داعش وأمريكا وإيران وتوظيف الإسلام السني ضد الإسلام الشيعي (1/3) / أ.د محمد الحموري

 

أ.د محمد الحموري * ( الأردن ) الأحد 9/8/2015 م …

*وزير العدل الأردني الأسبق

الجزء الأول:

تقديم وتمهيد:

عشت في دول أوروبا وأمريكا سنين كثيرة بين طالب يبحث عن المعرفة وأستاذ يقدمها لطلابه. وساكنت وزاملت عديد الإخوة من لبنان وسوريا والعراق، وحتى الآن لا أعرف إلى أي مذهب أو طائفة ينتمي كل منهم، إذ التساؤل حول هذا الأمر لم يكن جزءاً من التكوين الذهني لأي منا. وشدني كثيراً ما وجدته في بلاد الغرب تلك، ولا أجد ما يعبر عن ما وجدت أفضل مما جاء على لسان الإمام محمد عبده عندما قال: “وجدت عندهم إسلاماً من غير المسلمين، في حين يوجد عندنا مسلمون من غير إسلام”.

وعاشت هذه المفارقة في ذهني مع تساؤلات حول هذا الاختلاف، فلم أجد سبباً سوى انفراد الحاكم بالسلطة والاستئثار بها، كإقطاعية خاصة لمن يجلس على كرسيها، وتحت هذا الكرسي وحوله، فقه سلطاني مأجور، يدفع صاحب الكرسي إلى طلب المزيد، لا فرق بين فقه سلطاني شرعي سابق أو دستوري حالي. وترتب على هذا، غياب الحريات السياسية في المجتمع منذ قرون، وامتد هذا الغياب حتى الآن، إذ لا السلطان ارعوى، ولا الرعية كسرت حاجز الخوف وجأرت لاسترداد حقوقها المأسورة عنده. وكانت المحصلة أن انحراف أولي الأمر أصحاب السلطة وفسادهم، أنتج فقراً وتخلفاً، وتأثيراً على السلوك الفردي والجمعي والقيم الفاضلة، فأصبح النفاق وسيلةً للتكسب والباحثين عن موقعٍ في السلطة وأصبح الكذب وخراب الذمم والقيم والخروج على القانون جزءاً من وسائل كسب لقمة العيش، وفساد من هم بالقمة يرتعون، مبرراً لهم وبه يتسترون. وعندما ارتدى الإرهاب ثوب الجهاد الإسلامي، وأصبح تجارة عند صاحب المال والنفوذ، ودفعه للمال بسخاء، تقاطر إليه الباحثون عن ملاذ من ظلم السلاطين. وفي الوقت الذي نشرت فيه عدة مؤلفات وعشرات المقالات والدراسات عن الإصلاح الدستوري في مجال الحقوق والحريات السياسية، فقد وجدتُ أن الفقه السلطاني الشرعي، الذي استقر في بطون كتب بعينها، وخدم من أرادوا استثماره، يسهل إيقاظه واستدعاءه، ليلبس عمائم أمريكية ويبطش بالحاضر، ليكون القاتل مسلماً والمقتول مسلماً، والمنتشي بالقتل عرابٌ من بلاد الكاوبوي.

وهكذا وجدت نفسي أعكف على إعداد كتاب عنوانه الأولي، “الإسلام والحريات السياسية وإصلاح ما أفسده السلاطين وفقهاؤهم”. وهذه الدراسة، هي جزء من فصل مطول من الكتاب، وجدت أن المرحلة الحاضرة تستدعي نشر إيجاز لها، فكان الإيجاز على النحو التالي:

