حديث الثلاثاء ” : الحلقة الثالثة والأربعون ” 43 ” … [ الحرب الدوليّة على سورية .. و دخول العالمعصر ” الحداثة السّياسيّة الرّابعة ” .تردّد المواقع .. و تنافر الخطاب الظّاهريّ .. ] / د. بهجت سليمان

Image result for ‫بهجت سليمان‬‎

 د . بهجت سليمان* ( سورية ) الثلاثاء 9/4/2019 م …




 *السفير السوري السابق في الأردن …

■ النّصر ليس صبرَ ساعة فقط كما يُقال ، و إنّما هو مراكمة لتحصيل زمن مديد عشناه و ما نزال نعيشه في المباشر و في الأثر ، و هو ما يتطّلب منّا و من جميع الرّدفاء توحيد القوى بما فيها عناصر ”الخطاب” ، و التي تبرز أكثرَ فأكثر في المواقف و الأداء و السّلوك ، كما في العقيدة القتالية في المواجهة والمقاومة ■

■ لا نشّكك مطلقا ، بمواقف الأصدقاء و الحلفاء ، على رغم أنّ النّقد الفكريّ السّياسيّ في تضاعيف و انثناءات هذا الحديث ، إنّما نعتبره ضرباً من التّذكير ( والذكرى تنفع المؤمنين ) ■

1▪ يعجّ العالم اليوم بالنّفوذ الأميركيّ الجائح ، بينما يقف الطّرف الآخر من العالم في المواجهات الاستراتيجّية على بعدٍ واضح ، درءاً لإثارة الوحش الهائج الذي لا تردعه قيم أو ضعف أو قوة أو أخلاق .

و على الرَّغم من ذلك ، فإنّنا نشهد بداية الأسطورة التي ستطيح بالإمبريالّية الأميركّية و معها جميع الأسطوريين ، الذين يعملون بجدّ على تدمير العالم تقرّباً بقربانات الدّماء التي تشترط ، في زعمهم ، هذه النّهاية النّكراء .

أنفقت أميركا شبابها الإمبراطوريّ الإمبرياليّ بواسطة توسّعها البراغماتيّ ، الذي يحتاج إلى دليل على صوابيّة النّهج الأميركيّ ؛ و هذا ما يذكّرنا بالنّهايات الإمبراطورّية لروما التي تخلّت ، في آخر الأمر ، عن استراتيجيّاتها في أنماط من نزعات التّفوّق الجيوبوليتيكيّ ، الذي يجعل الاستراتيجيّات نفسها في المقام الثّاني في تاريخ القوّة و السّيطرة و الانتشار .

و يعود جزء كبيرٌ من التّراجع الإمبرياليّ الأميركيّ ، إلى الانتشارات غير المتكافئة في قوّتها العاتية ، من بحر الصّين في المحيط الهادي إلى مستنقعها القاتل في الشّرق الأوسط ، و الذي يمثّل ، هنا ، جيل الحرب الرابع تبعاً للحداثة المعاصرة التي يمكن أن نسمّيها ب ( الحداثة الرّابعة ).

2▪ معروف في تاريخ العالم الحداثيّ المعاصر أنّ “الحداثة الأولى” قد أُنجزت مع الثّورة الفرنسيّة( عام 1789 ) كتتويج عنيف و دمويّ لفكر “الأنوار” في عصر التّنوير الحديث ، الذي بدأ مع ( هوبز ) و ( لوك ) في بريطانيا ، و انتهى في فرنسا الثّورة البورجوازيّة التي بنيت على أفكار ( فولتير ) و ( روسّو ) و ( مونتسكيو ) و ( كوندرسيه ) و ( ميرابو ) و آخرين.

و جاءت الحرب العالميّة الأولى بمثابة ”الحداثة” العالمّية الثّانية ، بما حملته من مقدّمات فكرّية و نظريّة حديثة العهد ، بالنّسبة لإعادة اقتسام عالم الإمبراطورّيات البائدة ، كالإمبراطورّية البريطانيّة و الإمبراطورّية الهولنديّة و الإمبراطورّية الفرنسيّة و الإمبراطورّية السّلجوقيّة العثمانيّة .

لقد رافق هذه الحداثة الثّانية جملة من الفلسفات التي تمجّد القوّة و العنف ، ضدّ عنف آخر مارسته الإمبراطوريّات الزّائلة ، و ذلك في السّياسة و الاقتصاد و الثّقافات االتي تدّعي التّفوّق العرقيّ النّبيل ، فكان حصيلة ذلك انتصار أفكار العبثيّة التّدميريّة ، التي رافقتها جملة من المحظورات الإمبريالّية التي جعلت ( أميركا ) تظهر على السّاحة العالميّة لملء الفراغ الإمبراطوريّ التّقليديّ ، الذي كان محتكراً في أوربا و اليابان على نحو خاصّ ..

وهكذا فتحت الحرب العالميّة الأولى ، بما هي حداثة ثانية ، جرحاً عميقاً و إهانات قوميّة و وطنيّة لهويّات عالميّة ، ما جعل هذه الحرب تؤسّس لحداثة ثالثة جاءت مع الحرب العالميّة الثّانية ، التي جعلت الانتقام الإمبرياليّ يتركّز ، هذه المرّة ، بشكل أساسيّ على ألمانيا و اليابان بوصفهما آخر الإمبراطوريّات التّقليديّة التي انتهى دورها التّاريخيّ بما هي كذلك ، حيث صعدت أميركا كقوّة جارفة ، فيما كان الاتّحاد السّوفييتي يرقب هذا الواقع بالمزيد من التّسليح الوقائيّ الرّادع ، فظهرت ما تسمّى بالحرب الباردة ، التي طبعت العالم سياسيّاً و فلسفيّاً و أيديولوجيّاً و اقتصاديّاً و ثقافيّاً ..

فيما خلقت هذه الحداثة الثّالثة ظروف حركات التّحرّر الوطنيّ العالميّة ، و هو ما جعل أميركا تعيش المزيد من التّشتّت الإمبراطوريّ ، الذي سوف يُضعفها بحسب قانون كثافة القوّة و ديموغرافيا الهيمنة و السّيطرة ، التي لم تكن في خدمة أميركا ، إن لم تكن عامل إضعاف تشتّتي للإمبراطورّية العظمى الأميركّية وارثة روما بعنفها و ثقافتها المحدودة و اختصاصها بالحروب و القتل و التّدمير .

