أزمة أوكرانيا ستنتهي بزوالها كدولة / جورج حداد

 

جورج حداد ( لبنان ) الإثنين 10/8/2015 م …

بعد إزاحة العميل يلتسين عن السلطة في الدقيقة الأخيرة من سنة 1999، بدأت في روسيا مرحلة جيو ـ سياسية جديدة، (ربما كان من السابق لاوانه تسميتها: المرحلة البوتينية، بالمعنى التاريخي لا الروزنامي)، ولكنه من الواضح ان هذه المرحلة تسير بقيادة بوتين (والمجموعة العسكرية ـ الأمنية ـ الاقتصادية ـ السياسية ـ الاكاديمية، التي تحيط به).

الاوراسية

وبدون ضجة وقرع الطبول الفارغة، تعمل القيادة الروسية بزعامة بوتين، انطلاقا من قاعدة جيوستراتيجية أساسية هي فكرة: الاوراسية. التي تقوم على الانفتاح والتعاون الخلاق، في كل المجالات، بين الدول والشعوب والمجموعات الحضارية والدينية في القارتين العظميين: اسيا وأوروبا. ونشير هنا بشكل خاص الى “العوالم”: المسيحي الشرقي بزعامة روسيا، والإسلامي، والكونفوشيوسي والبوذي.

وتعتبر القيادة الروسية ان دورها هو أساسي في هذه الجيوستراتيجيا، نظرا لان روسيا نفسها، ذات المساحة الشاسعة والتاريخ العريق والقدرات الاقتصادية غير المحدودة والقوة العسكرية المتفوقة، تمثل بحد ذاتها النواة الصلبة للفكرة الاوراسية. وقد حققت روسيا حتى الان نجاحين كبيرين على هذا الصعيد:

روسيا والصين

الأول ـ إقامة علاقات مميزة واسعة النطاق مع الصين الشعبية. وبناء على هذه العلاقات تم تأسيس منظمة “بريكس”، التي تشمل جمهورية جنوب افريقيا في افريقيا، والبرازيل في اميركا اللاتينية، والتي تقدم نموذجا يحتذى به للعلاقات الندية المتساوية وذات المنفعة المتبادلة بين الدول والشعوب.

روسيا وايران والمقاومة

والثاني ـ إقامة علاقات تعاون عضوي وثيق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومع المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، مما يؤسس لزحزحة وزعزعة وأخيرا القضاء على سياسة الغطرسة والتفرقة والتسلط الامبريالية التقليدية على العالم العربي ـ الإسلامي، ووضع أسس جديدة للعلاقات البناءة متبادلة النفع بين الدول العظمى والعالم العربي ـ الإسلامي، الذي هو ركن أساسي في التشكيلة الحضارية العالمية.

المواجهة العالمية مع “الأطلسية”

وتواجه فكرة “الاوراسية” (ذات المنطلق: الروسي ـ الشرقي) فكرة “الأطلسية” (واكثر تحديدا: الشمال الأطلسية، ذات المنطلق: اليهودي ـ الأميركي ـ الغربي). وتقود الفكرة “الأطلسية” الطغمة المالية اليهودية العليا، التي تسيطر على اميركا ماليا (بواسطة الدولار الورقي الذي لا تغطية ذهبية له، والمعترف به مع ذلك بأنه “العملة الدولية”)، ومن خلال السيطرة على اميركا تعمل الطغمة اليهودية العالمية العليا لوضع اوروبا الغربية خاصة والاتحاد الأوروبي عامة تحت مظلة النفوذ الأميركي، ومن خلال هذا التكتل الاميركي ـ الأوروبي يجري العمل للسيطرة على العالم.

روسيا تعمل لتوحيد العالم

وتضع روسيا ثرواتها الطبيعية الهائلة، وطاقاتها الاقتصادية والعلمية، وتفوقها العسكري الساحق الماحق، في خدمة الفكرة الاوراسية والتعاون والتفاعل الايجابي بين الشعوب وتحقيق السلام العالمي.

واليهودية العالمية تعمل لتمزيقه

اما الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا، التي تتحمل المسؤولية الأولى في اشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإنها تعمل لتحقيق الفكرة “الأطلسية” والهيمنة اليهودية ـ الأميركية ـ الأوروبية الغربية على العالم، عبر تمزيق واضعاف جميع بلدان وشعوب العالم، وتأليب الدول والشعوب والقوميات والأديان والاتنيات ضد بعضها البعض، بما فيها أوروبا ذاتها، بحجة “الدمقراطية” و”حقوق الانسان” و”حقوق الأمم والقوميات والاتنيات”. وذلك من ضمن المبدأ الاستعماري القديم المعروف: فرّق تسد!

“الأخ الأصغر المدلل”

ونظرا للعلاقات التاريخية الوثيقة بين البلدين (أساسا الحضارية ـ الدينية) فإن روسيا كانت تعامل أوكرانيا كـ”الأخ الأصغر المدلل”. ويمكن ان نعطي صورة مكثفة عن ذلك في ما يلي: طبعا لم يكن يوجد نظام فيزا بين روسيا وأوكرانيا. وكان الاقتصاد الاوكراني يعتمد بشكل رئيسي على روسيا. وكانت أوكرانيا تحصل على الغاز الروسي بارخص سعر ممكن، وتتأخر عن الدفع، واحيانا كثيرة لا تدفع نقدا بل عينا بسلع لم تجد تصريفا لها حتى في السوق الداخلي الاوكراني. وبوجود السوق الروسي لم تكن توجد أي مشكلة تصريف للإنتاج الاوكراني أيا كان نوعه ونوعيته. وكانت السلع الأوكرانية تدخل الى روسيا بدون جمارك وبدون رقابة حتى صورية، يكفي ان ينظر الموظف الروسي الى رقم الشاحنة الاوكراني حتى يمضي ويختم الأوراق للسائق بدون ان ينظر ما فيها. وكانت “تجارة الشنطة”، ذهابا وإيابا، شيئا عاديا لملايين الاوكرانيين. يكفي ان يبرز الراكب بطاقته الأوكرانية حتى يتلقى ابتسامة من الموظف الروسي الذي لا يلقي مجرد نظرة على “شنطة” ذلك الراكب. كما كان ملايين المواطنين الاوكرانيين يعملون يوميا في روسيا. منهم من يذهب ويعود في اليوم نفسه الى بيته، ويكون قد جلب طعامه معه، ولا يدفع مليما واحدا في السوق الروسية . ومنهم من يعمل أسبوعا ويعود في نهاية الأسبوع الى بيته. ويحملون معهم اجورهم نقدا دون اية رسوم او اقتطاعات مفروضة على العامل الروسي ذاته، كرسم الضمان الصحي ورسم المعاش التقاعدي الخ. وفي سنة 1954 “اهدى” خروشوف شبه جزيرة القرم الى أوكرانيا. وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كانت روسيا تدفع لاوكرانيا مقدما اجار استخدام القاعدة البحرية الروسية في سيباستوبول (في القرم) التي هي مدينة روسية منذ تأسيسها في 1783. كما كانت الأراضي الأوكرانية تضم خطوط الغاز الطبيعي الروسي العابر (ترانزيت) الى الدول الأوروبية الأخرى. وكانت أوكرانيا تقبض مقدما أيضا رسوم الترانزيت على الغاز الروسي العابر في أراضيها.