1. أمريكا تصدر الفتوى الشرعية الدامية والسلاطين وفقهاؤهم يصدعون بالتنفيذ: فوجئ العالم يوم 9/6/2014، بقيام تنظيم تكفيري يطلق على نفسه “الدولة الاسلامية في العراق والشام “وأصبح يعرف بتنظيم داعش، وباحتلاله مدينة الموصل ذات المليوني نسمة، وثاني أكبر المدن العراقية، وانهيار قوات الجيش العراقي هناك، واستيلاء التنظيم على معسكرات هذا الجيش وأسلحته وعتاده وطيرانه الحربي، فضلاً عن استيلائه على فرع البنك المركزي في المدينة بما فيه من مئات الملايين، وعلى حقول النفط، وسقوط مدينة تكريت عاصمة محافظة صلاح الدين بعد يومين، وإعدام آلاف المواطنين، ثم في 29/6/2014، أعلن التنظيم قيام الخلافة الاسلامية في العراق وسوريا، وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة في الدولة الجديدة. وسرعان ما تحولت أنظار العالم وصحفه ووكالات أنبائه إلى العراق، متسابقة بلهفة على نشر أعداد آلاف القتلى والجرحى، ومئات الآلاف من النازحين، يشدها إلى ذلك، أن تنظيماً ارهابياً دموياً أصبحت له بقعة جغرافية أسس فيها دولته لينطلق منها في توسعه، ويسيطر على حقول نفط الموصل فيموّل نفسه من ثمن بترولها، ويصبح أغنى التنظيمات الإرهابية.

وسبب المفاجأة، أن هذا التنظيم، لم يكن له ذلك الحضور الذي يشي بهذه القوة على الساحة العراقية أو غيرها، لكنه خلال شهر حزيران من عام 2014، ظهر بقدرات تنظيمية وقتالية تهزم جيشاً وتحتل أراضي شاسعة لإقامة دولة وتنصيب خليفة عليها، ويتبع أساليب في قتل خصومه أو من لا يؤمن بنهجه، في غاية الوحشية والشذوذ، مثل الذبح والصلب وتقطيع جسد الانسان والحرق وغيرها من الأساليب الوحشية.

ووفقاً للدراسات الباحثة في جذور هذا التنظيم، فقد كان في الأصل فرعاً لتنظيم القاعدة الجهادي في العراق، شأنه في ذلك شأن العديد من التنظيمات الأخرى ويحارب القوات الأمريكية منذ احتلالها للعراق عام 2003، وكانت أمريكا قد أنشأت تنظيم القاعدة الأم في أفغانستان، ليحارب الاتحاد السوفييتي ويصطاد الدب الروسي هناك، انطلاقاً من مفهوم جهادي إسلامي عند أهل السنة، فصلته أمريكا بالتعاون مع بعض الدول العربية والإسلامية، باعتباره واجباً عقيدياً يحض عليه دين المسلمين، وأنه للوصول إلى ذلك تم إنشاء آلاف المدارس الإسلامية التي تلقن طلابها وعناصر طالبان كيفية الجهاد في الإسلام.

ووفقاً للأمر الرئاسي الذي وجهه الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في حينه إلى الجهات الأمنية والعسكرية والسياسية الأمريكية في أواخر ديسمبر عام 1980، فإن على هؤلاء المسلمين الذين سيتم حشدهم لمقاتلة الاتحاد السوفييتي أن ينطلقوا من عقيدة راسخة، بأن من يموت يكون شهيداً مأواه الجنة، ومن يظل حيّاً، فله مكافأة مالية تجعله يعيش سعيداً في حياته.

وكانت صيغة الأمر الرئاسي حسبما أورد نصـه (John K. Cooley) في كتابه الحروب غير المقدسة (Unholy Wars) على النحو التالي: “تكون قيادات العمليات في الـ CIA هي الجهة الوحيدة في الحكومة الأمريكية التي عليها واجب تنفيذ المهمات السرية في دعم قادة الدول الأخرى، والأحزاب السياسية أو حرب العصابات في أفغانستان. وينبغي استخدام أقل عدد ممكن من رجال الـ CIA، والتأكد من أن المقاتلين المستخدمين، لديهم الحرص والدافع للقتال وتم تدريبهم على أفضل وجه ممكن. وأن يقوم رجال وكالة الـ CIA باختيار زملاء لهم من رجال القوات المسلحة، وبدعم من الجيش الباكستاني، بتدريب جيش المسلمين المتحمسين، فور الحصول على موافقة باكستان. وأفراد هذا الجيش يمكن الدفع لهم بسخاء، وسيتم تدريبهم وتشكيل جبهة منهم بمساعدة الحكومات الإسلامية المعادية للشيوعية، مثل باكستان المحاذية جغرافياُ والسعودية الثرية مالياً…. وهناك وحدات عسكرية أخرى ستلحق بهم في الوقت المناسب. فهذه الدول يمكن أن تدرب جيشاً ضخماً من المترتزقة المستأجرين، ليكون أكبر جيش شهدته أمريكا في تاريخها.