جاءت “الحداثة العالميّة الرّابعة” منذ نهاية القرن العشرين المبكّرة في العقد الأخير منه ، مع زوال الاتّحاد االسّوفييتيّ ، متوَّجة بأحداث الحادي عشر من أيلول /سسبتمبر عام ( 2001 ) ، و فاتحة جبهات العالم دفعة واحدة ، مع ما غذّى هذا الهجوم البربريّ من ثقافات سياسيّة تقوم أصلاً على النّزعة “القوميّة الدّينيّة” التي جاءت على مثال الكيان الإسرائيليّ ، بوصفه أوّل ” دولة” تاريخيّة معروفة تقوم على أساس النّزعة القوميّة الدّينيّة اليهوديّة التّلموديّة ، و هو ما جعل هذه الطّاهرة الشّاذة مثالاً يجري العمل على تعميمه في منطقتنا الإقليمّية..

و نخصّ بالذّكر هنا الإخوانّية التّركيّة ، و هو ما جعل هذا الواقع أكثر تعميماً في منطقة الشّرق الأوسط ، حيث وصل “الإخوان” إلى السّلطة في مصر ، في هزليّة تاريخيّة ستبقى وصمة عار على جبين العرب المصريين قبل غيرهم من الشّعوب العربيّة الأخرى .

3▪ كان للحرب السّوريّة ( وهي تسمية مجازية ل ” الحرب الكونية على سورية ) سبقٌ تاريخيّ في إنجاز اصطفافات “الحداثة العالميّة الرّابعة” ، والإجهاز على ميوعة المشهد العالميّ . حيث أُعيد تشكيل العالم المعاصر من بحر الصّين في المحيط الهادي إلى الشّواطئ الشّرقيّة للمحيط الأطلسيّ ..

فيما تقدّمت “ قارة” ( أوراسيا ) الرّوسيّة إلى شواطئ البحر الأبيض المتوّسط تعزيزاً للدّفاعات الاستراتيجّية و الهجوميّة الجغرافيّة ، في مواجهة قوّة ( النّاتو ) الإمبريالّية و لجمها في حدود جديدة ، أجهزت على طموحات أميركا و أوربّا في السّيطرة على منطقة الشّرق الأوسط ، التي كانت ملعباً مستباحاً للعربدة الأميركّية الأوربّية الغربيّة و الصّهيونيّة العالميّة المتركّزة في الكيان الصّهيونيّ الغاصب في ( ”إسرائيل”) .

4▪من الدّوافع التي تقوم عليها اليوم الإمبريالّية و الصّهيونيّة العالميّة ، ثمّة جانب أسطوريّ صريح و معلن عن مستقبل الحرب الكلّيّة العالميّة الشّاملة التي ستضع حدّاً أخيراً لحياة الأرض . ولا مانع من أن نأخذ الأمر على محمل الجدّ ، إذ أنّ التّفكير الأسطوريّ هو التّفكير الوحيد الذي استمرّ متسلسلاً في ثقافات العنف العالميّة ، فيما أصاب حميع أيديولوجيّات العالم انقطاعات و تحويرات و تعديلات كانت ”الأسطورة” وحدها بمنأى عن تلك الانقطاعات الإبستمّية و الأيديولوجّية التي طالت أفكار و فلسفات العالم قاطبة من دون استثناء .

و المشكلة الأعظم هي في أنّ جميع أديان الأرض تقريباً ، تؤمن بمثل هذه العقيدة الانتهائّية لكوكبنا الذي يزداد ظُلمة و وعورة ، لحمله أفكاراً متنافرة و متناقضة و متوحّشة في جانبها الأكبر ، نتيجة لأنّ الوجود الإنسانيّ نفسه قد ضمر وانكمش أمله بنفسه و بالمستقبل ، فراح يعيش في مدار الّلحظة الواحدة التي تفرضُ عليه إغلاق دماغه إزاء المستقبل .

5▪ يخضع تاريخ الإنسانّية إلى معتقدات متشابهة في التّطوّر في الأطوار ، و ذلك بغضّ النّظر عن ما اختزنه الإنسان من خبرات و تجارب ، فهو قاصر العقل عندما يتّصل الأمر بالجشع و الغطرسة و استفزاز مكامن التوّحش البشريّ المتمحور حول الغلبة و السّيطرة ، الّلتين أصبحتا هدفين بذاتهما ، بمعزل عن ما يمكن أن يكون من ملحقاتهما في الكسب و الرّبح و المجد ، و لكن لأنّهما باتا بحكم الفضيلة التي تشوّهت بالفعل الإنسانيّ و انحرفت عن قيمتها النّظريّة و العمليّة ناهيك عن مضمونها الأخلاقيّ .

يقول ( إدوارد جيبون ) المؤرّخ البريطانيّ الشّهير الذي اشتهر بتأريخه لسقوط الإمبراطورّية الرّومانيّة :

“ إنّ الأسباب المؤثّرة في التّاريخ ليست جميعها قائمة على إرادة الأفراد و حكمة الصّالحين و براعة الأشرار ، و إنّما لملابسات الظّروف و الجوّ و الثّقافة الملائمة و حالة البيئة العاّمة ” .

[ إدوارد جيبون – سقوط الإمبراطورّية الرّومانيّة – ص (٨٩) ] .

و في كلام الرّجال المعتبرين في التّأريخ مثل ( جيبون) أبعاد مختلفة للعبارة و الخطاب ، حيث يُثير المؤرّخ هنا موضوع ” ملابسات الظّروف و الثّقافة و البيئة” العالميّة المحيطة بسقوط ( روما ) الإمبراطورّية ..

و لا نرى أنّ هذه القوانين الحاكمة تاريخيّاً ، تصيب أمّة من الأمم دون غيرها ، و هكذا يمكن لنا أن نربط سقوط الإمبراطوريّات بظروف و عوامل متشابهة أيضاً .