أوكرانيا ساحة صدام لـ”الاوراسية” و”الأطلسية”

وكان المواطنون الروس والناطقون بالروسية في شبه جزيرة القرم يشكلون نسبة حوالى 80% من السكان، وفي شرق أوكرانيا اكثر من 40%، وفي عامة أوكرانيا حوالى 20%.

ومن جهة ثانية فإنه توجد في وسط وغربي أوكرانيا ما نسبته حوالى 5% من السكان الذين سبق وانشقوا عن الكنيسة الارثوذكسية الشرقية، وانضموا الى الكنيسة الكاثوليكية او البروتستانتية او المعمدانية واشباهها من المذاهب “الغربية” المنشقة عن المسيحية الاصلية = الشرقية والمعادية لها. كما ان قسما من أوكرانيا الغربية كان حتى الحرب العالمية الأولى جزءا من امبراطورية النمسا ـ المجر السابقة، فيما القسم الاخر (الأكبر) كان جزءا من روسيا. وبصرف النظر عن النزاعات السياسية والأيديولوجية والدينية، فهذا ما كان يجعل أوكرانيا على تماس تام مع الثقافتين والحضارتين “الاوراسية” الروسية ـ الشرقية، من جهة، و”الأطلسية” الأميركية ـ الأوروبية ـ الغربية، من جهة ثانية. يضاف الى ذلك ان الحجم والموقع الجغرافيين لاوكرانيا، في غربي روسيا وشرقي أوروبا، واطلالها على البحر الأسود، يجعل منها موضوعيا جسرا نموذجيا للتواصل الروسي ـ الأوروبي.

لا قيادات ذات قامة تاريخية في اوكرانيا

ولكن يبدو بوضوح ان القيادات السياسية والانتلجنتسيا المتنفذة في أوكرانيا، وبسبب الفساد المستشري فيها، لم تفهم ابدا طبيعة التغيير الجوهري الذي جرى في روسيا بعد إزاحة يلتسين، كما لم تكن في مستوى فهم الدور المفصلي، الجيو ـ ستراتيجي التاريخي والدولي، الذي توضع فيه أوكرانيا بموجب فكرة الاوراسية التي تعمل لها القيادة الروسية الجديدة.

“الثورة!” البرتقالية تتوج سرقة الغاز الروسي

وبدلا من ذلك بدأت تنتشر في أوكرانيا موجة فاشستية و”ليبيرالية” وكاثوليكية وبروتستانتية وتتارية “داعشية” وطبعا يهودية ايضا، قديمة ـ جديدة، مرتبطة بالغرب، تدعو وتعمل لمعاداة الروس وروسيا، داخليا وخارجيا. وفي أجواء هذه الموجة بدأت سرقة الغاز المار في الأراضي الأوكرانية الى أوروبا، والمماطلة في دفع مستحقات الغاز الأوكرانية الى روسيا حتى بلغت المليارات. ولتغطية السرقات، انتهت هذه الموجة بما سمي “الثورة البرتقالية” سنة 2005 التي حملت الى السلطة “تشكيلة ملونة” كاملة من العملاء والخونة واللصوص الى جانب المليارديرية اليهود. وبدأ تطبيق سياسة تحرش وعدوان واستفزاز ضد المواطنين الاوكرانيين من اصل روسي وضد روسيا كدولة، لاستدراج روسيا الى ردود فعل انفعالية، وفي الوقت ذاته بدأ طرح شعارات انضمام أوكرانيا الى “الاتحاد الأوروبي” و”حلف الناتو”، لاجل حماية “مصالح” و”امن” أوكرانيا (!)، أي عمليا حماية “مصالح” و”أمن” اللصوص والخونة، الذين التجأوا الى الغرب الامبريالي (بحجة “الدمقراطية” طبعا) كي يحميهم من الحساب الآتي عاجلالا ام آجلا.

روسيا ترد ضمن اطار حقوقها المشروعة والقوانين الدولية

ولكن روسيا لم تؤخذ بكل الاستفزازات، واخذت ترد بشكل مدروس وضمن اطار المحافظة لى حقوقها المشروعة والالتزام بالقوانين الدولية المرعية: فألغت المعاملة المميزة لاوكرانيا، ورفعت أسعار الغاز المسلم اليها، وفرضت عليها نظام الدفع المسبق، وتم قطع تحذيري للغاز المار الى أوروبا بضعة أيام فقط، فارتعدت فرائص أوروبا، وأوقفت عمل العمال الاوكرانيين بدون تصاريح، وتم الحد من “تجارة الشنطة” ومراقبتها، وشرعت بتطبيق الإجراءات الجمركية الروتينية على الشاحنات الأوكرانية. وبنتيجة هذه التدابير فقط بدأ انحدار الاقتصاد الاوكراني الى الحضيض. ولكن الضربة الكبرى، بعيدة المدى، تمثلت في قرار القيادة الروسية “الاستغناء” عن وجود “الرقعة الجغرافية الأوكرانية”، والالتفاف حولها لمد انابيب النفط والغاز الى أوروبا، من الشمال، عبر بحر البلطيق، ومن الجنوب: عبر البحر الأسود. وسيأتي يوم يحاسب فيه الشعب الاوكراني كل من تسبب في “خراب بيته” وتجويعه، وسيندم فيه الفاشست الاوكرانيون على اليوم الذي ولدتهم فيه امهاتهم. ولات ساعة مندم!

التوجه العقيم نحو الغرب

وفي هذه المرحلة اشتدت حملة المطالبة بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي، كخطوة اولى نحو الانضمام الى حلف الناتو وتحويل أوكرانيا الى قاعدة عسكرية ملاصقة لروسيا لتسهيل العدوان المباشر عليها.

