ذلك الكتاب إلى ناشره، أقدم زفايغ وزوجته على الانتحار.
ما بين الختام المأساوي لشتيفان زفايغ وزوجته مُنتحرين، والختام المأساوي لروزا لوكسمبورغ ورفيقها كارل لِيبْكْنِشْتْ مقتولين على يد مرتزقة «الفْرَايْكور» (فيلق الحريّة – الميليشيا اليمينيّة التي استخدمتها حكومة فريدريش إيبرت الديمقراطيّة الاجتماعيّة لسحق الثّورة الألمانيّة وانتفاضة السبارتاكوسيّين التي قادها الحزب الشيوعيّ الألمانيّ، المنشق عن الديمقراطيّة الاجتماعية، عام 1919)، مسافةٌ شاسعة، معكوسة، من التّعامل مع العالم الواقعيّ. عاش زفايغ في فقّاعة طبقته، في مساحةٍ معقّمةٍ من السّياسة، دون أن يرى ما بعدها وما حولها، ثمّ، وبعد أن جرف سيلُ الأحداث الكبرى العالمَ المُعتاد لبرجوازيّة نهاية القرن التاسع عشر، انسحب زفايغ وزوجته إلى ماضٍ كان قد ذهبَ ولن يعود، مُجترًّا ذلك الماضي باعتباره حالةً مثاليّةً، تعويضيّةً، عن حاضرٍ بائسٍ يعجز المرءُ عن التّعامل معه وفهمه والتّأثير فيه، وحالةً تحسّريّةً-أُمنياتيّةً يندب فيها وضعه، لعلّ سحرًا ما يُعيد ذلك الماضي إلى الوجود. تعلّق زفايغ بالماضي تعلُّق الغريق بالقشّة التي لا تمنع عنه الغرق، فغرق، رويدًا رويدًا، وذوى مُهمَلًا في زاوية مُهمَلةٍ من العالم.
أما روزا لوكسمبورغ، فألقت بنفسها في خضمّ الأحداث، فاتحةً عينيها جيّدًا على الحاضر، وعلى الفواعل السياسيّة فيه، على تحوّلات كلّ الطبقات، ومجريات الأمور في كلّ البلدان الأوروبيّة من روسيا إلى إنجلترا. لم تنسحب لوكسمبورغ إلى داخل ذاتها، بل اختارت أن تصهر نفسها في الطبقة الثوريّة لذلك الزّمان، الطّبقة العاملة، وأن تكون جزءًا من الأداة السياسيّة التي يُمكن لها، من نقطة الحاضر، أن تؤثّر في المستقبل، فكانت قياديّة فاعلةً وأساسيّةً في حزب الديمقراطيّة الاجتماعيّة الألمانيّ، وبعدها أسّست، مع لِيبْكْنِشْتْ، عصبة سبارتاكوس – الحزب الشيوعيّ الألمانيّ، أحد أكثر الأحزاب ديناميكيّة وراديكاليّة في ذلك الزّمان، في محاولة للإطاحة بالرأسماليّة في قلب أوروبّا الصناعيّة.
ما بين انتحار زفايغ ومقتل لوكسمبورغ لحظة متّصلةٌ/منفصلةٌ في الحاضر، واحدةٌ تشدّ إلى الخلف، إلى اليوتوبيا، إلى الانسحاب، إلى الأمنيات، إلى التّعويض؛ وأخرى تدفع إلى الأمام، إلى التّغيير، إلى التّأثير، إلى الثّورة؛ واحدة تعتزل التاريخ وتحوّلاته لتتقوقع في ماضيه، وأخرى تشتبك معه وتتعارك وتتطاحن مع تحوّلاته؛ واحدة انتهت بأن أخذ فيها زفايغ حياته بيده من الحسرة واليأس، وأخرى أخذت فيها قوى «الوضع القائم»، قوى الرأسماليّة، حياة لوكسمبورغ، لتدرأ عن نفسها الخطر الذي مثّلته أفكار لوكسمبورغ وتطبيقاتها. طبعًا، شتّان ما بين الموتين.
في هذه المقالة، التي تأتي كتحيّة لروزا لوكسمبورغ في الذكرى المئويّة الأولى لاغتيالها، التي مرّت في كانون الثاني الماضي، سأعرّج على مجموعة من مساهماتها الفكريّة الهامّة، التي ما تزال راهنة وضروريّة اليوم، مشخّصًا من خلالها، وبعين ناقدة متفاعلة، مجموعة من المقولات التي أكّدت صوابيّة قراءاتها، ومقدّمًا مجموعة من التّطبيقات التي يمكن أن نستفيد منها في عالم اليوم.
الحقّ المطلق، أم الحقّ التاريخيّ، في الانفصال وتقرير المصير؟
في مقالة سابقة لي،(5) أشرت في عجالة إلى الاعتراض الذي سجّله فلاديمير إيليتش لينين، زعيم البلاشفة، وأحد أبرز منظّري الماركسيّة في عصره، في مقالته «حقّ الشّعوب في تقرير المصير»،(6) على موقف روزا لوكسمبورغ والاشتراكيين البولنديين المنضوين في حزب الديمقراطيّة الاجتماعيّة، على موقفهم الرّافض لانفصال/استقلال بولندا عن روسيا، وأعدتُ تعريف بعض المصطلحات الملتبسة التّرجمة في اللّغة العربيّة، والتي تستخدم بشكل غير دقيق، فعرّبت national (التي لا تحمل أبعادًا أيديولوجيّة) إلى «الموطنيّ»، وnationalist (المؤدلجة) إلى «القوميّ»، وفرّقتُ بينها وبين القُطريّ (الوطنيّ)، وعرّبت كلمة nation على أنّها «شعب»، إلا في حال تمّ استخدامها داخل خطاب قوميّ مُؤدلج، فتصبح عندها: «أمّة».