6▪ نعيش اليوم فترة عالميّة للإمبراطورّية الأميركّية التي تنصب الفخاخ لحركة التّاريخ بوسائلها التي لا تُحصى في مقاومة السّقوط ..

و يعجب المرء ، فعلاً ، من هذه القدرة على المرونة و التّنوّع الهائل في الأدوات و المزايا التي تتمتّع بها أميركا مقاومة تراجعها أو زوالها ، و هي قول لبريجينيسكي أنّ التّخطيط الاستراتيجيّ ليس لفترة ( 50 ) عاماً ، كما اقترح يوماً ، و إنّما لقرن كامل كما دعاه المتشدّدون السّياسيّون الأميركيّون من المحافظين الجدد ، بأنّ المئة سنة المقبلة ، و اعتباراً من بداية الألفّية الثّالثة ، هي القرن الأميركيّ باحتكار فريد .

إنّ الذي يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ في ما أسميناه ” الحداثة الرّابعة” ، إنّما هو الدّور الأميركيّ المركزيّ في هذه ”الحداثة” ، و التي كان لسورية أن تقتسم العداء مع أميركا ، في سبيل إنضاج معالم هذه الحداثة ، الجديدة ، مع كلّ ما يرجو المرء و يرغب في أن تكون الأمور على حالة أخرى مختلفة ، و لكنّه الواقع العالميّ الذي لا مهرب و لا فكاك منه .

لقد تركت الحرب السّوريّة ( الحرب الكونية على سورية ) ، بالصمود الأسطوري للدولة السورية ، بصمتها التّاريخيّة الرّائدة في الحداثة الرّابعة كما لم تتركها مثلها دولة أو أمّة من الأمم .

و فيما أنّ سورية قد أذلّت أهداف هذه الحرب الإمبريالّية الأميركّية ، و منعت أولئك الذين أشعلوا هذا البركان في سورية من تحقيق أغراضهم الاستراتيجّية ، إذ لا خلاف على حجم و بهاظة الثّمن الذي دفعته سورية..

فإنّ المنطقة الإقليمّية المحيطة بسورية لم ترتقِ إلى مستوى هذا الحدث التّاريخيّ المفارق و العميق في تأثيراته و نتائجه ، على المكان بقدراته و مقدّراته و مخزونه التّاريخيّ ، الذي بدا أنّه قد انجرف أمام سيل هذه الحرب الطّاحنة ، حيث ما تزال أطراف و دول إقليميّة تؤدّي دوراً من خارج البؤرة الملتهبة في تصوّرات قاصرة على المصالح المباشرة ، جاهلة أو متجاهلة حجم المقبل الأميركيّ من العنت الذي يطبع السّلوك الأميركيّ في استدامة هذه الحرب في المكان و الزّمان ..

و هو الأمر الذي يضع مفهوم التّخطيط الاستراتيجيّ لدول المنطقة في قفص الاتّهام التّاريخيّ ، و هي غير عابئة بمستقبل هذه المواقف الّلامسؤولة ، التي ستنعكس عليها عاجلاً أو آجلاً بالويلات القادمة ، و بخاصّة عندما تنفرد في رؤاها الإقليمّية و سياستها المنفردة قصيرة النّظر ، و لو على مستوى الخطط ”الخمسيّة” أو “العشريّة” ، التي أثبتت عجزها و كذبها في تحقيق أغراضها التّنمويّة ، في مقابل ما قلناه عن التّحدّي العالميّ و الإقليميّ في ”القرن الأميركيّ” ، الذي تتجنّد له مراكز للبحوث و معاهد للإحصاء و اختراعات و إنتاجات جديدة لأدوات القتل و التّدمير و احتكار أموال العالم على مرأى من الجميع .

7▪ لا يباري الخبثَ الأميركيّ في العالم ، دولةٌ أو أمّة في السّياسات الجيوبوليتيكيّة أو الاستراتيجّية ؛ و من هنا كان من الضّروريّ على أطراف المكان ، و بخاصّة منها ما يعرف بمحور المقاومة ، مهمّات عظيمة و واجبات جسامٌ لم تصل إلى هذه المرحلة من دورها التّاريخيّ الذي يهدّد تجاهله وجودها كلّها ، في إطار التّحالفات الأميركّية – الإسرائيلّية – التّركيّة – الخليجيّة ، بحيث يبدو محور العدوان محوراً قارّاً و ثقيلَ العيار أمام تجربة ما تزال في طور الفتوة في محور المقاومة .

و نتساءل ، ألا تحتاج بعض أطراف هذا المحور ، لمواجهة التحدي الوجودي الداهم ، أن تقطع مع المحور العدوّ ، و من دون تغليب المصالح الاقتصادّية القاصرة ، هذا مع العلم أنّ ما يجب التوقف عنده مليا ، إنّما هو واقع الانسجامات الأيديولوجّية ، تلك التي نوّهنا بها في بداية هذا الحديث عندما تناولنا أمر المفاهيم الأيديولوجّية القائمة على جذر القوميّات الدّينيّة و التي تتقاطع ، من حيث النّظريّة المبدئيّة ، مع العقيدة اليهوديّة التّلموديّة الإسرائيلّية ، و أقلّ ذلك من حيث المبدأ العامّ الذي يدفع إلى خلخلة بنية و هيكليّة محور المقاومة و يجعله رهين التّحالف الأيديولوجيّ ، بقصد أو من غير قصد ، مع المحور العدوّ ..

و مهما قيل على دور المصالح الاقتصادّية التي تربط بعض الدول الإقليمية والعالمية، فإنّ النّظرة السّياسيّة في ظروف هذه الحرب الحداثيّة العالميّة المعاصرة ، إنّما تبدو نظرة قاصرة قصوراً ذاتيّاً مضافاً إليها القصور الموضوعيّ نتيجة المواجهات الجادّة بين المحاور التي أفرزتها هذه الحرب .

8▪ إنّ العُدّة الأميركّية التي تستخدمها أميركا و حلفاؤها الموضوعيون ، هي أكبر قياسيّاً من العُدّة التي استخدمتها سورية مع شركائها و حلفائها ، و هذا ما يُفسّر حجم الخسارات و الأثمان التي دفعتها سورية مع ردفائها في هذه الحرب الماجنة..