يانوكوفيتش يمسك العصا من وسطها

ولكن هذه المرحلة المعقدة والمفصلية انتهت بانتخاب فيكتور يانوكوفيتش رئيسا في 2010. واتخذ يانوكوفيتش موقفا وسطا بين المعارضة الفاشستية والموالية للغرب، وبين القوى السياسية الشعبية الوطنية والمؤيدة لروسيا (لا سيما في شرق أوكرانيا). وفي السياسة الخارجية اتخذ موقفا وسطا بين طلب الشراكة التجارية والانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وبين استمرار التعاون مع روسيا.

الانقلاب الفاشستي

ولكن هذا الموقف الوسطي، الذي يأخذ بالاعتبار التركيبة الديموغرافية والسياسية المتنوعة للشعب الاوكراني، والمصالح الوطنية العامة لاوكرانيا، لم يرض الجناح الفاشستي ـ الكاثوليكي ـ اليهودي في المعارضة، فتم الانقلاب الفاشستي في 21 شباط 2014، وأسقطت حكومة لازاروف بالقوة، وفر يانوكوفيتش الى روسيا، وعين الفاشستي والعميل اليهودي أرسيني ياتسينيوك رئيسا للوزراء، وقامت قطعان الفاشست من غرب أوكرانيا، المنظمين والممولين والمسلحين اميركيا، بالهجوم على مناطق شرق أوروبا حيث أكثرية السكان من الروس والناطقين باللغة الروسية، وشرعوا في الاعتداء على الناس العزل وقتلهم في الشوارع “على الهوية”، واحتلال المباني العامة و”تحريرها” من “الروس والناطقين باللغة الروسية”. وأصدرت وزارة الدفاع الانقلابية الجديدة الامر بإعلان “حالة الطوارئ” في شرقي أوكرانيا، وأمرت القوات المسلحة الأوكرانية (بما فيها الاسطول الاوكراني) بالانتشار العسكري وبالتحرش بالاسطول الروسي في سيباستوبول، لاستدراج روسيا الى صدام مسلح روسي ـ اوكراني.

الانتفاضة الشعبية في شرق اوكرانيا

ولكن القيادة الفاشستية ـ الانقلابية في كييف فوجئت بأن غالبية الضباط والجنود والطيارين والبحارة الاوكرانيين في شرقي أوكرانيا، الذين هم روس او ناطقين باللغة الروسية، لم يكتفوا برفض أوامر كييف، بل اعلنوا الانضمام الى الجماهير المتمردة في شرقي أوكرانيا، وبدلا من توجيه السلاح نحو الاسطول الروسي ونحو الجماهير الشعبية الروسية والناطقة باللغة الروسية، سيطروا على الغالبية الساحقة من الثكنات العسكرية والمطار الحربي والقاعدة البحرية الأوكرانية في سيباستوبول، ووجهوا أسلحتهم نحو القطعان الفاشستية ـ الانقلابية القادمة من غرب أوروبا واجبروها على “التراجع او الموت”، وبدلا من ان تطلق السفن الحربية الأوكرانية المدافع ضد السفن الحربية الروسية، اطلقت صفارات التحية لها، وانزلت عن صواريها العلم الاوكراني ورفعت مكانه العلم الروسي. وتم حجز الأقلية من الضباط والجنود الاوكرانيين من غرب أوكرانيا، وتخييرهم بين الاحتجاز واعتبارهم اسرى، وبين التخلي عن أسلحتهم وخلع ملابسهم العسكرية والسماح لهم بالعودة الى بيوتهم بلباسهم المدني واخذ اغراضهم الشخصية فقط. وطبعا فضل جميع هؤلاء الحل الثاني. وقد تنمّر وزير الدفاع الجديد في كييف بإصدار بيان يتهم فيه قائد الاسطول الاوكراني في سيباستوبول بـ”الخيانة الوطنية” وبتحويله مع مئات ضباط الطيران والبحرية والمدفعية والدبابات والمشاة والامن الى “المحاكمة”. ولكن هذه القرارات بقيت طبعا حبرا على ورق، لانها لم تجد من ينفذها، بل انها أعطت نتائج عكسية.

تشكيل الجيش الشعبي الاوكراني

وشكلت الوحدات العسكرية “الأوكرانية” السابقة في القرم وشرقي أوكرانيا نواة “قوات الدفاع الذاتي الشعبية” التي تطوع فيها عشرات الاف العسكريين القدماء والشبان والمواطنين في شرقي أوكرانيا، والتي استولت على جميع مستودعات الأسلحة للجيش الاوكراني السابق، وحصنت مناطقها ضد جميع القوات النظامية وغير النظامية التي أعلنت ولاءها للسلطة الانقلابية الجديدة في كييف.

انتخابات على الطريقة الهتلرية

وخلال تلك المرحلة، وتحت اعلام المنظمات الفاشستية التي تستوحي تراث الفاشستي الاوكراني القديم (صديق هتلر) ستيبان بانديرا، واعلام الاتحاد الأوروبي والناتو وأميركا وبريطانيا وألمانيا وحتى فرنسا، اجرت كييف انتخابات رئاسية “دمقراطية” جديدة في المناطق التي تسيطر عليها في وسط وغرب أوكرانيا، وتم انتخاب اللص المافيوتي والعميل الغربي ـ اليهودي بيوتر بوروشينكو رئيسا جديدا لاوكرانيا، وتم تثبيت العميل والقاتل المحترف أرسيني ياتسينيوك من جديد في مركز رئاسة الوزراء.

عودة القرم الى روسيا وانفصال الدونباس

وفي الوقت ذاته تم في شبه جزيرة القرم (بما في ذلك مدينة سيباستوبول ذات الإدارة الذاتية) استفتاء عام قررت فيه اغلبية الناخبين إعادة الانضمام الى الوطن الام روسيا، وصادق البرلمان والرئاسة الروسيان على الطلب.

كما ظهر اتجاه قوي في حوض الدونباس (في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك) يطالب بالانضمام الى روسيا أيضا. ولكن القيادة الروسية تحفظت على هذا الطلب، الا انها ايدت منح المقاطعتين استقلالا ذاتيا خاصا، لا يقتصر على الشؤون الداخلية، بل ويتيح لهما إقامة علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية خارجية أيضا. وأجري في كل من المقاطعتين استفتاء شعبي عام أقر فيه اعلان الانفصال عن السلطة الانقلابية في كييف وتشكيل جمهورية شعبية مستقلة لكل من المقاطعتين، لها علمها الخاص، وجيشها، وبرلمانها، وحكومتها، ومؤسساتها العامة المستقلة.

