ملف خاص ( مقالات ) عن المناضل الفلسطيني الثوري الأممي الدكتور وديع حداد في ذكرى وفاته
إعداد : محمد العبد الله
الأردن العربي – الخميس 28/3/2019 م …
لن ننسى … لن نغفر
القائد الثوري ” وديع حداد “
في مثل هذا اليوم عام 1978 رحل القائد الاسثنائي وديع حداد ” أبو هاني ” المولود في مدينة صفد عام 1927.
سيرة حياة حافلة بالمقاومة للمحتلين.حكى لي والدي وعمي عن الفتى “وديع حداد” في صفد وهو يتربص سيارات المحتلين الإنكليز ليقوم بتخريبها، وبإلحاق الضرر بكل مايمت بصلة لهم.
كان دينامو العمل التنظيمي في حركة القوميين العرب التي كان له شرف تأسيسها مع جورج حبش وآخرين.
أحد أبرز القدة الأمنيين والمخططين البارزين للعمليات العسكرية الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
أمضى معظم حياته مطارداً من أجهزة المخابرات المعادية وفي مقدمتها ” الموساد” الذي استطاع الوصول إليه بعد سنوات طويلة من المُلاحقة.
عاش عفيف اليد واللسان ، زاهداً ومُتقشفاً في حياته اليومية.
كم نحتاجك في هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها قضية التحرر الوطني والقومي.
رحل جسدك ، لكن قناعتك وعملك في المقاومة المسلحة لم ولن يتوقف .
فتية فلسطين وشبابها وشاباتها، مستمرون في النضال المسلح ضد الغزاة المحتلين .
وداعاً يامن طاردت الغزاة المحتلين في كل مكان.
في ذكرى رحيلك ، ننحي إجلالاً واحتراماً وتقديراً لك.
محمد العبد الله
———————————
كتابات قديمة في ذكرى رحيل ” أبو هاني “
عن حاجتنا إلى وديع
سماح ادريس
قلّما جاد التاريخُ علينا بشخصٍ يَجمع التفاني، إلى الذكاءِ، والاختراعِ، ومَلَكَةِ القيادة. وديع حدّاد واحدٌ من هذه القلّة القليلة التي تمرّ في التاريخ خَطْفًا، لكنّها تترك في الدنيا “دَوِيًّا كأنّما تَداوَلَ سَمْعَ المرءِ أنملُهُ العَشْرُ” (المتنبّي). درس الطبَّ ككثيرين، لكنّه تخصّص في علاج القضيّة. آمنَ بالعنف ككثيرين، لكنّه قَرَنَه بالدقّةِ والهندسةِ والرقمِ والمعلومة. دخل الأحزابَ ككثيرين، لكنّه اختطّ لنفسِه طريقَه الخاصَّ، على غير غرورٍ ولا روحِ انشقاق. أَخلصَ لقضيّتِه ككثيرين، لكنّه ابتعدَ عن الأضواء وآلاتِ التصوير. كان ذكيًّا ككثيرين، لكنّه وَظّفَ ذكاءه في سبيل إيصالِ شعبه إلى المنْعةِ والكرامةِ والحريّة، لا من أجل وصول شخصِه وأفرادِ عائلتِه إلى مواقع الثروةِ والنفوذ.
اليومَ، قد لا نحتاجُ إلى وديع حدّاد إلّا بالمعنى الآنفِ الذكر: تلك “الخلطة” السحريّة شبه الاستثنائيّة. ولعلّي أضيفُ ثنائيّاتٍ أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى، انجدلتْ في هذا النبيِّ المسلّح كما لم تنجدلْ ربّما في أيّ فلسطينيٍّ أو عربيٍّ آخر: الكاريزما والتواضع، السيادة والخدمة، العاصفة والنسيم، الرأي والشجاعة (اللذيْن إذا “اجتمعا لنفسٍ حُرّةٍ، بَلغتْ من العَلْياءِ كُلَّ مكانِ” ــــ المتنبّي أيضًا).