و لا يزال الموعد قائماً مع المزيد من التّضحيات و الخسارات ، و كلّ ذلك – في رأينا – هو نتيجة لاستراتيجيّات أصبحت قاصرة في هذا العصر الحداثيّ العولميّ ، الذي غدا فيه أمر الفرز التّاريخيّ شيئاً ناجزاً إلى النّهاية .

و يلفت النظر ، هنا ، تلك المسرحيّة التي تفتعلها أميركا و تركيا بتنسيق ماهر و عجيب بشأن انزعاج أميركا المزعوم من تزوّد ( تركيا ) بصواريخ ( S 400 ) روسيّة الصّنع ، و ذلك من قبيل رسم فخ لروسيا للإسراع بتنفيذ هذه الصّفقة التّجاريّة غير المسبوقة ، بمنح أميركا فرصة نادرة للاطّلاع على أحدث التَّقنيّة العسكريّة الرّوسيّة في صناعات الدّفاع الفضائيّ المعاصرة ، و كلّ ذلك تحت عنوان المصالح الاقتصادّية الحاكمة ..

و الأمر نفسه ينطبق على العلاقات الاقتصادّية الإيرانّية – التّركيّة ، و ذلك مهما قبلنا أو قبل غيرنا بمفهوم التّباينات الجزئيّة في مواقف الحلفاء و الشّركاء ، و مهما فهمنا تسويغات ذلك فهماً معاصراً ، لولا أنّ الحرب القائمة بالنّسبة إلى سورية على الأقلّ ، هي حرب مصيريّة بالنّسبة إلى سورية كما بالنّسبة إلى الحلفاء و الأصدقاء .

و من البديهي والمنطقي أن يتقاسم الأصدقاء و الحلفاء و الرّدفاء و الشّركاء ، الغنم و الغرم إلى حدّ أكبر ممّا هو عليه الآن في واقع و ظروف هذه الحرب التي أحاطت بقَدَرِ هذا المكان .

9▪ يوحي التّردّد بالمواقف ، بتباين المواقع في المحور الواحد في هذه الحرب ، و أعني بالنّسبة إلى المحور السّوريّ مع الحلفاء و الشّركاء و الأصدقاء ..

فهل يمكن تفسير أو تعليل هذا الواقع في إطار الأيديولوجيّات الدّينيّة الحاكمة للمكان و المدعّمة بحكايا و روايات المصالح الاستهلاكّية ؟! .

و عندما يصل بنا الأمر إلى هذه المواصل ، فإنّ الخطاب السّياسيّ العلنيّ نفسه يغدو غير منسجم ، ناهيك عن الخطاب الآخر الباطنيّ أو السّرّيّ بين الأطراف المختلفة ، و الذي يعمل بعكس ثقافة هذه الحرب التي انقسم عليها العالم و كانت إنجازاً أخيراً لحداثة عالميّة مفارقة و عميقة ، بقدر ما كانت إنجازاً إشكاليّاً بالنّظر إلى حجم الخسائر السّوريّة الباهظة التي دفعتها سورية بالجملة و ليس بالتّقسيط .

10▪ يأخذ مفهوم المستقبل في المنعطفات العالميّة الصّريحة ، بعداً أو أبعاداً مغايرة لما هو عليه هذا المفهوم ، في الأوقات العادّية و التّقليديّة النّافذة بحكم قوانينها السّارية بهدوء .

يقترن مستقبل العالم اليوم بانطباعات شبه نهائيّة حول صراع القوى العالميّة ذات المصالح المتنافرة ، المتناقضة ، و غير المنسجمة بحكم تناقض مشاريع حامليها التّاريخيين . و حيث سيؤسّس تحديد المستقبل القريب لتوزّع ديناميّات القوى الإقليمّية و العالميّة في المحاور و الجبهات العالميّة ، فإنّ الارتقاء بمفهوم المصالح التّاريخيّة يحتاج أن يتّبع خطاباً سياسيّاً و تاريخيّاً جديداً يكون لائقاً بمستوى التّحدّيات ، و هذا في الوقت الذي يكون فيه الجميع قد تموضع تموضعاً فعليّاً في نواحي التّطوّرات العالميّة الجامحة ، بما يتجاوز الخطاب الّلفظيّ و الإعلاميّ الذي صار محلّ سخريّة و استهجان الأمّيين السّياسيين قبل المفكّرين و المختصّين و المحترفين .

ويجب ألّا ينسى الجميع أنّهم معنيّون بالتّحوّلات الإقليمّية و العالميّة التي يباشرها الحدث ، اليوم . و هكذا فإنّ مستقبل تطوّرات هذا الحدث العالميّ و آفاق توزيعه بما هو طاقة ، سوف يُصار إلى انفراغها و تفريغها في المنطقة و العالم ، يتوقّف مباشرة على الكيفيّات الّلحظيّة المعاصرة و اليوميّة الحالّة في التّعاطي مع ظروفه المعقّدة ..

و واضح أنّ من يكسب الحرب ، على نحو من أنحاء الكسب ، و لو في استيعاب الصّدمة و الصّمود و فهم عناصر التّحوّلات ، إنّما هو من ينعقد عليه الأمل في كسب الّسلم في الظّروف الطّبيعيّة من مستقبل قادم لا محالة و لا شكّ ..

و بالمقابل فإنّ من يتعامل مع هذه الّلحظات الحادّة و المصيريّة التي ترافق هذه النّهايات ، بخاصّة ، على نحو تحايلي و تنكّريّ أمام فجاعة الجدّيّة التي تُطبّق على المكان ، فإنّه سوف يحصد ثمار هذا السّلوك اضمحلالاً إقليميّاً و عالميّاً و محليّاً و نهائيّاً ، بعدما أتاحت له ظروف هذه الحرب استعادة أمجاده التّاريخيّة التي كادت تموت إلى غير رجعة أو بعث أو حياة .

11▪ إنّ اجتماع ” الفطرة و الفكرة ” ، وفق ما يقول ( وايتهيد ) .. هي حالة نادرة في التّغيير التّاريخيّ لمعالم المعاملات التّاريخيّة في إطار المنظومات ، بين القديم و الجديد ؛ تقودنا إلى قناعة مفادها هو أنّه لم تُتِح الظّروف التّاريخيّة لهذا النّضوج للفطرة و الفكرة معاً ، كما تتيحها اليوم في غضون هذه ”الحداثة” المعاصرة ، التي تتميّز عن سابقاتها بوضوح الأفكار و الأهداف و علنّية الأغراض و الغايات و شفافّية الوسائل و التّوجّهات .