الناتو والاتحاد الأوروبي يطأطئان الرأس

وطبعا لم يجرؤ الناتو ولا الاتحاد الأوروبي ولا مجلس الامن الدولي على طرح موضوع انتزاع القرم من روسيا واعادتها مرة أخرى الى أوكرانيا. وكان ذلك اعترافا فعليا بأن القرم هو ارض روسية رجعت اليها. الا ان حكومة كييف الانقلابية، ولفترة من الوقت، قرقعت وطنطنت بأنها ستسترد القرم وشرقي أوكرانيا بالقوة. ولكن طوال اكثر من سنة لم يجرؤ عنصر مسلح اوكراني او ناتوي واحد على التوجه واطلاق رصاصة واحدة نحو حدود القرم.

حصاد الهزائم في شرق اوكرانيا

الا انه، وعلى وقع الجعجعة الحربية الخاصة بالفاشست أينما كان، تم حشد كل قوات واسلحة الجيش الاوكراني، معززة بأسلحة أميركية جديدة، وبمئات من الخبراء و”المستشارين” الاميركيين، بالإضافة الى الاف “المتطوعين” الفاشست من تنظيم “سفوبودا” وخاصة من تنظيم “القطاع الأيمن” بزعامة دميتريي ياروش، ـ تم حشدهم في شرق اوكرانيا لاستعادة “جمهوريتي” الدونباس. ولكن دون جدوى طبعا. وكان “المتطوعون” الفاشست يفرون من المعارك، لدى ادنى شعور بالخطر، لانهم يعرفون ماذا سيكون مصيرهم. اما الضباط والجنود النظاميون المساكين، غير المقتنعين أصلا بمحاربة شعبهم جنبا الى جنب الفاشست، فكانوا يتعرضون للتطويق بالالاف، فيتوسلون الى مندوبي منظمة الامن والتعاون الأوروبية ان يفتحوا لهم ممرا آمنا الى الحدود الروسية كي يسلموا انفسهم الى الجيش الروسي لضمان سلامتهم. وفي الغالب كانت قوات الدفاع الذاتي الشعبية توافق على انسحابهم مقابل التخلي عن جميع أسلحتهم وتسليمها الى قوات الدفاع الذاتي. وكان الجنود الروس يستقبلون على ارضهم الضباط والجنود المنسحبين من أوكرانيا ويعالجون جرحاهم ويقدمون لهم الطعام والماء ويستبدلون لهم اسمالهم بألبسة عسكرية جديدة، طبعا روسية، ويستضيفونهم بضعة أيام حتى يتعافوا، ثم يعيدونهم سالمين الى أوكرانيا.

المجازر ضد المدنيين

وطوال المرحلة السابقة لم تستطع قوات كييف، المعززة بـ”المتطوعين” الفاشست، اختراق أي بلدة في شرقي أوكرانيا. وامام هذا الفشل الفاضح، وللتغطية على خسائرها العسكرية، اخذت قوات كييف الانقلابية وفصائل “المتطوعين” المرتزقة الفاشست تقصف بوحشية الأماكن المدنية الآمنة كالمستشفيات والمدارس والأسواق الشعبية ومحطات النقل العام والمصانع والمناجم، مما أوقع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين. وتذكر بعض الإحصاءات سقوط 50 الف قتيل او اكثر، واكثر من ذلك من الجرحى، في صفوف المدنيين، مما أثر تأثيرا كبيرا على دورة الحياة العادية، واجبر حوالى مليون نسمة من النساء والأطفال والشيوخ على اللجوء الى روسيا.

ولكن هذه الوحشية أعطت نتائج عكسية، اذ دفعت وحدات الدفاع الذاتي الشعبية لحشد المزيد من قواتها واسلحتها المتوسطة والثقيلة وشن هجمات مضادة دفعت قوات كييف عشرات الكيلومترات الى الوراء، ونشأ خط جبهة طويل يفصل بين حوض الدونباس وبقية أجزاء أوكرانيا، وطرحت فكرة متابعة الهجوم الى كييف، ورفعت بعض الوحدات شعار “أعطني كييف”، الذي كانت ترفعه وحدات الجيش الأحمر في الهجوم المعاكس لتحرير أوكرانيا من النازيين سنة 1943. ولكن قيادتا جمهوريتي الدونباس، وبنصيحة من موسكو، تتريثان حتى الان في اتخاذ هذا القرار الستراتيجي.

كييف تعترف “ديفاكتو” بجمهوريتي الدونباس

ان تغيير ميزان القوى على الأرض، وانفضاح وحشية قوات كييف و”المتطوعين” الفاشست من غرب أوكرانيا، اجبرا الرئيس الانقلابي بوروشينكو على القبول بالوساطة التي تقوم بها رباعية (روسيا، المانيا، فرنسا وبولونيا) والجلوس الى طاولة المفاوضات مع ممثلي جمهوريتي الدونباس، مما يعتبر عمليا اعترافا “ديفاكتو” بالجمهوريتين.

“اتفاق مينسك”

وقد اسفرت المباحثات، التي استضافها الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو في العاصمة مينسك، عما يسمى “اتفاق مينسك” لوقف القتال مقابل برنامج كامل من الإصلاحات المقترحة، على رأسها اجراء إصلاحات دستورية جذرية، تقضي بتجريم الحملات العنصرية المعادية للروس، ومنح مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك وضعا استقلاليا خاصا ضمن اتحاد فيديرالي اوكراني، والمحافظة على حيادية أوكرانيا. كما يتضمن الاتفاق وقف اطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وإيجاد منطقة عازلة مجردة من السلاح بين الطرفين، تقضي بانسحاب كل طرف مسافة 50 ـ 75 كلم ضمن أراضيه.

اميركا غير راضية عن “اتفاق مينسك”

ولكن الدبلوماسية الأميركية لم تكن أيضا راضية عن “اتفاق مينسك”، لما ينطوي عليه من احتمالات تقارب روسي ـ اتحاد أوروبي. ووجد الرفض الأميركي ترجمته في المعارضة الشديدة للاتفاق من قبل المنظمات الفاشستية المتطرفة، وعلى رأسها ما يسمى تنظيم “القطاع الأيمن” برئاسة دميتريي ياروش، لان مقتضيات هذا الاتفاق تسقط كل الأساس التعبوي العنصري لتلك التنظيمات. وفيما كانت التنظيمات الفاشستية تعارض الاتفاق وتعمل لخرقه وافشاله، فإن بوروشينكو، الذي يدعي انه “رئيس لكل الاوكرانيين” والذي يحمل الاتفاق توقيعه، يتظاهر بتأييد الاتفاق، وان كان يراوغ ويتحجج “بصعوبة تنفيذه”. في حين ان رئيس الوزراء العميل أرسيني ياتسينيوك يقف في الوسط ويلعب على الحبلين، باحثا له عن دور في حال نجاح الاتفاق او فشله وهو الأرجح.