كلّ هذا ضروريّ لأن روزا لوكسمبورغ تستخدم مُصطلحًا آخر في إشارتها إلى المجموعات الموطنيّة العديدة والبالغة التنوّع (إثنيًّا وثقافيًّا ولغويًّا) في سياق طرح قضاياهم داخل الدُّول العظمى الشّاسعة في ذلك الوقت، مثل الامبراطوريات العثمانيّة والروسيّة والنمساويّة-الهنجاريّة، إذ تشير إليهم باعتبارهم nationalities، وواحدها nationality، مُعطيةً بُعدًا إضافيًّا لرؤية الموضوع من زاوية جديدة.
كلمة nationality عند لوكسمبورغ لا تعني «المواطنيّة» أو «الجنسيّة» أو «التابعيّة» كما نعرفها اليوم، أي الرّابط القانونيّ بين الفرد (لا المجموعة)، مهما كان لونه وجنسه ومعتقده وهويّته السياسيّة أو الثقافيّة أو خلفيّته الإثنيّة، والدّولة، بل تشير إلى المجموعة الاجتماعيّة/الثقافيّة/اللغويّة/الإثنيّة داخل الدّولة العظمى التي يتواجدون فيها بشكل عاديّ، يوميّ، طبيعيّ. كانت لوكسمبورغ تكتب باعتبارها ماركسيّة، تبحث عن خلاص المجموع لا الفرد، وتكتب قبل البروز الكاسح لمفاهيم الليبراليّة المعاصرة، الفرديّة، المبنيّة على حقوق فرديّة، خاصّة بكلّ إنسان على حدة (ومثالها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948)، كونية أو عامّة التّطبيق. روزا لوكسمبورغ «اشتراكيّة»، «مُجتمعيّة»،(7) والفرد عندها يأخذ معناه عبر بُعده الاجتماعيّ وعلاقاته الاجتماعيّة، لا عبر تحقّقه الفرديّ المُطلق، غير الموجود وغير الممكن فعليًّا.
ثمّة علاقة جدليّة، إذًا، بين الـnationalities (وسأختصرها إلى «المجموعات الاجتماعيّة»)، وبين «الدّولة العظمى»، تأخذ شكل «بديهيًّا»، «طبيعيًّا»، «مفروغًا منه» (بحكم تاريخيّة وجود المجموعة)؛ وعضويًّا (بحكم ارتباط المجموعة سياسيًّا واقتصاديًّا بالدّولة العظمى)؛ ومتحرّكًا ديناميكيًّا (بحكم التغيّرات التي تحكم تطوّر وتغيّر المجموعة والدّولة العظمى معًا). وجود هذه المجموعات، وتفاعلاتها البينيّة، وتفاعلاتها مع الدّول العظمى التي تعيش فيها، يسبق وجود «الموطنيّات» و«القوميّات» المعاصرة، وهي، وإن ساهمت أحيانًا في نشوء هاتين الأخيرتين بشكلٍ أو بآخر، إلا أنّها تختلف عنهما في مسألة محدّدة: أنّها مرنة ومنفتحة (بشكلٍ عامّ)، ولا تفصل نفسها، بحدود كيانيّة سياسيّة-اقتصاديّة واضحة، عن محيطها العضويّ والمجموعات الاجتماعيّة الأخرى المُحيطة بها، والمجاورة لها، التي تتبادل معها المنافع والمصالح ومقوّمات الحياة؛ في حين تنغلق المجموعة الموطنيّة على نطاق هيمنة برجوازيّتها السياسيّ-الاقتصاديّ-الجغرافيّ، وتضع الحواجز الجمركيّة وترسم الحدود السياسيّة لتخلق السّوق الموطنيّة كمقدّمة للدّولة الموطنيّة، التي ستدافع عنها أمام تفاعلات (انتهاكات) الآخرين بقوّة الجيش.
بهذا المعنى تكون «المجموعة الاجتماعيّة» عند روزا لوكسمبورغ حالة طبيعيّة داخليّة، مُشتقّة من نفسها ومن احتياجاتها اليوميّة، لا شكلًا قائمًا على التّعارض مع آخر خارجه، يشتقّ نفسه من الصّراع معه والتوسّع في محيطه، ويشكّل هويّته الموطنيّة/القوميّة لاحقًا بناءً عليها. وبهذا المعنى، تُقيّم لوكسمبورغ الموقف من النزعات الانفصاليّة لا استنادًا إلى الحاجات القوميّة (التمايزيّة) لهذه المجموعة أو تلك، بل استنادًا إلى رؤية تشاركيّة عامّة، تقوم على دور المجموعة الاجتماعيّة المعنيّة في سياق التحرّر من الرأسماليّة، السياق الأعمّ عند لوكسمبورغ الذي تنضوي تحت إطاره جميع السّياقات.
يمثّل التميّز الثقافيّ/اللّغويّ عند لوكسمبورغ ثراءَ التّجربة التاريخيّة، وأداة المجموعة الاجتماعيّة للوصول إلى الوعي الطبقيّ العامّ (الكليّ) حيث تنتفي الامتيازات الموطنيّة والقوميّة، وهي صيغة ماركسيّة طبقيّة مبكّرة لمفهوم «الوحدة من خلال التنوّع» اللّيبراليّ المُعاصر: الوحدة في مواجهة الرأسماليّة والاستغلال، ومن خلال الأدوات الثقافيّة/اللّغويّة الخاصّة بكلّ مجموعة باعتبارها أداتها في امتلاك الوعي الثوريّ، وهي أيضًا، بمعنىً ما، ضمانة لعدم تغوّل الموطنيّة/القوميّة الأكبر، المُسيطرة أو الأكثر عددًا، على بقيّة المجموعات الاجتماعيّة.