ربّما يكون تعبير ( وايتهيد ) على “اجتماع الفطرة و الفكرة” من التّعابير النّبوئيّة السّباقة لتسمية عصر ”الحداثة الرّابعة” – عندما يكون هذا العصر على صراط البشريّة العادل – في ما نقوله نحن بالنّظام العالميّ المعاصر و الذي سبق و أن ميّزناه بالتّفنيد و التّفصيل عن النّظام الدّوليّ ، على هذا المنبر ؛ و من أجل الدّقّة فهو يندمج في ما يقولونه بعصر ”العولمة” .

و سواءٌ أردنا أم لم نُرِد ، فنحن في قلب العولمة المعاصرة التي من ميزاتها أنّها لا تقبل الاصطفافات المتردّدة أو التّذاكي و التّخابث ، فشموليّتها و عمقها و أفقها قد تجاوزت جميع هذه الأدوات الاعتبارّية المتحفيّة و الأثرّية ، بحيث وضعت العالم في حقيقتيه الكبريين وجهاً لوجه ، و أعني بالحقيقتين ذينك الاصطفافين الذين كنّا نقرأ عنهما في الأفكار ، فإذا بهما يواجهاننا في الواقع في طرفيّ المظلوميّة التّاريخيّة – و هذا إذا شئنا توصيفاً أخلاقويّاً لها – والتي يمكن أن نكون في الواقع أقرب إلى الحقيقة في تسميتنا لها تسمية أكثر واقعيّة و هي ”فطرة” الوجود على غير ”فكرة ”هذا الوجود ..

إذ أنّنا ، نعتقد بفكرة أخرى لهذا “الوجود” و المتمثّلة بالعدالة الطّبيعيّة التي اعتدت عليها شراهة الأفراد و شراهة الإنسان ، الذي يتعّلم مغزى الوجود بالتّدريج ، و ذلك عندما تجتمع ”الفطرة مع الفكرة” في هذا الوجود .

يتطلّب منّا الإسهام في اجتماع ”الفطرة” مع ”الفكرة” بما هو تحدّي الذّات التّاريخيّة في الهويّات الهامشيّة ، و إعلان نوع جديد من الإنسان الذي سيبدو أسطورّياً مع حاجتنا إليه ، ليكون أكثر واقعيّة و حساسيّة و جماليّة و عفافاً ، و حسب ..

حيث أنّ مثل هذا النّوع الإنسانيّ هو النّوع الذي تحضّ عليه ”الفطرة” كما تحضّ عليه ”الفكرة” في وقت واحد . إنّه النّموذج الأخير للغاية من الخلق ، هذه الغاية التي ما زالت تشوّهها ”السّياسة” الوضعيّة و”السّياسيّون” .

12▪ أكثر ما تثيره ”السّياسة” من نفور ، هو أمر ممارستها التّغلّف في معرض المكاشفة ، و الخجل في معرض الجرأة و الصّراحة ، و الغموض السّلبيّ الذي يرافقه الخبث و التّذاكي في معرض الوضوح .

و لقد كانت وهلة من التّاريخ طويلة جدّاً تلك التي أسّست لمثل هذه ”السّياسويّة” في النّظريّة و العمل و الأخلاق ، عندما لم تكن تضحيات الجنس البشريّ ، بعدُ ، على كلّ هذه الجسارة و الكمّيّة و الوضوح ..

و كان أن رافق ذلك ، بطبيعة الحال ، تنظيرات شتّى حول طبيعة ”السّياسة” و جِدّيّة المواقع و المواضع ، و آفاق ”الخطاب” . .

و جميعنا يعرف ذلك الكمّ الهائل من التّنويعات النّظريّة و العمليّة التي سعت بحثاثة و وقاحة للتّعليم ”السّياسيّ” الوقح وقاحة أصحابه و ضآلتهم ، الذين استولوا ، لأسباب كثيرة ليس هنا مجال البحث فيها ، على اتّجاهات و آفاق ”الخطاب السّياسيّ” المغدور ، الذي تحوّل بفعل فاعلين إلى نظير لخطاب ”السّياسة” النّزيه نزاهة الغاية من وجود البشريّة على هذا الكوكب الضّائع في الكون!

غير أنّ درجات الحرّيّة تمرّ ، اليوم ، في عصر الحداثة السّياسيّة الرّابعة ، بانكماشات تتزايد يوميّاً على أثر هدير المخلوقات السّياسيّة “القِشريّة” الزّاحفة كخرافات واقعيّة و يوميّة ، و هي تعملُ على استعباد جماليّات الطّبيعة و الخلق ، و تبثُّ في أوردة العالم قبحها الذي لم يعُد يُطاق .

نحن أمام انعطافة نوعيّة للبشريّة أقلّ ما يُقال فيها أنّها مفضوحة الاستقطاب و الانقسام و الانحياز ، بعد أن أفصحت العولمة عن آخر و أهمّ أهدافها و أهداف أسيادها ، الذين لا يُدركون مطلقاً كيف يمكن أن تكون صراعات التّحوّلات و مخاضات النّضوج الأخير لغاية الوجود ..

وحيث يتقاسم هؤلاء القّوة و العنف و المال و السّيطرة ، فإنّ ما يجعلهم أكثر ”حرّيّة” في خياراتهم تلك ، هو واقع التّخاذل الإنسانيّ عن ”الحقّ” ، بواسطة نسيان الحقّ ، و نسيان الحقيقة الموكلة للإنسان بموجبه ، و كذلك واقع التّجرّد من القدرة الممنوحة بفرض ”الطّبيعة” و المقسومة للجميع ، للتّعبير على دوافع ”الفكرة” المتعلّقة بالعدالة و النّزاهة ، بواسطة تضحيات قام بها أفراد في كلّ مكان في المعمورة ، بينما تجنّبتها أفراد و شعوب و أمم و دول ، فيما كان المغزى هو العكس من ذلك ، وهو بالضّبط ما تقتضيه الفطرة الوجوديّة عندما تبلغ غايتها في الفكرة الآيلة إلى الحقّ .