“جمهورية القطاع الأيمن” في مقاطعة “زاكارباتيا” (ما وراء جبال الكاربات)

وفيما تجري النشاطات على قدم وساق لتطبيق “اتفاق مينسك”، بالرغم من المعارضة له، كانت تجري في اقصى غرب أوكرانيا، في مقاطعة “زاكارباتيا” (“ما وراء الكاربات” ـ جبال الكاربات) احداث امنية هي مقدمة لانفجار جديد في وسط وغربي أوكرانيا. وقبل ان نستعرض تلك الاحداث، التي لم تنته فصولا بعد، علينا ان نتوقف قليلا عند النقطة التالية:

الحدود الروسية “المفتوحة” (في السابق) انعشت المافيات الفاشستية الاوكرانية

كانت المنظمات الفاشستية ـ التي هي في الوقت ذاته عصابات مافيوية إجرامية عادية ـ تستفيد استفادة كبرى من سياسة “الأبواب المفتوحة للاوكرانيين”، التي كانت تطبقها روسيا في السابق. ولكن بعد ان الغت روسيا سياسة “الأبواب المفتوحة” امام تدفق المواطنين والشاحنات و”تجارة الشنطة” من أوكرانيا الى روسيا، بدون جمارك وبدون حسيب ولا رقيب، تلقى الاقتصاد الاوكراني ضربة قاضية لن يكون لها علاج سوى زوال أوكرانيا عن الخريطة وعودتها كجزء من الأراضي الروسية كما كانت غالبية أراضيها قبل الحرب العالمية الأولى.

ولكن توجد هنا تفصيلية مهمة وهي انه ليس فقط الاقتصاد الاوكراني بشكل عام تلقى الضربة، بل تلقت الضربة أيضا المافيات الأوكرانية (وغالبيتها من غربي أوكرانيا) ذات الانتماءات والتوجهات النازية ـ الكاثوليكية ـ البروتستانتية ـ اليهودية ـ الخيانية، العميلة للغرب، والمعادية للروس وروسيا.

وقد كان يوجد تطابق عجيب، شبه كلي، بين العصابات المافياوية والتنظيمات النازية.

وكما اسلفنا، كانت تلك العصابات هي المستفيد الأكبر من مفتوحية الحدود الروسية، لاجل تهريب كل شيء الى ومن روسيا.

وبعد ان أغلقت بوجهها تماما التجارة غير المشروعة الى ومن روسيا، أصيبت المافيات بالتواء تام ادار رأسها من الشرق الى الغرب. وبدأت المنظمات الفاشستية ـ المافياوية تحول نشاطها التهريبي من الشرق الروسي الى بلدان الاتحاد الأوروبي الواقعة في غربي أوكرانيا.

استباحة الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي

وتحت غطاء تجميع “المتطوعين الوطنيين” وتدريبهم وتسليحهم وارسالهم للقتال الى جانب الجيش في شرقي أوكرانيا، بدأ التنظيم الفاشستي ـ المافياوي المسمى “القطاع الأيمن” بزعامة النائب دميتريي ياروش، بفرض هيمنته على مقاطعة “زاكارباتيا” في غربي أوكرانيا، التي تقع على الحدود مع بولونيا، سلوفاكيا، المجر ورومانيا، وهي دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وتحويل تلك المقاطعة الى منطقة تهريب واسع النطاق من والى أوكرانيا. ولهذه الغاية حفرت انفاق خاصة على امتداد الحدود. ويتم التهريب عبر الانفاق وانابيب خاصة، وحتى بواسطة الطائرات الشراعية والطائرات الصغيرة. ومداخيل هذا “السوق” تبلغ مئات ملايين، اذا لم يكن مليارات الدولارات: ويكفي ان نذكر ان شاحنة واحدة محملة بالسجائر الأوكرانية الرخيصة تحمل “لاصحابها” ربحا بملايين الدولارات. وعدا السجائر تعبر الحدود مع المجر وسلوفاكيا: الاخشاب، السبيرتو، البنزين، الادوية وغيرها كثير. وبالمقابل يتم تهريب الأسلحة والمخدرات والمسروقات من السيارات وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي الى أوكرانيا التي، شيئا فشيئا، تصبح بحاجة الى كل شيء.

التداخل السياسي ـ المافياوي

ودخل على خط المزاحمة في عمليات التهريب سياسيون تابعون لرئيس الجمهورية الأسبق العميل فيكتور شيفتشينكو الذي جاء الى السلطة في اعقاب “الثورة البرتقالية” في 2005.

ودخل على هذا الخط أيضا رجل الاعمال المعروف والنائب في البرلمان ميخائيل لانيو، الذي يتهم بأنه من اشهر المهربين في المقاطعة.

ضاعت الحدود بين السلطة والمافيا والنازية

وفي حمى المزاحمة من اجل التهريب، اخذت العصابات المافياوية ـ النازية تزايد على بعضها البعض، من جهة، كما تزايد كلها على السلطة الانقلابية في كييف، من جهة ثانية، في معاداة الروس والدعوة الى قتلهم، وحتى دعوة الناتو الى ضرب روسيا بالقنابل النووية. وبنتيجة الرشوة والفساد واسعي النطاق، تبعا لمقتضيات التهريب، ضاعت تماما الحدود بين قوات الامن و”المحافظة على القانون” وبين العصابات، كما ضاعت الحدود بين العصابة المافياوية بمفهومها الاجرامي، وبين العصابة النازية بمفهومها العنصري ـ السياسي المغلف “بالدين” او “بالوطنية”.

حرب صليبية جديدة

تذكر المراجع التاريخية انه حينما دعا الفاتيكان في نهاية القرن الحادي عشر لتوجيه الحملات الصليبية ضد الشرق العربي وضد روسيا، تقاطرت كل حثالات أوروبا للتطوع في القوات الصليبية، بالإضافة الى بضع عشرات الاف الفرسان الاقطاعيين “المنضبطين”. وقبل وصولها الى أهدافها المرسومة، كان مرور “قطعان الصليبيين” في أي منطقة اوروبية، يمثل كابوسا وكارثة حقيقيين لسكان تلك المناطق، لان “الصليبيين” كانوا ينفلتون بدون أي وازع للسلب والنهب والسكر والعربدة واغتصاب النساء وقتل الناس الآمنين (والمؤمنين!) الذين لا يبقى لهم من معين سوى الله “الذي لا يحمد على مكروه سواه!”.