لكنّ روزا لوكسمبورغ ترفض تمامًا أن تتكرّس هذه المجموعات الاجتماعيّة كمجموعات موطنيّة/قوميّة، ذات مصالح خاصّة، خارج سياق الصّراع الطبقيّ، فتقول، في نقد مزدوج للنزعات الانفصاليّة الموطنيّة/القوميّة وللنزعات النسويّة اللّيبراليّة التي تفصل قضيّة المرأة عن الصراع التحرّري العام في مواجهة الرأسماليّة: «إن واجب الحزب الطبقيّ للبروليتاريا أن يحتجّ على، ويُقاوم، القمع القوميّ الناتج عن أيّ «حقوق خاصّة للأمم»، مثلما هو الأمر، على سبيل المثال، في أنّ التطلّع إلى المساواة الاجتماعيّة والسياسيّة بين الجنسين لا تنبثق عن أيّ «حقوق نساء» خاصّة».(8)
في مقالتها «دفاعًا عن المجموعة الاجتماعيّة»،(9) تستنكر لوكسمبورغ (بولنديّة المنشأ، ألمانيّة التابعيّة) قمع الحكومة البروسيّة المحليّة في ألمانيا للبولنديّين، وتُدين النّشر العنيف للهويّة واللّغة الألمانيّتين، و«أَلْمَنة» بولندا بالمعنيين الثّقافي (اللّغة، التّدريس..)، والديمُغرافيّ (نقل ألمان وإسكانهم في الحيّز الجغرافيّ للبولنديّين)، القريب من نمط الاستعمار الاستيطانيّ. لكنّها ترفض انفصال بولندا ككيان سياسيّ عن ألمانيا أو روسيا (كانت بولندا المُعاصرة تتوزّع في ثلاث دول كبرى: ألمانيا، وروسيا العظمى، والامبراطوريّة النمساويّة-الهنجاريّة)، على اعتبار أن ذلك سيضرّ بالتطوّر الرأسماليّ في بولندا (مما يعني منع تطوّر عُمّالها، وتحوّلهم، بالتّالي، إلى ثوريّين، خصوصًا وأن الصناعات البولنديّة كانت ترتبط أساسًا بالسّوق الروسيّ،(10) وسيضرّ بالثّورات البروليتاريّة في البلدان الكبرى (عبر تشتيت الجهد البروليتاريّ الذي يفترض أن يكون موحّدًا، إلى مساحات موطنيّة صغيرة). الرّابط الطبقيّ الموضوعيّ بين المُضطهدَين، يعلو على الرّابط الموطنيّ مع البرجوازيّين والرأسماليّين المحلّيين، أو مع بقايا الإقطاع، هذا إضافة إلى الضّرر الكبير الذي ستُحدثه النّزعات الموطنيّة/القوميّة لصالح تفكيك تضامن المُضطهَدين العابر للموطنيّات والقوميّات.
بالنسبة لروزا، ليس كلّ الألمان أعداء بالمطلق، مثلما أنّ البولنديّين ليسوا كلّهم حلفاء بالمطلق، فبين الألمان هناك حزب العمّال، حزب الديمقراطيّة الاجتماعيّة، الذي يُدافع عن البولنديّين وثقافتهم «دون أن يكون بينهم بولنديّ واحد»،(11) (وفي هذا شيءٌ من المبالغة، فلوكسمبورغ نفسها بولنديّة)، أما بين البولنديّين، فهناك البرجوازيّون والنبلاء الذين «يتسابقون لإقناعنا أن لا شيء يقمعنا سوى الأَلْمَنة، وأن لا أعداء لنا سوى الهاكاتيّين»،(12)(13) أي أنّ برجوازيّة ونبلاء بولندا يعرّفون القمع الألمانيّ باعتباره، حصريًّا، قمعًا ثقافيًا-إثنيًا-طائفيًا.
«هذه ليست سوى مناورة،» تقول لوكسمبورغ؛ «ذرّ للرّماد في عيون الطّبقة العاملة لتحويل انتباهها إلى الأعداء الألمان فقط، وتشتيت انتباههم عن الأعداء داخل منزلنا نفسه. يريد هؤلاء «القادة» أن يفكّر النّاس فقط في لغتهم وعقيدتهم الكاثوليكيّة، لا في معداتهم الخاوية».(14) يُوحّد الرّابط الموطنيّ/القوميّ، إذًا، بين المُضطهَدين ومضطهِديهم، ويُشكّل ستارًا دخانيًا يُعمي عن علاقات الاستغلال الدّاخليّة الاقتصاديّة والسياسيّة، مقابل خلق عداء حصريّ، قوميّ أو ثقافيّ، مع «آخر» خارجيّ؛ وفي الحالين، يُقدّم «الدّاخل» و«الخارج» على أنّهما كلٌّ متجانسٌ مُتمايز، تامّ الانسجام الداخليّ، وتامّ الانفصال البينيّ، وهذا، طبعًا، غير دقيق، بل هو تضليلٌ كامل وإعاة توجيهٍ لطاقة المضطهَدين نحو مساحات لاسياسيّة. «بدلًا من طبقة عاملة مُنظّمة تستجيب للوقائع السياسيّة»، تقول لوكسمبورغ، «ستصطفّ التنظيمات استنادًا للمشارب الموطنيّة، تائهةً [عن هدفها] منذ البداية. وبدلًا من نضالٍ سياسيٍّ متماسكٍ تخوضه البروليتاريا في كلّ بلد، سيكون تفكّكها إلى سلسلة من النضالات الموطنيّة العبثيّة مضمونًا»،(15) وهو ما حصل فعلًا عندما انفصلت الحركة الاشتراكيّة البولنديّة في بروسيا عن الحزب الاشتراكيّ الألمانيّ؛ انفصالٌ انتقدته لوكسمبورغ باعتباره تشتيتًا للبنى التنظيميّة الموحّدة للديمقراطيّين الاجتماعيّين وقوّتها.