نحتاجُ إلى “خلطةِ وديع” لأنّنا مللْنا الانتظارَ بقدْرِ ما مَلَلْنا التهوّر، ومللْنا الزعبرةَ “الواقعيّةَ” بقدْرِ ما مللْنا السذاجةَ “الثورجيّة،” ومللْنا العزلةَ الخانقةَ بقدْرِ ما مللْنا الاحتفاليّات الصاخبة، ومللْنا المزايداتِ الجوفاءَ بقدْرِ ما مللْنا المناقصاتِ الربّيحة.
شعبُنا اليومَ موزَّعٌ بين المخيّمِ والمخيّم، وبين الشتاتِ والشتات. يحلم بالوطن، فيُصابُ بالهجرة. يحلم بالكرامة، فيُسكَتُ بالمعاش.
“سلطتُنا” فيها كلُّ معاني السلطة إلّا الوطنيّة والسيادة والاستقلال والكرامة. وبدلًا من أن تكونَ “وراء العدوّ في كلّ مكان” (كما نظّر وديع)، إذْ بها “وراء إسرائيل في كلّ مكان”: تواطؤًا، وتنسيقًا، وتآمرًا، وخنوعًا، واستزلامًا.
و”معارضتُنا” عاجزةٌ في أحسن الأحوال، أو أسيرةُ الوظائفِ والمراتبِ في أسوإها. معظمُها لا يمارس العنفَ الثوريَّ، ولا المقاطعةَ المدنيّة. يوهمُ الناسَ بأنّه “يعارض من الداخل” بلا أملٍ ولا رجاء، ولكنّه يمارسُ سياسةَ تخدير الناس بأوهام “الوحدة الوطنيّة”!
نحن الآن في حاجةٍ ماسّةٍ إلى “خلطةِ وديع،” وإنِ اتّخذتْ أسماءً أخرى لا تقلُّ عن اسمه شرفًا وذكاءً وإخلاصًا وثقافةً مشتبكةً مع الاحتلال الإسرائيليّ والاختلالِ العربيّ: جورج حبش، غسّان كنفاني، باسل الأعرج،…
نريد قيادةً فلسطينيّةً تخوض معاركَ متعددةَ المستويات ضدّ العدوّ الصهيونيّ: في البرّ، وفي البحر، وفي الجوّ، وفي الجامعات، وفي المنتديات، وفي النقابات، وفي مجالس الطلبة؛ قيادةً تجمع بين تكتيكات المقاومة المسلّحة وأساليبِ المقاطعة الشعبيّة (بما في ذلك ثقافةُ مناهضة التطبيع).
نريد قيادةً فلسطينيّةً حيويّةً، تستنهضُ طاقاتِ شعبنا الفلسطينيّ الغزيرةَ في الداخل والشتات، وترسمُ ــــ وإيّاه ــــ برامجَ عملٍ تراعي خصوصيّاتِ كلِّ ساحةٍ من ساحات الاشتباك، وتبثّ فيه الأملَ بالانتصار، وتبدِّد مشاعرَ الإحباط واليأس والقرف.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد تعريفَ “الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة،” بعد أن لوّثتْها الوظائفُ والمخصَّصاتُ السلطويّة؛ وحدة مع الشريك النظيف لا الفاسد، مع المقاتلِ لا القاتل، مع السجينِ لا السجّان، مع المتظاهِرِ لا الشرطة.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد بناءَ علاقاتها العربيّة على أساس الكفاح المشترك ضدّ الصهيونيّة والاستعمار، وضدّ الدكتاتوريّة والفساد، معًا وبالتلازم؛ قيادةً لا تتحالفُ مع الرجعيّة والقمع بحجّة “فلسطين،” ولا مع العمالة والارتهان للأجنبيّ بحجّة “الديمقراطيّة”؛ قيادةً تغادر منطقَ المؤتمرات المغلقة والتوصياتِ المملّة والخطاباتِ الطويلةِ السقيمة، وتغذّي الأطرَ الحيّةَ بالاقتراحات والدماءِ الجديدة.
نريد قيادةً فلسطينيّةً تعيد بناءَ علاقاتٍ متينةٍ مع قوًى جذريّةٍ في العالم، قد لا يكون اسمُها “الجيشَ الأحمرَ اليابانيّ” أو “بادر ــــ ماينهوف،” ولكنّها على استعدادٍ، في كلّ حال، لربط معركتها ضدّ الإمبرياليّة والرأسماليّة المتغوّلة في مجتمعاتها بمعركتنا نحن ضدّ الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة العربيّة الخائنة. فإذا كان عدوُّنا يلاحقُنا في كلّ مكان، فلا مناصَ من أن نلاحقَه في كلّ مكان!