وعملياً يجب أن يكون جميع أفراد هذا الجيش من المسلمين المتعصبين في اعتقادهم بأن الله يأمرهم بمحاربة أعدائه المتمثلين بالروس الذين غزوا أفغانستان المسلمة. وأن مكافأتهم في الحياة الدنيا ستكون السعادة الدنيوية والمكافأة المالية الشخصية، وأن من سيموت منهم سيكون شهيداً ومأواه الجنة”. انظر: Unholy Wars: Afghanistan, America and International Terrorism with a Forward by Edward Said – 3rd ed., Pluto Press, London 2002, pp 13-14 ولهذه الغاية التي حددها كارتر، تم تزويد المجاهدين بنشرات وكتبيات تعلمهم فنون القتال وطرائقه، لكنه منذ أن تم طرد الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وعودة المجاهدين إلى أوطانهم، وبداخلهم عقيدة الجهاد التي تمكنت منهم، أصبحوا في نظر دولهم ودولة أمريكا والعالم الغربي إرهابيين. وهكذا أصبحت الساحة العراقية مأوى للمجاهدين من تنظيم القاعدة الإرهابية، يمارسون فيها ما تعلموه من فنون القتال، ولكن ضد عساكر أمريكا.

ويبدو أن تطرف القاعدة ونهجها الذي يدعو إلى الجهاد وإقامة الخلافة الإسلامية وأسلوبها في ممارسته، لم يكن كافياً عند عديد من القيادات المستجدة على التنظيم في فرع العراق، حيث رأت أن المراجع الدينية التي تستند إليها، تفرض نهجاً في التشدد وأساليب القتال، يتجاوز الأساليب التي غدت مألوفة عند القاعدة وغيرها من التنظيمات الجهادية، وأن هذا النهج الذي يؤمنوا به هو الطريق الأنجع للوصول إلى دولة الخلافة. وسيطر هذا النهج في النهاية، وخط أتباعه طريقاً جديداً تميز عن القاعدة الأم، وأطلق على نفسه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، واختصار الاسم، إلى كلمة “داعش” التي تتكون من أول حروف اسم الدولة الجديدة. ورغم التطرف الذي كان ينتهجه تنظيم القاعدة، فإن هذا التنظيم بقيادة الظواهري في أفغانستان، أصبح يتهم أساليب داعش بالوحشية وعدم الإنسانية.

ونعتقد أن كلمة وحشية، هي أقل بكثير من الوصف الحقيقي لداعش. ففي شرائع السماء والأرض، هناك حقوق للأسير، لا يُقبل تخطيها، وهذا ما شهده تاريخ الاسلام بأحلك الفترات التي مر بها. ومع ذلك، فالأسير عند داعش يتم قتله عن طريق الحرق أو الذبح أو الصلب أو التقطيع إلى أجزاء باسم دين المسلمين. والتساؤلات الآن، كيف استطاع تنظيم داعش أن ينمو ويكبر، وتكون لديه هذه القوة والتسليح والتجهيزات والأعداد الكبيرة من المقاتلين، التي تمكنه من احتلال أراضٍ واسعة وأجزاء من الدول وهزيمة الجيوش؟ أين كانت عيون الأجهزة الاستخباراتية العربية والعالمية المنتشرة على أراضي العراق من هذا التنظيم؟ أين كانت وكالة الـ CIA وأقمارها التجسسية التي تسبح في السماء ولا تغمض لها عين؟ هل عرفت أمريكا وكليماتها في أوروبا وسلطات سايكس بيكو العربية بقيام التنظيم ونموّه وسكتت، تقديراً منها بأن هذا التنظيم سيوجه قدراته ضد إيران ونفوذها في العراق وحماية أهل السنة؟ هل ساعدته في قيامه ورعته، لينطلق من العراق إلى سوريا والتخلص من نظام الأسد تحت ذريعة عدم إقامته للديموقراطية!!، وبالتالي قطع الشرايين التي تمد حزب الله بالحياة؟

فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أنشأت أمريكا الحلف الدولي لمحاربة داعش، هل هذه الأمريكا عاجزة بقدراتها ويدها الطويلة عن الإجهاز على داعش؟ ثم لماذا تراخت أمريكا وتحالفها الدولي عن مواصلة ضرب داعش، وهو يتوسع في احتلال أراضي في العراق وسوريا؟ ليس مقنعاً أن لا تعرف أمريكا عن قيام تنظيم داعش ونموه، وليس مقنعاً أن لا تكون أمريكا، بوسائلها المختلفة، وراء تسليح هذا التنظيم، سواء بتسهيل هذا التسليح أو السكوت عليه، فقد كان التنظيم معشوقاً لهذه الأمريكا، عندما كان موظفاً لذبح عساكر الدولة السورية، بحجة غياب حكم ديمقراطي فيها‼! فأمريكا هي الأم التي أنجبت نظرية الفوضى الخلاقة لإعادة رسم المنطقة العربية وتمزيق ما مزقته اتفاقية سايكس بيكو. وعندما انفجرت الشعوب العربية مع عاصفة الربيع العربي، عملت أمريكا جاهدة على أن تنحرف ثورات الشعوب عن مسارها، وكانت أنجع وسائلها في ذلك، قيام حروب أهلية في دول تلك الثورات، ليقول الرئيس الأمريكي أوباما بعد ذلك، لقد تحول الربيع العربي إلى شتاء عربي. يضاف إلى هذا، أن تراخي أمريكا الواضح في ضرب تنظيم داعش يعني، أنها أوكلت لداعش إلباس الإسلام أبشع صورة يمكن أن يتخيلها العقل البشري، عندما يتم ذبح الانسان وحرقه حياً وصلبه باسم شرع المسلمين، وكان آخر هذا الشذوذ، تفويض الصبيان من منظمة أشبال داعش، بعملية الذبح لضباط الجيش السوري.

ولا غرابة عند أمريكا في كل ذلك، أليست هي التي حشدت بقرار أصدره رئيسها، أكبر جيش إسلامي مغسول الدماغ ليتصدى للسوفييت في أفغانسان، تحت ذريعة محاربة الكفار وإقامة دولة الخلافة، والعودة إلى ذات النمط المعيشي والحياتي الذي كان سائداً أيام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب!! هل كان أي عاقل يتصور أن بمقدور أمريكا إقناع القاعدة وطالبان أن الإسلام يقتضي إلغاء مفاعيل أربعة عشر قرناً من الزمان ليأتي من يخلفهم باسم تنظيم داعش ويطرح ذات المفاهيم؟ ثم هل أبو بكر البغدادي ومن معه، هم في مكان صحابة رسول الله؟ وهل كان الصحابة يصلبون من يخالفهم الرأي أو يحرقونه أو يقطعونه إرباً رغم أنه مسلم ينطق بالشهادتين؟

ولعل المفارقة هنا، أننا وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها سلاطين الاستبداد من مخلفات سايكس بيكو أخف وطأة وأكثر رحمة من تنظيم داعش، إذ من يخالف هؤلاء السلاطين الرأي يودع في السجن ويظل له أمل في الحياة، في حين جزّ الرقاب عند داعش أسهل من شربة الماء.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.