ينسحب هذا النّقد أيضًا على الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، التي فكّكت نفسها على خطوط موطنيّة أو إثنيّة، بدعوى الخصوصيّات الموقعيّة، مع أن هذه الخصوصيّات تعبّر عن كيانات سياسيّة أو اجتماعيّة لم تنبثق عن أيّ شكل من أشكال التطوّر الرأسماليّ أو التّصنيع، ولم تعبّر عن صعود طبقة عاملة بروليتاريّة ثوريّة. خصوصيّات الأحزاب الشيوعيّة العربيّة انبثقت عن الآثار والتقسيمات الاستعماريّة للمنطقة، واستجابت لها. كانت مجرّد انقسامات على خطوط الاستعمار والتبعيّة، فانفصل الحزب الشيوعيّ السوريّ إلى حزبين: سوريّ ولبنانيّ، وانفصل الحزب الشيوعيّ الأردنيّ إلى اثنين: أردنيّ وفلسطينيّ، أمّا الشيوعيّون الأكراد فانفصلوا عن حزبهم العراقيّ الأمّ ليصير الحزب اثنين، وهو ما أضعف هذه الأحزاب (ضمن عوامل أخرى كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها) ووضعها على طريق الالتحاق الوظيفيّ بالكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة التي تشكّلت بعد الاستعمار.
ومن المُفيد هنا عقد مقارنة بين موقف روزا لوكسمبورغ الكليّ من هذا الموضوع، وبين موقف مجمل الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، خصوصًا أكثريّة الشيوعيّين الفلسطينيّين، الذين وجدوا في الصّراع الطبقيّ ووحدة المُضطهَدين اللّاقوميّة، مدخلًا للحديث عن وحدةٍ مُتخيّلة، ومُشتهاة، بين الجزء العمّاليّ من المُستوطنين الصّهاينة، وضحاياهم من العرب الفلسطينيّين، على قاعدة «التضامن البروليتاريّ». لا تتحدّث روزا لوكسمبورغ (وعموم المنظّرين الماركسيّين الأوائل) عن وحدة طبقيّة في سياق «الأخوّة» و«التّعايش» البينيّ بين قامع ومقموع، ولا في سياق إحداث تسوية ما مع شكل هيمنة أو استغلال قائم. الوحدة هنا هي، تحديدًا، من أجل تصفية وتدمير نظام الاستغلال القائم؛ تصفية الرأسماليّة من خلال الصّراع الطبقيّ. «حتى لو اعترف كلّ الاشتراكيّين بالحقّ الفوريّ لكلّ الشّعوب بالاستقلال، فإن مصائر الشّعوب لن تتغيّر مثقال ذرّة كنتيجةٍ لهذا الاعتراف»،(16) تقول لوكسمبورغ، مدلّلة على ذلك بمثالٍ يتعلّق بحقّ العامل بالعمل والاستقلال الاقتصاديّ: «إن الديمقراطيّة الاجتماعيّة تعي أنّ «الحقّ في العمل» سيتوقّف عن كونه كلامًا فارغًا فقط عندما ينتهي النظام الرأسماليّ، لأن البطالة المزمنة لجزءٍ من البروليتاريا الصّناعيّة في ذلك النّظام، هو شرط من شروط الإنتاج [لتخفيض أجور اليد العاملة وإبقاء العمّال العاملين تحت ضغط استبدالهم بآخرين من جيش العاطلين عن العمل]. لذا، لا تُطالب الديمقراطيّة الاجتماعيّة بإعلان ذلك «الحقّ» المتخيَّل على أساس النّظام القائم، بل تسعى لإنهاء النّظام نفسه من خلال الصّراع الطبقيّ».(17)
هكذا نستطيع الاستنتاج أن «وحدة الطبقة العاملة العربيّة واليهوديّة (أي الصّهيونيّة)»، والتي قدّم صيغتها الأولى الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ الذي تشكّل بشكل شبه حصريّ من الصهاينة قبل نشوء «إسرائيل»، وتبنّى قرار التقسيم، ودعم الجهود العسكريّة الصهيونيّة بتأمين أسلحة من تشيكوسلوفاكيا عام 1948، ووقّع مؤسّسه ميئير فِلنِر-كوفنِر (بعد تغيير اسم الحزب إلى «الحزب الشيوعي في أرض إسرائيل») على ميثاق تأسيس دولة «إسرائيل» في أيار من عام 1948،(18) هي وحدة مفترضة معيبة، لم تنشأ (أو حتّى تُقدّم) بهدف تصفية المشروع الاستعماريّ الاستيطاني وامتيازات أفراده، بل بهدف الإبقاء عليه، والحفاظ على ديمومته واستمراريّة ظُلمه، بصيغةٍ ما تُريح ضمير المستعمِر المعذَّب. بينما تتحدّث روزا لوكسمبورغ عن وحدة طبقيّة من أجل تصفية الرأسماليّة والاستغلال الناتج عنها، وتصفية الاستعمار وكلّ أشكال الظلم والتمييز من جذورها، وصل الخطّ العامّ عند مجمل الأحزاب الشيوعيّة العربيّة إلى «حلّ الدّولتين» الذي يكرّس الاستعمار الاستيطانيّ وظلمه؛ والفرق بين الأمرين واضح.