نريد وديعًا يزلزِل العالمَ، كما زلْزَلَنا هذا العالمُ المجرمُ الخالي من كلّ مشاعر الرحمة والعدل والإنسانيّة؛ وديعًا يحرِّر جورج عبد الله من سجنه الفرنسيّ مثلما حرّر جورجًا آخرَ (هو الحكيم جورج حبش) من سجنه السوريّ قبل عقود؛ وديعًا يسحب المالَ (بالملايين!) من جيوبِ الخونة والفاسدين والمستعمِرين وينثرُها على الثورة والثوّار على شكل مؤسّساتٍ نشريّةٍ وثقافيّةٍ وتربويّةٍ وحزبيّةٍ جذريّة؛ وديعًا يعطي دروسًا في حاجةِ الثورة الحقيقيّة إلى السرّيّة والتقشّف، بدلًا من الانفلاش والإسراف.
نريد “غسّانًا” يَنطق بلساننا أدبًا رفيعًا، ومنطقًا فصيحًا، وموقفًا ناصعًا، ويوزِّع علينا برتقالًا يافويًّا شهيًّا.
نريد “حكيمًا” يوازنُ بين الأخلاقِ والسياسة، وبين القيادةِ والناس، وبين المرحليّةِ والأبد.
نريد “ناجيًا” يرسمُ أحلامَنا الهائلةَ البهاءِ، المشبعَةَ عزّةً، ويحرِّضُنا على حكّامنا المتخمين ثراءً وقذارةً وعمالةً وتسوُّلًا.
نريد “باسلًا،” بل بواسلَ، يجوبون القرى والمدنَ مشيًا وفي الباصات، ويعرِّفون شعبَنا إلى تاريخِه وجغرافيّته ونضالاتِه، ويشتبكون مع العدوّ حتى آخرِ قطرةِ دم.
ولأننا نعِمْنا، ذاتَ عصرٍ، بوديعٍ وحكيمٍ وغسّانٍ وناجٍ وباسلٍ (وماهرٍ وليْلى وعيّاشٍ ودلالٍ وتغريدٍ….) وآخرين وأخرياتٍ، فإنّنا لا نستطيعُ إلّا أن نثقَ بأنّنا سننعمُ بالمزيد من هؤلاء. لكنّ دورَنا، كتّابًا وفنّانين وطلّابًا وناشطين ومناضلين، ليس أن نكتفي بتهيئةِ “التربة الصالحة” استعدادًا للزرْع الجديد، بل أن نُسهمَ في بزوغِه المباشرِ أيضًا: أن نخلقَه بدلًا من أن ننتظرَ مَن يخلقُه لنا. ففي زمننا هذا لم يعد يكفي أن ننتظرَ “القائدَ” كي “نواكبَه.” علينا، جميعًا، أن نكون القائد.
بيروت
http://al-adab.com/article
——————————————————————————
وديع حدّاد: روحُ الثورة الفلسطينيّة
سيف دعنا*
“امتلكَ الناسُ على الدوام درجةً معيّنةً من الحرّيّة، فقط بدرجة جرأتهم على انتزاعها من الخوف”
ستندال، حياة نابليون
هل تعرفون ماذا يعني تحريرُ فلسطين؟
تغييرَ العالم! فلو كانت المواجهةُ مع الحركة الصهيونيّة وحدها، لاستطاع العربُ ربّما حسمَ الصراع منذ العام ١٩٤٨، هذا إنْ كان ممكنًا لمثل هذا الصراع أن يتطوّرَ أصلًا في معزلٍ عن حالة العالم. لكنّ العدوّ في كلّ مكان: في فلسطين، وفي الوطن العربيّ، وفي كلّ العالم. العدوّ أيضًا في العقول والنفوس والأرواح المهزومة. لهذا كان على الثائر الحقيقيّ أن يكون “وراء العدوّ في كلّ مكان.” هذا ما عرفه جيّدًا، كما يبدو، الشهيد وديع حدّاد، ولم يعرفه الكثيرُ من قادة الثورة الآخرين. ومَن عرفه منهم لم يمتلكْ شجاعةَ الشهيد حدّاد، وإصرارَه على الالتزام بالمسار المطلوب حتّى النهاية ــــ من دون مساومةٍ، ولا حسابٍ، ولا تردّدٍ، ولو كلّفه ذلك حياتَه.