و هكذا يبدو التّخلّي ، اليوم ، عن مقتضيات مقولة ”الحقّ” و فروضها في العدالة و النّزاهة و اختيار الموضع القدسيّ المنعقد حول الشّرف و الكرامة و الذي اكتشفه الإنسان مبكّراً ، في حضارتنا هذه ، و منذ آلاف السّنين ، يبدو ضرباً من التّواطؤ الإنسانيّ ضدّ طبيعته نفسها مضحيّاً بخلوده ، من خلال خلود الفكرة التي هو جزء منها ، و ذلك من أجل القليل من السّلطة الوهميّة و المجد السّياسيّ العابر و بعض بريق النّعوت الكاذبة و السّاذجة و التي قايضها البشر بالانتماء إلى حظيرة الخلود ..

و من الواضح و الطّبيعيّ أنّنا لا نتحّدث ، هنا ، بلغة أخلاقّية ( أخلاقوّية ) ، و لكنّنا نعني ما نقوله بلغة الوجود و الوجدان الذي سيبقى أثراً كونيّاً بعد هذا الوجود ..

و يتّضح أمامنا بسهولة و بساطة نادرتين ، مغزى ما نذهب إليه من أنّ جميع مجد الأرض المؤّسس على الذّلّ و الهوان ، بالنّسبة إلى الأفراد و الأمم و الّدول و الشّعوب ، إنّما هو ضغثٌ من أضغاث الغرور الإنسانيّ ، عندما يفقد الإنسان قيمته بنظر نفسه ، و ذلك مهما كانت التّسويغات الفاشلة لموقف واحد في حظيرة الخنوع يدركه صاحبه ، بالفطرة ، قبل أن يدركه الجميع في الفكرة التي لا ترضى الامتزاج و لا الاختلاط .

13▪ ما يسوقنا إلى مثل هذا الخطاب الشّامل ، هو واقع الزّراية الذي وَضَعَنَا فيه تمرّد الأقوياء على مقتضيات الطّبيعة و فروض ”الحقّ” ، و القبول بتلك الاستزرائّية المُهينة و التي تعجب منها حتى الحجارة و الصّخور .

في أثناء الاستقطابات الأخيرة المعاصرة ، قلّما تتنوّع أمامنا الخيارات في الوقوف في موقع المدافع عن “حقّ” الشّرف و الكرامة الذي غدا علينا ، و على شركائنا في هذا التّحدّي ، ضرباً من ضروب الشّعور بالذّات أمام التّحدّيات التي باغتتنا مؤخّراً بضراوة بالغة ، و هي تراهننا على جميع مستقبلنا المتعلّق بوجودنا الكريم ..

و ممّا يُدهَشُ له المرء ، في ميزان الكرامة ، هو قبول البعض بمساومات تاريخيّة خاسرة سلفاً ، بما هي عليه من مضمون محاولات ترويض الإجرام و المجرمين ، و ذلك أيّاً كانوا في صيغة أفراد أو مجموعات أو دول ، و كأنّنا ننتظر الغيث من سراب .

و هكذا ، فقط ، يزداد ”الآخر” إهانة و استهانة بالعقول المبالغ في سماحتها ..

و استمرار الإزراء ، واحدا وراء آخر ، بدون الرد الحاسم والجازم على أصحابه ، سيجهز على القيم و المستقبل ، قبل أن يتمكّن الآخر من الإجهاز النّهائيّ علينا و جعلنا مطيّة رخيّة له يحقّق بواسطتنا ، و قد أحالنا إلى أدوات ، أهدافه التي يعلن عنها على الملأِ ؛

و ليس أقرب مثال إلى هذا الواقع ذلك الاستهتار العجيب و المبالغ فيه بأقدارنا و مقدّراتنا و قد وضع ذلك ”الآخر” المعتدي نفسه في مكان استطاع إليه المثول مُنَصِّباً من نفسه قدراً و إلهاً مُطاعاً و يُطاع ..

14▪ ف هل بأيدينا ، ك حلفاء ، نعمل على جعل إطباق ”الآخر” علينا مصيراً لنا و قدراً لا يُردّ ، عندما نلجأ إلى سلوكات سياسيّة في النّظريّة و التّطبيق ، مفترضين محدوديّة ذلك ”الآخر” و غبائه ، بينما تجري مساعدته بالمساهمة بفعاليّة عجيبة لاستحكامه النّهائيّ لنا ؟.

إنّ السّياسات و الدّبلوماسيّات التي يتوهّم البعض أنّها تنطلي على القطب ”الأعظم” في العالَم ، هي ممّا قد تجاوزه ”الآخر” تجاوزاً تجريبيّاً و ملموساً و حيّاً منذ أن وصلت الرّأسماليّة العالميّة و دخلت طور الإمبريالّية الفظيع .

إنّنا لا نبدع جديداً ، و لا يُمكن ، بالاحتيالات السّياسيّة العالميّة و بالسّعي الممجوج وراء اقتصادات استهلاكّية التي ظن البعض أنّها ضرب من ضروب كماليّات ”المقاومة” ، أن نواجه أو ”نقاوم” جزّارينا ، هذا في الوقت الذي يجب علينا فيه ، ألا نصّدق و نعتقد بأفكار و رؤى بطيب النّوايا و بعيداً عن تجريم ”الذّات” أو اتّهام هذه ”الذّات” .

إنّ جلّ ما يمكن تحقيقه ، بواسطة هذه الأداءات المكشوفة و المفضوحة ، هو تأكيد العجز ، تأكيداً عمليّاً و مباشراً ، و تسليم العدو عنان قيادة الدرب التي هي وهم ، بينما هي تعاضد معه ضدّ أعدائه الذين هم نحن..