واليوم أيضا تشهد أوكرانيا الصورة ذاتها، بمباركة وصلوات وغفرانات الفاتيكان: فعصابات المافيات والنازيين الجدد، “المتطوعين” للقتال ضد الروس، بحجة “تحرير” شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ليسوا اكثر من عصابات “صليبية” جديدة، مع فارق بسيط، هو ان العصابات الصليبية القديمة كانت “ترمي اوساخها” خارج “مناطقها الخاصة”، فإن “النازيين الجدد” بدأوا يعيثون فسادا داخل مناطقهم ذاتها، في وسط وغربي أوكرانيا، وبدأوا يقاتلون سلطتهم الانقلابية ذاتها، وبعضهم بعضا، كقتال الكلاب المسعورة الشاردة، على المزابل وفي شوارع المدن التي تعيش فيها.

سلطة كييف بدأت تخشى على نفسها من التنظيمات الى اوجدتها بنفسها

وبدأت السلطة الانقلابية في كييف ـ التي سبق هي نفسها ان دعت وعملت لتشكيل “فصائل المتطوعين” ـ بدأت هي نفسها تخشى من هذه العصابات اتي لا تعترف بأية سلطة. ولكن سلطة كييف لم يعد بإمكانها حل تلك الفصائل بالطرق القانونية والمشروعة، وبقرارات صادرة عن البرلمان، كما سبق وشكلتها، وصار لزاما عليها ان توجه ضدها السلاح وتقاتلها، كي تحفظ ماء وجهها كسلطة “شرعية”، وتتظاهر “بالمحافظة على القانون” وعلى “سلامة المواطنين” واملاكهم، وخصوصا كي “تغسل يديها” من التهريب من والى دول الاتحاد الاوروبي.

طلائع حرب المافيات الانقلابية والنازية في غربي أوكرانيا

وفي أواسط شهر تموز الماضي تم في احد مقاهي مدينة موكاتشيفو (ثاني اكبر مدن مقاطعة “زاكارباتيا”) عقد اجتماع بين ممثلي منظمة “القطاع الأيمن” ورجل الاعمال ميخائيل لانيو، للمناقشة في أمور “الشغل” والأوضاع القائمة. وانتهت “المناقشة” برصاصة في رأس “البودي غارد” الخاص لـ لانيو، اما لانيو ذاته فنفد بجلده وتوارى. وادعى الناطق باسم “القطاع الايمن” ان التنظيم كان يريد قطع الطريق على التصدير غير المشروع للسجائر الأوكرانية الرخيصة الى بلدان الاتحاد الأوروبي. اما تقرير الشرطة فيقول ان سبب النزاع هو “تقاطع” قنوات التهريب.

“القطاع الأيمن” يصطدم بالشرطة

وبعد قتل المرافق الخاص لـ لانيو، خرج ممثلو “القطاع الأيمن” مع مرافقيهم المسلحين من المقهى، وشقوا طريقهم يريدون الخروج من المدينة، ولكن الشرطة كانت قد اقامت لهم الحواجز على كل المنافذ، واصطدمت بهم، ووقع عشرة جرحى ستة منهم من رجال الشرطة، ولكن مجموعة “القطاع الأيمن” تمكنت من الخروج من المدينة، وتسلل عشرون منهم الى مقاطعة بيريتشينسكي. وامتنعت وزارة الداخلية والنيابة العامة ومديرية الامن القومي عن اتخاذ قرار بمهاجمة هذه “المجموعة الاجرامية المنظمة”. وعلى العكس من ذلك ارسل دميتريي ياروش زعيم “القطاع الأيمن” إنذارا الى الرئيس بوروشينكو يطلب فيه اقالة وزير الداخلية أرسيني أفاكوف، وجميع قادة الوحدات العسكرية في “زاكارباتيا”، باعتبارهم مسؤولين عن الصدام الذي وقع في موكاتشيفو.

فصل مقاطعة “زاكارباتيا” عن أوكرانيا

وانتقل ياروش مع ثمانية من قادة تنظيم “القطاع الأيمن” الى مقاطعة “زاكاراباتيا”، واستدعوا مئات “المتطوعين” للقتال الى جانب الجيش في شرقي أوكرانيا، ـ استدعوهم الى غرب أوكرانيا واقاموا الحواجز على كل الطرق المؤدية الى “زاكارباتيا”، لمنع وحدات الجيش والامن وما يسمى “الحرس الوطني” وممثلي السلطة الانقلابية الأوكرانية من الدخول الى المقاطعة. وصرح ياروش “ان القوانين الأوكرانية لم يعد معترف بها في المقاطعة”. و”ان السلاح الذي هو في حوزتنا هو لاجل ضمان الاستقرار والامن. ذلك ان المباحثات مع رجال المافيا بدون سلاح هو امر خطير”. و”ان هدفنا هو المحافظة على أوكرانيا، والمحافظة على الاستقرار. وفي مقاطعة زاكارباتيا بالتحديد، نحن نقوم بحماية الناس من رجال العصابات”.

بداية تفكك وزوال الدولة الاوكرانية

وفي هذا الوقت اقام محازبو “القطاع الأيمن” مخيما بالقرب من إدارة مدينة لفوف، ورفعوا شعارات تطالب باستقالة وزير الداخلية وقيادة الشرطة في “زاكارباتيا”. وقاموا بانزال علم الاتحاد الأوروبي ورفعوا مكانه علم تنظيمهم.

كما جرت مظاهرة “للقطاع الأيمن” امام البرلمان في العاصمة كييف ذاتها.

وقد انقسمت الصحافة الأوكرانية بين مؤيد لحكومة بوروشينكو ومؤيد “للقطاع الأيمن”، ويسود توتر شديد بين قوات الجيش النظامي الانقلابي وبين الوحدات المسلحة “للمتطوعين” التابعين “للقطاع الأيمن”. وخطر اندلاع الاشتباكات بين الطرفين قائم في كل لحظة. وهو يحمل في طياته خطر التفكك الكامل للدولة الأوكرانية.

تجاهل أميركي ووساطات سرية اوروبية

وحتى الان تتظاهر الدبلوماسية الأميركية بتجاهل ما يحدث، مما يثير الشكوك بأنها تعتزم دعم أي تحرك للضغط على حكومة بوروشينكو لعدم تنفيذ “اتفاق مينسك” للتوصل الى حلول سلمية للنزاع الاوكراني، لانها تميل الى خيار استخدام أوكرانيا (او ما يتبقى منها) كقاعدة عدوان على روسيا.