الدّولة الموطنيّة باعتبارها الشّكل السياسيّ للرأسماليّة، وأداة البرجوازيّة في الهجوم
في كتابها «المسألة الموطنيّة»، تذهب روزا لوكسمبورغ أبعد من ذلك لتقول إن حق تقرير المصير «لا يمثّل أي شيء يرتبط مباشرة بالاشتراكيّة أو سياسات الطّبقة العاملة (…) [بل هو] في شكله الأوليّ إعادة صياغة لشعار البرجوازيّة الموطنيّة الذي قُدّم في جميع البلاد، وفي كلّ الأزمان: «حقّ الشّعوب في الحريّة والاستقلال»».(19)
تشرح لوكسمبورغ ما تعنيه بهذه الجملة باستفاضةٍ سأقتبسها كاملة لأهميّتها الشديدة:
لا يمكن أن نفترض أن الأساس الماديّ للحركات الموطنيّة المعاصرة هو فقط شهيّة البرجوازيّة الصناعيّة لسوقٍ «محليّ» لسلعها. بل إضافةً إلى ذلك، تحتاج البرجوازيّة الرأسماليّة إلى شروط أكثر لتنمو بشكل ملائم: جيش قويّ لضمان منعة وعدم انتهاك «الوطن»، بالإضافة لكونه أداةً لفتح الطّريق نحو الأسواق العالميّة؛ أيضًا، تحتاج لسياسات جمركيّة مناسبة، وأشكال مناسبة لإدارة الاتّصال، لتشريعات، ونظام مدرسيّ، وسياسة ماليّة. بجملة، تحتاج الرأسماليّة من أجل تطوّرها الملائم ليس إلى أسواقٍ فقط، بل إلى أدوات الدّولة الحديثة كاملة؛ [و]تحتاج البرجوازيّة من أجل وجودها الطبيعيّ ليس فقط شروط الإنتاج الاقتصاديّة، لكن أيضًا، وعلى قدم المساواة، شروطًا سياسيّة من أجل [ترسيخ] حكمها الطبقيّ (…) يستتبع هذا أن هذا الشكل المُحدّد من الطموح الموطنيّ، [الذي يمثّل] المصلحة الحقيقيّة للبرجوازيّة، هو استقلال الدّولة. إن الدّولة الموطنيّة هي، وفي الوقت نفسه، ذلك الشكل التاريخيّ الضروريّ الذي تنتقل فيه البرجوازيّة من الدّفاع الموطنيّ، إلى الهجوم؛ من حماية وتركيز مجموعاتها الاجتماعيّة، إلى الاكتساح السياسيّ والهيمنة على مجموعات اجتماعية أخرى.(20)
هذا التشخيص الدّقيق باعتبار الدّولة مشروعًا مركزيًّا للبرجوازيّات الرأسماليّة، وأداتها الضّاربة التي تحتكر من خلالها العنف داخليًا، وتستخدمها لفتح الأسواق، والاستحواذ على الموارد، وتأديب العُصاة، خارجيًّا، ما زال في مركز وظيفة هذا الإطار السياسيّ اليوم، ونشاهد دلائله يوميًّا في شكل الحروب الاقتصادية، والغزو والتدخّل العسكريّ، والأنشطة الاستخبارية، وقلب أنظمة الحكم، والحصار والعقوبات، وغيرها من أدوات التدخّل المباشر التي لا يستطيع أيّ إطار آخر تنفيذها بفاعليّة، سوى الدولة الموطنيّة؛ بينما تحتلّ «الدّولة» أيضًا مركز اهتمام أشكال السُّلطة التابعة، الكمبرادوريّة، الوظيفيّة، الفاقدة تمامًا للسّيادة، مثل المجموعات الحاكمة في المنطقة العربيّة، وإن أخذت شكل نطاقات الهيمنة والنّفوذ، والكيانات الوظيفيّة، التي تُقدّم على أنها «دولة»، فتُدافع عنها بالحيلة والتوسّل، أو بالأظافر والأنياب، أو بالحديد والنّار، لأنها -وببساطة- الضّمانة الوحيدة لوظيفيّتها، وبالتالي وجودها، والإطار السياسيّ الذي تستطيع بواسطته فرض إرادتها، أو متطلّبات رُعاتها، على الناس الذين تتسلّط عليهم.
«الدّولة-«الوطن» [أو الدّولة الموطنيّة]، باعتبارها أداةً للهيمنة وإخضاع المجموعات الاجتماعيّة الخارجيّة، هي أمر لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للبرجوازيّة،» تقول روزا لوكسمبورغ، «إلا أنّها، وعندما يتعلّق الأمر بالمصالح الطبقيّة للبروليتاريا، بلا معنى»؛ أو لنقل، ذاتُ معنىً معكوس، نقيض، بالنسبة للمضطهَدين باعتبارها أداةً للاضطهاد. هكذا تخلُص لوكسمبورغ إلى النّتيجة التّالية: «إنّ المهمّة التاريخيّة للبرجوازيّة هي إنشاء الدّولة الموطنيّة المُعاصرة، لكن المهمّة التاريخيّة للبروليتاريا هي تصفية هذه الدّولة باعتبارها الشّكل السياسيّ للرأسماليّة».(21)
من الدولة الموطنيّة إلى الإمبرياليّة: روزا تسبق لينين
بينما كان ردّ لينين، في مقالة محدودة الاتّساع والرؤية، يُمثّل موقفًا قاطعًا، وحاسمًا، ولا تاريخيًّا، لناحية حقّ الشّعوب بالانفصال، مُقدّمًا قراءةً حتميّةً (بغض النظر عن حيثيّات وظروف كلّ حالة) تفيد بأن الانفصال سيدفع تلك الشّعوب على طريق التطوّر الرأسماليّ والتّصنيع، كانت روزا لوكسمبورغ قد قدّمت قبله قراءة أكثر عمقًا وموضوعيّة وذكاءً وحنكة في عدّة مقالات، وصلت ذروتها في كتابها «المسألة الموطنيّة»، الذي سبقت فيه صاحب «الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسماليّة»، لينين نفسه، وانطلاقًا من الموضوع نفسه، أي حقّ تقرير المصير، في الحديث عن الإمبرياليّة، وعن استحالة تحقّق السيادة والاستقلال في عالم تسوده الرأسماليّة، إلا للدّول الكبرى، أمّا الدّول الأخرى، الصّغيرة، فاستقلالها وسيادتها هو مجرّد وهمٍ من الأوهام. «إن نشوء قوى دوليّة، وهي ظاهرة تنمو أهمّيتها في زماننا مع تقدّم الرأسماليّة،» تقول لوكسمبورغ، «تحكم منذ البداية على الشعوب الصغيرة بالعجز السياسيّ. باستثناء قلّة من الشّعوب بالغة القوّة (…) فإن تقرير المصير، أي الوجود المستقلّ للشعوب الأصغر والأقلّ شأنًا، هو مجرّد وهم».(22)
الدّولة الموطنيّة، كما رأينا سابقًا، هي أداة البرجوازيّة الرأسمالية في الهيمنة الدّاخلية، وتركيز قوّتها، ومن ثم الانتقال من الدّفاع (عن السّوق الموطنيّة بالجمارك والجيش) إلى الهجوم (على الدّول والمجموعات الاجتماعيّة الأخرى للاستحواذ على الموارد والأرباح)، بل إن لوكسمبورغ ترى أن دولًا مثل (هولندا) قد قفزت مباشرة إلى الإمبرياليّة بغزوها واستعمارها بلدانًا أخرى دون أن تنتظر نشوء سوق موطنيّة ناضجة ومشبعة أوّلًا (نظرًا لصغر هذه السّوق/الجغرافيا ومحدوديّتها).