و هذا في حالة واحدة و وحيدة و أعني بها حالة كوننا متخندقين ، فعلاً ، في موقع ”المقاومة” ، هذه ”المقاومة” التي اجترح فكرتها ، في حالة من حالات الإبداع بالإيمان بأنّنا قادرون على تحدّي النّحر و الاستباحة و السّبي ، و لو بالشّهادة و ..النّصر ، خيالٌ ابتكاريّ سياسيّ و أخلاقيّ و خلّاق لا يُضيّعه الامتثال إلى الحقّ امتثالاً صادقاً و تامّاً ، عندما يكون هو على هذه الصّيغة ، و حسب .

15▪ لا نفرض ، نحن في سورية ، الفروضَ على أحد في العالم ، من دول و أيديولوجيّات هذا العالم ، إلّا أنّنا يحقّ لنا فحص العبارات و الشّعارات في مواءمتها للدّلالات .

و إذا كنّا ، هنا ، نُعِدُّ ما وصلت إليه حروب العالم و سياسات الدّول ، هو الحداثة السّياسيّة العالميّة الرّابعة ، فذلك لأنّنا نتحدّث في الفكر السّياسيّ ، هذا في الوقت الذي ربّما لم يتجاوز فيه العالم ، بعد ، بربريّته الأخلاقّية و توحّشه البدائيّ ..

و هذا بالضّبط ما يُحيلنا بتلقائيّة إلى إيضاح موقعنا ، كعرب سوريين ، مع ما يتطلّبه الأمر من خطاب مختلف و مفارق لا يعرف التّردّد و التّواطؤ و الدّلال الدّبلوماسيّ و السّياسيّ و الاقتصاديّ و العسكريّ ، بالتأهل مع أعدائنا تحت أيّ عنوان من عناوين ”المصالح” مختلفة الصّفات و النّعوت ، أو تحت أيّ شعار و قد صار مع كلّ ما يُشبهه من حذافير السّقوط في هذا الصّراع الذي يعمل لإبادة روح سورية ، بينما الآخرون.. و أّياً كانوا هؤلاء الآخرون ، يجرّبون النّظريّات القروسطيّة حول مفهوم المصلحة أو الاحتواء أو عدم استفزاز العدوّ .. ، إلخ ..

في الوقت الذي حسم فيه ”الآخر” أمره و موقفه ، معلناً و ممارساً لعقيدته الإذلالّية للدّول و الشّعوب و الأفراد و الأمم و الأوطان و الأحلام و الحقّ في الوجود ، و طوّر في سبيل أغراضه و أهدافه ”خطاباً” حربيّاً عسكريّاً ، و اقتصاديّاً و سياسيّاً و ثقافيّاً ، في خدمة توجّهه توجّهاً علنيّاً إلى حذفنا من الجغرافيا و التّاريخ .

و فيما يتفاقم استقطاب العالم المعاصر بلا حياء و لا خجل ، و بصراحة و علنّية و شفافيّة و وضوح ، و ينقسم ببساطة إلى غزاة و مدحورين ..

فإن المنظومة الإقليمّية لا تزال تعتمد ، مفاهيم تقليدية عن ”المصالح” و تعمل بمقاربة ناعمة تؤدي إلى الضعف ، إن لم نقل يتآكلها التراخي في وضع الّلمسات الأخيرة و الحاسمة على ما هو مواجهة أو مقاومة أو كفاحاً أو نضالاً ضدّ عتاة هذا العالم المريض .

16▪ و إذا كنّا اكتفينا ، الآن ، بهذا القْدر من نقد مفهوم “المقاومة” في تقويمٍ علنيّ مفيد و ضروريّ ، فإنّ الّلافت للانتباه هو هذا الواقع الإعلاميّ للمقاومة و الذي يبدو للمراقب أنّه شيء متنافر و يعوزه وضوح الخطاب المباشر ، و تحصيل عناصر الخطاب غير المباشر انطلاقاً من المواقف الصّريحة عمليّاً ، و كلّ ذلك بدلاً من أن نقع تحت مطرقة الذّاتيّة السّياسيّة التي يكمن وراءها انفرادٌ و استقلال ، و لا يهمّ هنا نسبيّة أو إطلاقّية هذه النّزعة الذّاتيّة في العزلة و الانفراد.

من المؤسف ، بعد كلّ تضحياتنا بالتشارك مع الأصدقاء و الشّركاء ، أنّنا لم نستطع ، بعد ، تجاوز أوهام احتكار المواقف و الأعمال و البطولات ، و هذا في الوقت نفسه الذي لا يزال فيه البعض يُعوّل على دول عدوّة ، و مهما كان شكل ذلك التّعويل ، فيما يستغلّ العدوّ ما يبدو أنه سذاجة بعضنا و يبني عليها ، في القوّة ، مواقف و عناد و عنت لا يخيب .

في الأحوال و الحالات غير المسبوقة ، كما هو الأمر بالنّسبة إلى هذه الحرب العالميّة على سّوريّة ، فإنّ النّصر ليس صبرَ ساعة كما يُقال ، و إنّما هو مراكمة لتحصيل زمن مديد عشناه و ما نزال نعيشه في المباشر و في الأثر ، و هو ما يتطّلب منّا و من جميع الرّدفاء توحيد القوى بما فيها عناصر ”الخطاب” ، و التي تبرز أكثرَ فأكثر في المواقف و الأداء و السّلوك ، كما في العقيدة القتاليّة في المواجهة و المقاومة ، و لو كان ذلك الأمر في أبسط أشكال التّعبير أو في أكثرها تعقّداً و تعقيداً و تضحيّة تسوّغ جميعها خطاب ”المقاومة” في سبيل النّصر النّهائيّ و الذي يتمثّل هنا ، في مناسبة هذا الحديث ، بعدم المساومات التّاريخيّة و الاقتصادّية و السّياسيّة ، و “المصالح ”التي تندرج تحت هذه العناوين و مهما اشتملت تلك ”المصالح” من حيويّات مؤقّتة ..

إذ ماذا يعني ، هنا ، على هذا الصّعيد ، مفهوم التّضحية و خيار المقاومة إن لم يكن ، أوّلاً ، قد اشتمل و عَنَى واقع الصّبر و المصابرة و تقاسم التّضحيات بعدالة النّتائج وفق المقولة الفقهيّة القانونيّة التي تقول : ”الغُنْمُ بالغُرْم” ؟!