اما وسائل الاعلام الأوروبية فهي تعكس النظرة الغربية التقليدية نحو الاوكرانيين بأنهم، مثلهم مثل الروس، ليسوا اكثر من “اجلاف سلافيين، أورثوذكسيين، احفاد عبيد روما”. ولذلك فهي لا تنظر الى أوكرانيا كحليف “جدي” و”ندي” لاوروبا، وتشارك اميركا في رغبتها بتحويل أوكرانيا الى قاعدة للناتو. الا ان الهلع الأوروبي من “الجار الروسي المرعب”، يدفع الأوساط السياسية الأوروبية الى الميل اكثر نحو الخيار الاخر وهو: ان تكون أوكرانيا، او ما يتبقى منها، “دولة عازلة” بين أوروبا وروسيا.

اغلاق حدود التهريب مع الاتحاد الاوروبي سيفجر الحرب في غربي اوكرانيا

ولكن اذا كانت الدبلوماسية الناعمة قد فتحت صفحة “الفوضى البناءة” الأميركية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، فإن التجربة تبرهن ان القوة الناعمة للدبلوماسية هي غير قادرة على طي هذه الصفحة من جديد.

واذا كان اقدام روسيا على اغلاق حدودها التي كانت مفتوحة للاوكرانيين والسلع الأوكرانية في الامس القريب قد أدى الى ترامي شبه جزيرة القرم لطلب الانضمام الى روسيا، والى انفصال مقاطعتي دونيتسك وغدانسك عن سلطة كييف، والى الانقلاب الفاشستي في كييف، والى الحرب الأوكرانية الفاشلة “لاستعادة” الدونباس، فإن دول الاتحاد الأوروبي تتجه الان لان تغلق بشدة حدودها مع أوكرانيا الغربية، وخصوصا انفاق وقنوات التهريب من والى أوكرانيا.

القطعان الفاشستية ستنهش بعضها

وهذا يعني ببساطة ان مختلف القطعان والتنظيمات المافياوية ـ الفاشستية ستصاب بسعار جنوني، وستبدأ تنقض على الجيش، وعلى الشرطة، وعلى بعضها بعضا، وستنطلق موجة عارمة من “الفوضى البناءة”، ويبدأ الغزو وسلب ونهب كل شيء: من المخازن والمستودعات وخزانات الوقود والبنوك والافران والمزارع وخزانات المياه وغيرها. وسيوضع الشعب الاوكراني المسكين في دوامة “كارثة إنسانية” حقيقية على الطريقة الصومالية. مع فارق بسيط هو بدلا من رفع شعارات “إسلامية” سترفع شعارات “قومية اوكرانية”، “معادية لروسيا”. وسيقف الغرب كله يتفرج بشماتة على مأساة الشعب الاوكراني، الذي لن يجد في الأخير من يمد له يد العون الأخوية الصادقة سوى الشعب الروسي.

خطر ظهور “الإرهاب الاوكراني” الموجه ضد الغرب

ان اغلاق الحدود الروسية امام التهريب من والى أوكرانيا، أدى الى نقل المافيات لنشاطها التهريبي الى غرب أوكرانيا، ومنه الى بلدان الاتحاد الأوروبي. فاذا ما أقدمت دول الاتحاد الأوروبي على تشديد الرقابة على حدودها، ومنعت التهريب من والى أوكرانيا، فإن المافيات الأوكرانية، التي هي في الوقت ذاته العصابات النازية المعادية لروسيا والموالية للغرب، ستجد نفسها في ورطة وجودية كبيرة. لان هذه المافيات ـ العصابات تحتاج الى تمويل دائم وضخم: أولا ـ لاشباع نهم قادتها وسياسييها على مختلف المستويات، وثانيا ـ لاستمرار دفع المرتبات العالية للمرتزقة “المتطوعين” الفاشست، الذين يقاتلون باسمها، وثالثا ـ لاستمرار تمويل العمليات الحربية في شرق أوكرانيا، والا فإن “قوات الدفاع الذاتي الشعبية” ستزحف اليهم وتسحقهم كالجرذان، أينما كانوا.

ان الأموال التي تحصل عليها المافيات ـ العصابات الفاشستية من المخابرات الغربية والإسرائيلية ليست كافية بالنسبة لها والا لما لجأت الى التهريب. فاذا ما أغلقت امامها أبواب التهريب الى بلدان الاتحاد الأوروبي، بعد ان أغلقت أبواب التهريب الى روسيا، ماذا يتبقى للعصابات المافيوية ـ النازية ان تفعل للحصول على الأموال؟

ـ لا يبقى امامها سوى اللجوء الى توجيه السلاح ضد أولياء نعمتها انفسهم، كما هو الامر بالنسبة لداعش، أي اللجوء الى الإرهاب ضد السفارات والشركات والمؤسسات الغربية والأجنبية، في أوكرانيا وداخل البلدان الغربية ذاتها، من اجل الابتزاز والحصول على الفديات والأموال سرا وعلنا.

وحينذاك سيبدأ النحيب والعويل ضد الإرهاب “النازي” الاوكراني في الغرب، تماما كما جرى بالنسبة لداعش. ولكن بما ان الجيوش الأميركية والناتوية والأوروبية كلها هي جيوش مدللة ومترهلة تصلح للاستعراض ولكنها لا تصلح للقتال الميداني، فلا يبقى امام الغرب سوى استخدام الطيران (و”الأفضل” الطائرات بدون طيار)، واذا اقتضت الضرورة فصواريخ كروز المجنحة. وقد اثبتت التجربة ضد “داعش” ان الحرب الجوية وحدها لا تكفي. والقيادة الأميركية ذاتها قالت ان الحرب ضد داعش تتطلب سنوات. ومثلما بدأت اميركا والكتلة الغربية كلها تدرك ان القضاء على داعش واخواتها لا يمكن ان يتم بدون ايران وحزب الله والجيش السوري، فليس بعيدا اليوم الذي ستعلن فيه الابواق الغربية ان القضاء على الإرهاب النازي الاوكراني لا يمكن ان يتم بدون روسيا. ولكن اذا كان من مصلحة ايران وحزب الله والجيش السوري والجيش العراقي التعجيل في حسم المعركة ضد داعش، فإن روسيا لن تكون مستعجلة، بل هي ستعطي الوقت الكافي “للفوضى البناءة” الأميركية كي تزعزع ليس فقط منطقة الشرق الأوسط وشرق أوروبا بل والكتلة الغربية كلها. وحينما تقرر روسيا ان تضرب ضربتها، فلن يستطيع احد ان يقف بوجهها، كما جرى في القرم.