هكذا شخّصت لوكسمبورغ الإمبرياليّة وأهميّتها المركزيّة بالنسبة للرأسماليّة وتطوّرها في وقت مبكّر، لكن الأهمّ، هي الاشتقاقات الأساسيّة من هذه الفكرة: إن كانت الرأسماليّة تنزع باضطراد إلى الخروج من «موطنيّاتها»، لتتحوّل إلى فاعل عالميّ بالمعنيين الاقتصاديّ والسياسيّ (ما نسمّيه اليوم: الرأسماليّة المعولمة)، محوّلة دولها الموطنيّة إلى قوى هجوميّة وتدخّليّة عظمى ودوليّة، ومحوّلة أغلبيّة دول العالم الصّغيرة إلى كيانات وظيفيّة، تابعة، لا تملك من استقلالها وسيادتها سوى الاسم المُفرغ من المضمون، ولا تملك أن تتحوّل بدورها إلى دول موطنيّة بدورها لعدّة اعتبارات، أهمّها الشكل الاقتصادي-السياسيّ المتداخل في عالم اليوم، وإمكانيّات التدخّل السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ للدول الكبيرة في الدول الصغيرة، فهي لا تملك القوّة، ولا إمكانيّات القوّة، لمثل هذا التحوّل، عندها يُصبح تحرّر الكيانات الوظيفيّة من التبعيّة مهمّة غير محليّة، لا تتعلّق بالتحرّر من الوظيفيّة في سياق الرأسماليّة، بل بالتحرّر من الرأسماليّة نفسها وبالتالي من هذا التّقسيم (قوى عظمى تتصارع على بسط نفوذها على أسواق، وموارد، وجغرافيّات كيانات ومجموعات اجتماعيّة صغيرة و/أو ضعيفة)، أيّ مقاربة أخرى هي مقاربة مستحيلة، وغير ممكنة التحقّق.
أوهام الديمقراطيّة: ديكتاتوريّة الرأسماليّة المغلّفة بسُكّر «الحقوق» الليبراليّة
«إن تبعيّة أو استقلال الدول الموطنيّة يتحدّدان لا من خلال تصويت الأغلبيّة في أشكال التمثيل البرلمانيّ،» تكتب لوكسمبورغ، «بل بتطوّرها الاجتماعي-الاقتصاديّ، بالمصالح الطبقيّة الماديّة، أما بالنّسبة للشؤون الخارجيّة، فيتحدّد بالحرب».(23)
لا يرفع التصويتُ في انتخابات عامّة أو يخفّض من مصائر المجموعات الاجتماعيّة أو الكيانات السياسيّة إلا بالمقدار الذي يُترجم على شكل قدرة وقوّة. تقدّم لوكسمبورغ دليلها استنادًا إلى المثال الأقرب إلى قلبها، بولندا: «إن الشّعب البولنديّ يمكنه الوصول إلى «حقّ» تقرير مصيره فقط عندما يمتلك القدرة الفعليّة، والقوّة الضروريّة، لتحقيقه. عندها سيتمكّن من تقرير المصير لا على قاعدة «حقوقه»، بل على قاعدة قوّته». خطاب الحقوق مصمّم فقط لرجّ الهواء، لا لرجّ أساسات نظام الاستغلال وإسقاطه، وهو ما يقود لوكسمبورغ لسؤال مهمّ ومركزيّ آخر: من، وما، هو «الشّعب»؟
قد يكون للـ«شعب» «حقّ» تقرير المصير، لكن ما هو هذا «الشّعب»؟ ومن ذا الذي يملك السّلطة و«الحق» بالحديث باسم «الشّعب» والتعبير عن إرادته؟ كيف يُمكننا ان نعرف ما الذي يريده «الشّعب» حقًّا؟(24)
ذكرنا سابقًا أن «الشّعب» ليس، ولا يمكن أن يكون، كلًّا متجانسًا، بل هو مجموعة من الناس ذوي مصالح متعارضة ومتناقضة، يقف على رأسها الاستغلال الذي يقسمهم إلى جزئين: أقليّة ضئيلة مُستغِلّة، مرفّهة، ثريّة، قامعة، مُهيمنة، رأسماليّة صاحبة سُلطة، تحكم الدول الموطنيّة والكيانات الوظيفيّة باسم الجزء الثاني، الأكثريّة المُستغلَّة، الكادحة، الفقيرة، المقموعة، المضطَهدة، المُهيمَن والمُتسلَّط عليها، والتي لن تملك أبدًا إمكانيّات التّغيير داخل سياق الرأسماليّة. حين تكون الثروة والقوّة والسّلطة مترادفات، كما هو في الرأسماليّة وتعبيراتها السياسيّة (دولها وكياناتها)، تكون المساواة كذبة كبرى، وتظلّ محشورة في خطاب كلاميّ، «حقوق» مُتخيّلة لا أثر لها في الواقع، بينما يستمرّ الواقع الفاقع التّمييز بالبقاء.