17▪ و لنكونَ مُهابي الجانبِ ، ثمّة شروط معروفة و بديهيّة و صريحة و علنيّة ، و نحن هنا بغنًى عن تعدادها لكثرة وضوحها و شهرتها ، و بخاصّة في ما يخصّ العلاقات الإقليمّية ، تفرضها علينا نهايات هذه الحرب ، أو بالأحرى نهايات هذا الشّكل من الحرب .

و إذا كنّا على موعد مع استمراريّة و استدامة و إطالة زمن هذه الحرب و مضاعفة أثمانها، و هو الشّيء الوحيد الذي يتّخذ له قوّةً تتجاوز قوّة التّوقّع و الاحتمال ، فإّن علينا أن نعود إلى مبادئ التّمسّك بوجودنا و حقوقنا و شرعيّاتنا ، في ما وراء الدّبلومايسيّات و المصالح الاقتصادّية و السّياسيّة و الجغرافيّة ، و ذلك بالنّظر من جديد في التّاريخ الطّويل و الذي يُعدّ ، في الأقلّ ، بالمئات من السّنين ، للصّراع في المنطقة المسمّاة اليومَ بالشّرق الأوسط ، و بإعادة اعتباراتنا التّاريخيّة لمبدأ الصّراع في هذه المنطقة من العالم و الذي يُعتبر استحضاره ، فحسب ، بمثابة درس بليغ من دروس التّاريخ بالنّسبة إلى مختلف الأمم و الّدول الدّاخلة اليومَ في هذه الحرب ، و على الأخصّ ، بالنّسبة إلى الشّركاء المنضوين تحت عنوان شعار المقاومة .

18▪ لسنا بحاجة إلى تذكير الجميع بالتّضحيات التي قدّمتها سورية بالنّيابة عن هؤلاء “الجميع” ..

و إذا كنّا ننظّر ، هنا ، الآن ، على كيفّيات تحمّل المزيد من مستقبل هذا الصّراع ، فإنّ هذا لا يعني أن تتحمّل سورية وحدها ، أو أكثر من غيرها بكثير جدّاً ، نتائج و آثار و مفاعيل هذه الحرب .

و فيما تقضي العدالة الأخلاقّية السّياسيّة ممارسة الأقوال بدلاً من تحوّلها إلى شمّاعات و أُلهيّات لشعوب المنطقة ، و بخاصّة للشّعب العربيّ في سورية ، فإنّ الحدّ الأدنى من مضمون تلك العدالات يقتضي أن يتضّمن الموقف المباشر و الصّريح و المنسجم و غير المتناقض ، جنباً إلى جنب مع تكريس خطاب سلوكيّ أكثر وضوحاً و عمليّة من مجرّد تأليف الكلمات و صبّها في القوالب الجاهزة لممارسات الشّعارات التي غدت ، في نظر الشّعوب ، و المشاركة الحيّة و الواضحة في تحوّلات أمداء تلك المواقف و الشّعارات إلى ممارسات حيّة و لو كانت مكلفة ، حيث لن تتجاوز قيمتها الفعليّة جزءاً من جزءٍ من مئات و آلاف القيمة العددّية و الكمّيّة و النّوعيّة التي سدّدها الشّعب العربيّ السّوريّ نيابة عن جميع الرّدفاء و الشّركاء و المتحالفين ..

و في هذا السّياق ، فقط ، تعود سورية إلى موقعها الضّروريّ و لو أنّه غير طبيعيّ ، و لكنّها تعود ، و الحالة هذه ، إلى جزء من كلّ في تحالفاتها المعلنة ، في مواجهة إعلان ”الآخر” ، العدوّ ، عن صراحة أهدافه و سلوكاته و مواقفه المنسجمة مع مؤدّى خطابه السّياسيّ المعلن ، دون أيّ حرج من جانبه و دون التّعلّل بالمواقف الرّخوة المبنيّة على مضامين المصالح المختلفة ، و الذي حسم في ذلك خياراته ، بل و تجاوز ذلك في استثماره رخاوة موقف دول التّشارك و التّحالف ، بمواقفه التي تزداد عنَتاً يوماً بعد يوم .

19▪ لا نشّكك مطلقا ، هنا ، بمواقف الأصدقاء و الحلفاء ، على رغم أنّ النّقد الفكريّ السّياسيّ الذي مارسناه في تضاعيف و انثناءات هذا الحديث ، إنّما نعتبره ضرباً من التّذكير ( والذكرى تنفع المؤمنين ) إلى إمكانيّة حيازة شرف الانتصار في هذه الحرب ، و نصرها الأخير ، من قبل جميع المتحالفين ، من دون تلويثه بالمواقف الجانبيّة أو المباشرة التي لها أن تبخسنا جميعنا في محور التّحالف المقاوم والمانع والداعمين له ، حقائق و حقوق استُحقّت و مستحقّة ، و التي عليها ينبغي بنا أن نبني مستقبل هذا الحدث التّاريخيّ الذي جعل من سورية أيقونة عالميّة في التّضحيات و الصّبر و التّحدّي المرفق بالإيمان بالحقّ ، و هذا ما ينعكس على جميع الحلفاء و الأصدقاء .

20▪ من المهمّ اليومَ ، و الأكثر أهمّيّة ، وضع حدّ لأوهام الأعداء الإقليميين و الذين أصبحوا العائق المباشر شبه الوحيد ، و من دون إبطاء من قبل التّحالف المقاوم ، على وجه الحصر ، يأخذ هذا الشّكل أو ذاك ، لكي نتمكّن في التّرادف و المحاذاة مع أصدقائنا و حلفائنا ، لإنجاز هذه العبارة التّاريخيّة التي ستقول إنّ محور المقاومة و في قلبه سورية قد استطاع ، و تمكّن من ، التّأسيس ، و إنجاز أوّل أو أهمّ مبادئ الحداثة السّياسيّة العالميّة الرّابعة ، و التي ستبقى في أعلى قائمة دروس التّاريخ ، و ذلك لمن يحبّ و يرغب في الاتّعاظ و الاعتبار و العبرة من الّتجربة العسكريّة الحربيّة و السّياسيّة في أوائل هذه الألفّية من تاريخ الشّرق الأوسط و تاريخ ( أوراسيا ) ، بل و العالم كّله .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.