معالجة الازمة الأوكرانية أفلتت من يد الكتلة الغربية

يذكر الرأي العام الدولي ان “الربيع الاوكراني” بدأ بمظاهرات للمعارضة “الدمقراطية والسلمية!!!” (بالاذن من الأستاذ جورج صبرا!) احتجاجا على اعلان الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش في أواسط تشرين الثاني 2013 ان أوكرانيا لن توقع اتفاق “المشاركة” التجارية مع الاتحاد الأوروبي (الذي كان متوقعا في 28 تشرين الثاني 2013) بدون الاتفاق مع روسيا، التي كانت تخشى من ان تؤدي “المشاركة الأوكرانية ـ الأوروبية” الى استغلال “الحدود الروسية المفتوحة” لاوكرانيا، لاغراق روسيا بكل أنواع الزبالة السلعية الأوروبية، والمخدرات، والمتفجرات، وحتى تسريب “سياح أوروبيين” من طراز “الداعشيين” و”الداعشيات” (من جماعة “جهاد النكاح”) اللواتي يحمل بعضهن السفلس والايدز وغيرهما من المنتوجات “الحضارية” المعاصرة. وتؤكد احداث غربي أوكرانيا الان، واكتشاف انفاق وقنوات التهريب الى دول الاتحاد الأوروبي ذاته، كم كانت روسيا على حق في تخوفاتها.

وفي 19 شباط 2014، وبنتيجة وساطة مشتركة من قبل روسيا والاتحاد الاوروبي معا، وقع الرئيس يانوكوفيتش وقادة احزاب المعارضة بيانا شاملا لتسوية الازمة الأوكرانية، يلبي كل المطالب “الدمقراطية!” للمعارضة. وفي الوقت ذاته صرح يانوكوفيتش بأنه يؤيد الاقتراح الروسي الداعي الى تشكيل لجنة اختصاصية ثلاثية روسية ـ اوكرانية ـ اتحاد أوروبية، لبحث العلاقات التجارية بين الأطراف الثلاثة، قبل توقيع اتفاق “المشاركة” التجارية الأوكرانية ـ الاتحاد أوروبية.

ونشرت الصحافة الأوروبية فيما بعد ان المخابرات الروسية ضبطت محادثة تلفونية بين فيكتوريا نولاند (مساعدة وزير الخارجية الأميركي، التي تمسك بملف أوكرانيا) وسفير الولايات المتحدة في أوكرانيا جيفري بيات، قالت فيها نولاند للسفير “فليذهب الاتحاد الأوروبي الى الجحيم”.

وفعلا، وقبل ان يجف حبر التوقيع على اتفاق التسوية السلمية للازمة الأوكرانية بين الرئيس السابق يانوكوفيتش وزعماء المعارضة، وقع الانقلاب الفاشستي (الذي كانت تقف خلفه المخابرات الأميركية) في كييف، في 21 شباط 2014، وتم اقتحام البرلمان، وتعيين حكومة انقلابية برئاسة العميل الأميركي أرسيني ياتسينيوك، الذي كان احد الموقعين على الاتفاق مع يانوكوفيتش. وبدأت حملة مطاردة “دمقراطية وسلمية!” للمواطنين الروس والناطقين بالروسية في كييف وفي غربي أوكرانيا، وقتلهم في الشوارع بهراوات البيسبول الضخمة، وحرق بيوتهم، وطرد نسائهم واطفالهم، وتشكلت بسرعة عجيبة فرق “المتطوعين”، المسلحة بالدبابات والمدفعية والرشاشات الثقيلة، التي توجهت لـ”تحرير” مقاطعات شرق وجنوب أوكرانيا ذات الأغلبية السكانية من الروس والناطقين بالروسية. وكانت النتيجة معروفة. ولكن الخاتمة لم يحن اوانها بعد.

والان ظهرت القوى الفاشستية “المتشددة” او “المتطرفة” بشخص تنظيم “القطاع الأيمن” وانصاره. وتم فصل مقاطعة “زاكارباتيا” الغربية، وربما يتم فصل غيرها.

الفاشست سينسحبون من الشرق للتفرغ لبعضهم في الغرب

ومن الصعب التكهن كيف ستنتهي الأمور بعد الان، في وسط وغربي أوكرانيا. ولكن من المؤكد انه اصبح من مصلحة القوى النظامية الانقلابية والقوى الفاشستية “المعتدلة” و”المتطرفة” ان تطبق الهدنة العسكرية وفصل القوات في شرق أوكرانيا، لسحب المقاتلين والأسلحة الثقيلة والوحدات العسكرية من الشرق، و”التفرغ بعضها للبعض الآخر” في وسط وغربي أوكرانيا.

أوكرانيا ستعود للانضمام الى روسيا

وفي هذه الحالة، فإن شرق أوكرانيا الذي يتلقى مساعدات إنسانية من روسيا سيصبح اكثر قدرة على إعادة الحياة الى الدورة الإنتاجية والاقتصادية والتجارية الطبيعية مع روسيا، وسيكون ـ كما هو الى الان ـ في مأمن من كارثة إنسانية على المستوى الحياتي والمعيشي. اما وسط وغرب أوكرانيا، وخصوصا مع بداية تشدد دول الاتحاد الأوروبي في مراقبة حدودها مع أوكرانيا، واندلاع الاشتباكات بين “الوطنيين! جدا وطنيين!” الاوكرانيين “المعتدلين” و”المتطرفين”، فإن هذا القسم من أوكرانيا سيكون مهددا بكارثة إنسانية حقيقية، على الطريقة الصومالية كما اسلفنا، لان اميركا والاتحاد الأوروبي لن يتحملا فكرة دفع مئات مليارات الدولارات لاطعام ورعاية حوالى 35 مليون اوكراني، غالبيتهم ـ في نهاية المطاف ـ هي من “الاجلاف السلافيين ـ الأرثوذكسيين” غير مضموني الولاء النهائي للغرب. والحل المنطقي الوحيد امام جماهير الشعب الاوكراني هو: تصفية الحساب مع الفاشست الموالين للغرب، “المعتدلين” و”المتطرفين” و”السلميين!” و”الدمقراطيين!” على السواء، وطلب المغفرة من اشقائهم الروس، والعودة الى حضن ما يسميه الروس “الأم روسيا”، وضم أوكرانيا كلها الى الدولة الفيديرالية الروسية.

*كاتب لبناني مستقل

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.