لهذا فإن روزا لوكسمبورغ ليست معنيّة أبدًا بـ«إرادة الأغلبيّة»، هذا وهم تحكم من خلاله البرجوازيّة وتتحدّث باسمه. «لا تدّعي الديقراطيّة الاجتماعيّة أنّها تجسيدٌ لإرادة الأغلبيّة. إنّها تعبّر فقط عن إرادة ووعي القسم الأكثر وعيًا وتقدّمًا من البروليتاريا الصّناعيّة المدينيّة (…) إن «إرادة الشّعب/الأمّة» أو «إرادة الأغلبيّة» ليست وثنًا تركع أمامه الديمقراطيّة الاجتماعيّة بخنوع، بالعكس، إن المهمّة التاريخيّة للديمقراطيّة الاجتماعيّة تقوم على تثوير وتشكيل إرادة «الشّعب»، أي أغلبيّته من الطبقة العاملة».(25)
بالنسبة لروزا لوكسمبورغ، «الشّعب» هو لا شيء آخر سوى جموع المضطهَدين، و«إرادة الشّعب» هي تخلُّصُهم من الاضطهاد والاستغلال وتحقيق المساواة التّامة عبر الصّراع الطّبقي الذي يرمي إلى تصفية مصدر الاضطهاد والتّمييز واللامساواة: الرأسماليّة نفسها. «إن مهمّة الديمقراطيّة الاجتماعيّة هي ليست تحقيق حقّ تقرير المصير للشّعوب، بل تحقيق حقّ تقرير المصير للبروليتاريا، للطبقة العاملة المُستغَلّة والمقموعة».(26)
بهذا الشكل الواضح والمباشر، تتحوّل «الحقوق» من خطاب دعائيّ برجوازيّ، إلى برنامج عمل سياسيّ بروليتاريّ، من ميتافيزيقا، إلى تعبيرات ماديّة سياسيّة-اقتصاديّة-اجتماعيّة واضحة، من تطلّعات وأحلام ومطالب، إلى برنامج عمل. المساواة لا تتجزّأ، فلا معنى للمساواة الثقافيّة أو العقائديّة أو الإثنيّة أو السياسيّة أو مساواة النوع الاجتماعيّ، دون أن تتحقّق أيضًا المساواة الاقتصاديّة. والمساواة الاقتصاديّة لا معنى لها كشعار، كمطالبة، دون أن يتمّ العمل من أجل تحقيقها فعليًّا بتصفية سبب انعدامها، أي الرأسماليّة التي تصنع الأزمات والتفاوت وغنى الأقليّة الفاحش وفقر الأغلبيّة المدقع. أيضًا: دون أداة، ليس ثمّة إمكانيّة للعمل، والأداة تتحقّق من خلال الحزب الثوريّ الذي يرفع الوعيّ الطبقيّ لعموم المُضطهَدين، فينتظمون في طبقة ثوريّة هي بالثّورة وتقودها.
هذا هو اللبّ المركزيّ لتنظيم عصبة سبارتاكوس – الحزب الشّيوعيّ الألمانيّ الذي قادته روزا لوكسمبورغ إلى جوار كارل لِيبْكْنِشْتْ، وصاغت أفكاره الأساسيّة في كرّاس: «ما الذي تُريده عُصبة سبارتاكوس؟»(27) وفي كلمتها العاصفة أمام المؤتمر التأسيسي للعصبة/الحزب،(28) والتي ألقتها يوم 31 كانون الأول عام 1918، قبل خمسة عشر يومًا من اغتيالها.