ذكرى وديع اليوم مناسبةٌ لكي ندرك أنّ أحدَ أسباب ما وصلنا إليه هو الالتباسُ الخطيرُ حول فكرة “الثورة،” وفكرةِ “الثائر” (فـ”ثورتنا” هي “الثورة” الوحيدة في التاريخ التي تطالب ثوّارَها بـ “الواقعيّة،” حتّى وصلنا إلى مرحلةٍ أصبحتْ فيها الخيانةُ نهجًا رسميًّا)، وفكرةِ “الاستعمار” (الذي يظنُّ البعضُ أنّه يمكن “التفاهمُ” معه رغم المصالح الهائلة التي يمثّلُها، ورغم طبيعته الجوهرانيّة العنيفة)، ومعنى “العنف” و”العنف الثوريّ” (وهو ما ناقشتُه سابقًا في صحيفة الأخبار).(1)
روحُ الثورة
الذكرى، إذن، مناسبةٌ لإعادة النظر في طبيعة الجدل الذي دار حينها حول تكتيكات المقاومة التي استخدمها الشهيد وديع حدّاد (في حقبة قيادته لـ “المجال الخارجيّ”)، ولإدراكِ أنّ الخلاف لم يكن عليها في حدّ ذاتها، ولا على حقيقة “تقادمها” في حقبةٍ لاحقة، كما جادلَ البعض. ولا أقصد أنّ الأيّام أثبتتْ أنّ رفضَ أسلوب حدّاد، ولاحقًا استبعادَه، كانا، أساسًا، نتيجةً لضغوط الاتّحاد السوفييتيّ (الذي نعرف أنّه لم يستطع يومًا أن يرى الصراعَ من خندق شعوب الجنوب، كما فعلت الصينُ مثلًا). ولا أقصد، كذلك، ثبوتَ ارتباط بعضِ مَن عارضوه مِن قادةٍ، حينها، بأجهزة استخباراتٍ غيرِ صديقة (كما يذكر بسّام أبو شريف في كتابه عن وديع حدّاد).
جوهرُ الجدل حقًّا، وكما يمكن ــــ ويجب ــــ أن نراه اليوم وبأثر رجعيّ، كان حول روح الثورة ذاتها. جوهرُ الجدل كان حول نموذج الثائر الذي يمثِّل روحَ “الثورة الفلسطينيّة” وأهدافَها ومسارَها. فوديع كان يمثّل نموذجًا فذًّا واستثنائيًّا لثائرٍ يحمل على كتفيْه مهمّةَ تحرير فلسطين على طريق تغيير العالم. ولهذا، كان فقدانُ نموذجه بمثابة فقدان الروح التي تعطي الثورةَ الحياةَ. هكذا انتهت “الثورةُ” إلى ما انتهت إليه (أليس غريبًا ولافتًا أنّ جدلًا مشابهًا لم ينل مَن كان يلتقي الصهاينةَ، ويُبدي الاستعدادَ للاعتراف بهم حينها؟).
لم يكن وديع حدّاد ثائرًا فلسطينيًّا وعربيًّا عاديًّا. جورج حبش يصفه (وحده دون غيره) بـ “الاستثنائيّ،” وذلك في غيرِ مكان من كتاب: الثوريّون لا يموتون أبدًا.(2) لكنّ “الثورة” التي سارت منذ البداية في طريقٍ لا تصل إلّا إلى أوسلو (أو إلى دويْلةٍ تحت حِراب الاحتلال في أحسن الأحوال) لا مكانَ فيها لأمثال وديع حدّاد؛ أمّا الثورة التي يمثّل نموذجُ وديع حدّاد روحَها فلا يمكن أن تصل إلى أوسلو أبدًا. هذه هي كلّ القصّة، وهذا هو سبب الجدل.