«إن تحرّر الطبقة العاملة يجب أن يكون من فعل الطبقة العاملة نفسها،» يقول الكرّاس، متابعًا: » عصبة سبارتاكوس ليست حزبًا يريد الصعود إلى السّلطة من فوق أكتاف العمّال أو من خلالهم. عصبة سبارتاكوس هي فقط الجزء الأكثر وعيًا وقوّة إرادة من البروليتاريا، التي تُلفت انتباه الكتلة الواسعة للطبقة العاملة، طوال الوقت، وفي كلّ خطوة، نحو مهمّتها التاريخيّة».(29)
في كلمتها المذكورة، والتي قوبلت في نهايتها بعاصفةٍ من التّصفيق والهتاف، أعلنت لوكسمبورغ: «لم ولن تتحقّق الاشتراكيّة من خلال الفرمانات، ولا يمكن تأسيسها من قبل حكومات، مهما كانت هذه الأخيرة اشتراكيّة. يجب أن تُخلق الاشتراكيّة من قبل الجماهير (…) في كلّ مصنع، من قبل كلّ بروليتاريّ في مواجهة مُوظِّفه (…) حيثما تتشكّل قيود الرأسماليّة، هناك ينبغي كسرها. تلك وحدها هي الاشتراكيّة، وهكذا فقط يمكن أن تُخلق الاشتراكيّة». وتختم لوكسمبورغ كلامها بالجّملة التّالية: «هناكَ، في القاعدة، حيث يواجه المُوظِّف عبيده المأجورين؛ في القاعدة، حيث تواجه الأدوات التنفيذيّة للحكم الطبقيّ السياسيّ موضوع حُكمها: الجماهير؛ هناك، خطوة خطوة، علينا أن نستحوذ على أدوات القوّة من الحُكّام».(30)
ليس ثمّة «حزب قائد» عند لوكسمبورغ، الحزب الثوريّ هو مجموعة واعية للظّلم، تُشخّص القائمين عليه، وتشخّص المُتضرّرين منه، وتدفع جموع المتضرّرين إلى الحركة، الفعل، الثّورة، إلى الاستحواذ على السّلطة وتدمير الأداة السياسيّة لحكم المُستغلِّين وسطوتهم: الدّولة البرجوازيّة، بناءً على برنامج عمل توضّحه، بالتّفصيل، وثيقة «ما الذي تريده عصبة سبارتاكوس؟»، ويتلخّص في: إنشاء مجالس العمّال والجنود المُنتخبة في المدن والأرياف تستبدل كلّ الأجهزة السياسيّة والإداريّة للدّولة، مع حق العمّال والجنود في إلغاء تفويض الشّخص المُنتخَب في أيّ وقت؛ إلغاء كلّ التقسيمات الإداريّة وتوحيد البلاد في جسم واحد يُديره مجلس مركزيّ للعمّال والجنود تنتخبهم المجالس المحليّة المُنتخبة (أي: حكم محليّ مستقلّ واسع من خلال المجالس، داخل جسد كليّ مركزيّ قويّ هو الكيان البروليتاريّ الجديد)؛ نزع سلاح الطبقة الحاكمة وأدواتها ونقل السّلاح إلى مجالس العمّال والجنود؛ إنشاء محاكم لمحاسبة الطبقة الحاكمة؛ إلغاء كلّ أشكال التّمييز في المكانة والألقاب، والمساواة الكاملة (القانونيّة والاجتماعيّة) بين الجميع (بما في ذلك الرّجال والنساء)؛ مُصادرة الثروة التي تتجاوز حدًّا مُعيّنًا؛ شطب جميع الدّيون المترتّبة على الدولة؛ وضع جميع المصانع الكبيرة والملكيات الزراعيّة المتوسّطة والكبيرة تحت تصرّف مجالس العمّال والجنود المحليّة؛ وغيرها من أمور تجعل من «الثورة» لا امرًا تجريديًّا فاقدًا للتمظهرات الماديّة الفعليّة، بل أمرًا ممكنًا يتشكّل داخل تعبيرات سياسيّة فعليّة قابلة للممارسة بشكل شموليّ لا ينسى التّفاصيل، لكنّها يضعها دومًا داخل الإطار الشموليّ العام. «بالنسبة لنا،» تقول لوكسمبورغ في كلمتها أمام السبارتاكوسيّين، «لا وجود لبرنامج حدّ أدنى أو برنامج حدّ أقصى؛ الاشتراكيّة هي شيء واحد متكامل: هذا هو الحدّ الأدنى الذي علينا أن نُحقّقه اليوم».(31)
دروس للحظتنا الرّاهنة
اليوم، فكّكت الرأسمالية التّنظيم: فكّكت النقابات العمّالية، وحوّلت أحزابهم من اليسار إلى اليمين، وعولمت سوق العمل ومنعت العمّال من الانتقال من الجنوب المُنتهك إلى شمال «الحقوق والحريّات»، عزلت المجموع في أفراد، منجزةً التفكيك النّهائي لإمكانيّات المعارضة السياسيّة المنظّمة القادرة على تهديدها حقًّا. من الخلاص الجماعيّ من الرأسماليّة ومصائبها، صار الأفراد يبحثون عن خلاصهم الفرديّ، الاستهلاكيّ، داخلها، وفي هذا هزيمتهم النهائيّة إذ يدوسون بعضهم بعضًا إذ يحاولون الوصول للـ«وعد»، للـ«حلم» الذي يبقى، نهاية الأمر، حلمًا؛ فيما تبقى الرأسماليّة نفسها واقعًا يعيد إنتاج نفسه، بكل رذائله، بنجاح.
من الحزب والتّنظيم الثوريّين، انتقل «النشطاء» إلى العمل الفردي-الشبكاتيّ المفتوح، غير القادر على تشكيل تهديد حقيقيّ للوضع القائم؛ ومن المنظورات الشموليّة التي تندرج في إطارها التّفصيلات، صارت التّفصيلات المعزولة هي هدف العمل وطموحه؛ ومن الأدوات السياسيّة القادرة على التّغيير، صارت المطالب المنزوعة الأسنان هي شكل التحرّك القائم والمسموح.
تبدو ملاحظات وتشخيصات روزا لوكسمبورغ التي كتبتها في مطلع القرن الماضي، دقيقة وصالحة لمطلع القرن الحادي والعشرين؛ صالحةً للانتفاضات المغدورة في المنطقة العربيّة التي كانت ستستفيد كثيرًا من تشخيصها وتعريفها للدّولة، والسّلطة، والمجموعات الاجتماعيّة، والرابط الطبقيّ بين المُضطهَدين، وأدواتها السياسيّة المُقترحة كبديل عن أطر الهيمنة القائمة.
في عالم اليوم، خصوصًا في منطقتنا العربيّة وأطراف العالم، حيث تتركّز بشكل هائل إفرازات ظلم الرأسماليّة واستغلالها، تظلّ آفاق الثّورة قائمة ومفتوحة على المستقبل بتعبيراتٍ مُختلفة، لهذا، ستظلّ روزا لوكسمبورغ راهنةً وضروريّة، وبرسم الاستفادة من منجزها النظريّ والسياسيّ.
التعليقات مغلقة.