ولأنّ وديع حدّاد ثائرٌ “استثنائيّ،” فإنّه لم يكن ممكنًا ترويضُه على الإطلاق، كما حصل مع الكثيرين غيره. ما كان ممكنًا هو إعادةُ كتابة تاريخ عمليّاته، وتزويرُها، وتشويهُ حقيقتها (ولهذا نعتبُ على وديع أنّه لم يترك لنا شيئًا مكتوبًا). فإذا عاد القارئُ إلى الكثير من أدبيّات “الثورة” الفلسطينيّة، وحواراتِ الكثير من قادتها، بل إلى ما يردّده الكثيرُ من المعلّقين حول المقاومة أيضًا، فسيَصدمه الإصرارُ على أنّ هدف عمليّات المقاومة الأساسَ كان إعلاميًّا بحتًا، يهدف إلى “تعريف العالم” بمأساة شعبنا ـ تخيّلوا، مثلًا، لو أنّ الشهيد عماد مغنيّة ورفاقَه اكتفوْا بالأثر الإعلاميّ للمقاومة على الكيان الصهيونيّ!
لم يفهمْ “قادةُ الثورة” الفلسطينيّة، كما يبدو، معنى الثورة أصلًا، ولا معنى العنف الثوريّ ووظيفتَه؛ أو، ربّما، فهموا وكانوا أجبنَ مِن أن يَثْبتوا على مسارٍ قد يكلّفُهم حياتهم؛ أو، ربّما، كانوا أجبنَ من تحمّل قسطٍ بسيطٍ من مسؤوليّة أعمال وديع حدّاد وأمثاله من الثوّار وتبعاتها؛ أو، ربّما، ظنّ بعضُهم فعلًا أنّ التغطية الإعلاميّة تكفي لتحقيق أهدافهم المتواضعة بالدويْلة المسخ. لهذا، بالضبط، كان الشهيد وديع حدّاد أكبرَ بكثيرٍ من “ثورتهم” التي لم تستطع استيعابَ قدراتِه وإمكانيّاتِه ونموذجِه. ولهذا، بالضبط، كان الشهيد وديع حدّاد أكبرَ من كلّ قادتها كذلك.
روحُ العصر
غير أنّ الشهيد وديع حدّاد، أو نموذجَه، مثّل، أيضًا، روحَ العصر الذي عاشه، لا روحَ الثورة المغدورة فقط. وكان جزءًا عضويًّا من “موجة الملوَّنين” التي هزّت العالمَ حينها على طريق تغييره، كما قال مالكولم إكس عن ثورات الجنوب. فهو لم يعرفْ فقط أنّ “الاستعمار حدثٌ عنيفٌ في حدّ ذاته،” كما قال فرانز فانون في معذّبو الأرض،(3) بل عرف كذلك أنّ محوَ الاستعمار حدثٌ عنيفٌ كذلك، وأنّه يتضمّن ــــ في ما يتضمّن ــــ إعادةَ اختراعٍ وإعادةَ خلقٍ للمستعمَر بعد أن مسخه الاستعمارُ فحوّله إلى همجيٍّ وعبدٍ، كما جادل إيميه سيزير في خطاب حول الكولونياليّة.(4) عرف وديع أنّ الثورة الفلسطينيّة هي جزءٌ عضويٌّ من حالةٍ عالميّةٍ كبرى، كانت تعمل على تغيير العالم، ويجب أن تبقى كذلك.
والشهيد حدّاد كان التعبيرَ العربيّ الفلسطينيّ الأصدقَ عن عصره، ولِما كان يجب أن تكونَ عليه الثورةُ حتى تنتصر. كان ذلك عصرَ حركات التحرّر الوطنيّ وصعودِ تكتّل الجنوب في مواجهة الشمال لتغيير النظام الذي قام عليه العالم. كان ذلك عصرَ هوشي منه وجمال عبد الناصر؛ عصرَ أميلكار كابرال وهواري بومدين، الذي أراد حدّاد ورفاقُه أن يلتحقوا به على طريق تحرير فلسطين. لكنّ عقيدة السادات، وساداتيّة محمود عبّاس، اختطفتا ثورةَ المنكوبين في فلسطين منذ البداية. أما حداد، فظلّ يقاتل، رغم كلّ شيء، حتى اللحظات الأخيرة من حياته القصيرة، ليكون النموذج الأصدق لشعاره: “نكران الذات.”
خاتمة: هكذا يُخلق العبيد
ربّما قرأ الملايينُ في العالم عن عنف الثورة في هاييتي، وربما استفزّهم أيضًا ما ذكره سي. ل. ر. جايمس، في اليعاقبة السود،(5) من تفاصيلَ دمويّةٍ، وانتقدوه كثيرًا بسببها ــــ وكأنّ تجاهلَها كان سيعني أنّها لم تحدثْ. لكنّ عليكَ أن تكون متخصّصًا في تاريخ أوروبا الكولونياليّ في الجنوب لتقعَ عيناكَ على مذكّرات توماس ثيسلوود.(6) والأهمّ أنّ عليك أن تكون ميّتَ القلب تمامًا، وأن تتنازلَ مؤقّتًا عن كلّ ذرّةٍ من الإنسانيّة لكي تتمكّن من إجبار نفسك على قراءة القليل ممّا فعله مستوطِنو أوروبا البيض بالمستعبَدين في مزارع هاييتي وجامايكا. ثيسلوود، أحدُ أصحاب هذه المزارع (بدأ حياته مراقبًا في إحدى المزارع في جامايكا)، ترك سجلًّا مفصّلًا، من آلاف الصفحات، عن همجّية المستوطِنين في عالمنا الجنوبيّ. ثيسلوود، الذي يسرد بالتفصيل عمليّاتِ الاغتصاب التي ارتكبها في حقّ ١٣٨ من المستعبَدات، ليس إلّا نموذجًا لما كان عليه المستوطنُ الأبيض (رغم تركه إرثًا مميًّزا يعرفه به العالم)، ونحن لا نعرفه إلّا لأنه دوّن بعضَ جرائمه في مذكّرات.
ترك ثيسلوود نموذجًا عن طريقة تعذيبٍ من اختراعه، اسمها “جرعة ديربي.” وديربي هو أحدُ المستعبَدين، جَلَدَه ثيسلوود مرّةً بعنف، ثمّ فَرَكَ جراحَه بالملح والليمون والخلّ، وأجبر مستعبَدًا آخرَ على التبرّز في فمه، قبل أن يكمّم فمَه (بما فيه) لساعات. لاحقًا، انتشرتْ “جرعةُ ديربي” أسلوبًا معتمَدًا لدى مُلّاك المزارع، يستخدمونها بشكلٍ دائم ضدّ المستعبَدين. وبقيتْ “حقوقُ الاختراع” مسجّلةً باسم ثيسلوود.
كان ثيسلوود، ومَن معه من مستوطنين بيض، يعرفون جيّدًا ما يفعلون. كانوا يعرفون أنّ الناس لا يُولدون عبيدًا. كانوا يعرفون أنّه لا يمكنهم أن يشتروا عبدًا، بل يمكنهم أن يصنعوا عبدًا. كان كلُّ هذا العنف في رأيهم كفيلًا بكسر روح البشر، وإخضاعِهم، ومسخِهم عبيدًا. لهذا عرف الثوّارُ في هاييتي أنّ العنفَ المضادّ هو الوحيدُ الكفيلُ بتطهير النفس من قذارات العبوديّة. وهو الكفيل أيضًا بسحق روح المستعمِر وهزيمتِه.
مَن يعرف طريقًا آخر فليدلَّنا عليه، أو فليلتزمِ الصمتَ.
ويسكونسن (الولايات المتّحدة)
(1) http://www.al-akhbar.com/node/220138
(2) بيروت: دار الساقي، 2009.
(3) Franz Fanon. 2004 (1961), The Wretched of the Earth (NY: Grove Press, 1961).
(4) Aimé Césaire, Discourse on Colonialism (NY: Monthly Review Press, 1972).
(5) C.L.R. James, The Black Jacobins: Toussaint L’Ouverture and the San Domingo Revolution (NY: Vintage Books, 1989, 1963).
(6) Trevor Burnard, Thomas Thistlewood and his Slaves in the Anglo-Jamaican World: Mastery, Tyranny & Desire (Chapel Hill: The University of North Carolina Press).
————————————————-
التعليقات مغلقة.