المشاركة السياسية والاندماج الوطني / د. عادل عامر
د. عادل عامر ( مصر ) الإثنين 15/4/2019 م …
ثمة علاقة لا تخفى بين الحق والحرية، إذ يتجسدان معاً في الملكية شكلاً ومضموناً؛ فلا تنفصل حقوق الفرد في مجتمع من المجتمعات عن حريته. وكلما انتُقصت حقوق الفرد انتُقصت حريته، والعكس صحيح. لذلك ينبغي البحث في حرية المرأة ومدى مشاركتها في الحياة العامة من خلال ما نالته من الحقوق، والبحث في حقوق المرأة من خلال ما تتمتع به من حرية. وأيٌّ من الحق والحرية يصلح أن يكون أساساً للتفكير في المشاركة السياسية، بما هي الوسيلة السلمية للتعبير عن المصالح المشروعة لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك.
الفرد، من الجنسين، هو الأساس الطبيعي للمجتمع المدني، و المواطن، من الجنسين أيضاً، هو الأساس السياسي، المدني، للدولة الحديثة، الدولة الوطنية / القومية؛ لذلك يبدو لزاماً على من يبحث في موضوع المشاركة السياسية أن يدرس مدى تحرر الأفراد من الروابط الطبيعية، أو الروابط الأولية، روابط الجماعات ما قبل الوطنية وما دون الوطنية، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية وما إليها، مما يؤلف عوالم (جمع عالَم) المجتمع التقليدي وكسوره المتناثرة والمتحاجزة، أي التي تعيش داخل أسوارها، وتقيم فيما بينها حواجز عشائرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، وتكتسي لديها السياسة طابعاً دينياً، إيمانياً ودوغمائياً، ويكتسي الدين طابعاً سياسياً، تبريرياً وذرائعياً.
ومن ثم، فإن المشاركة السياسية، مشروطة بالانتقال من “الجماعة الطبيعية” إلى الجماعة المدنية، من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج والمصالح المختلفة والمتباينة والتنافس الخلاق والاعتماد المتبادل، أي إنها مرتبطة بالاندماج الوطني أو الاندماج القومي والانتقال من التشظي والتناثر إلى الوحدة، وحدة الاختلاف، ومن الملة إلى الأمة، بالمعنى الحديث للكلمة، وهو غير المعنى المتداول في الخطاب الثقافي والسياسي العربي حتى اليوم، والانتقال من ثم من وضعية ما قبل الدولة الوطنية إلى الدولة الوطنية بثلاثة أركانها: الأرض (الوطن) والشعب والسلطة السياسية
وللاندماج الوطني، كما هو معلوم عاملان أساسيان: أولهما العمل والإنتاج الاجتماعي، أي قدرة المجتمع على إنتاج حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية وإعادة إنتاجها بحرية، والثاني هو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية التي يتساوى في عضويتها جميع أفراد المجتمع، بلا استثناء ولا تمييز. فليس بوسع العمل، مجرداً ومشخصاً، أن ينظر إلى الفرد إلا بوصفه منتجاً للقيمة، بغض النظر عن الجنس والدين والانتماء العرقي وسائر التحديدات الذاتية الأخرى، وليس بوسع الدولة بما هي تجريد العمومية أن تنظر إلى الفرد وأن تتعامل معه إلا بصفته مواطناً؛
بهذين العاملين: العمل والدولة، تتنحى عن علاقات العمل، وعن العلاقات السياسية خاصة، جميع تحديدات الأفراد ومحمولاتهم، سوى القدرة والمهارة والكفاية العلمية، على صعيد العمل، والتزام القانون والوفاء بالالتزامات والمسؤوليات التي تلقيها المواطنة على عاتق الفرد، على صعيد الدولة. ولعل تمييز عمل النساء من عمل الرجال، وتفاوت الأجور بينهما، لقاء الأعمال المتساوية، كان في بدايات الثورة الديمقراطية امتداداً لنظرة المجتمعات التقليدية الآخذة في النمو والتقدم إلى المرأة وإلى الطفل أيضاً، ولم يكن ناجماً عن طبيعة العمل، خالق القيمة وجميع القيم، وخالق السياسة والمشاركة السياسية.
ومن البديهي أن المشاركة السياسية، في زمان ومكان محددين، تتوقف على معنى السياسة وقيمتها ومدى حيويتها وعقلانيتها، في المجتمع المعني، أي على نحو ما تفهمها مختلف الفئات الاجتماعية، وعلى القيمة التي تمنحها لها هذه الفئات، وعلى مدى إدراجها في تحديد ذواتها، لا على نحو ما تفهما وتعقلها النخبة فقط. والفرق بين هذين المستويين أشبه ما يكون بـ “فرق الكمون” الذي يولد الطاقة والحركة. فحين يكون الأمر مقصوراً على نخبة لا تزال حداثتها وعقلانيتها موضع شك تغدو أفضل المبادئ والنماذج النظرية بلا قيمة عملية. ومن ثم، فإن عنصر التحديد الحاسم هو النظر إلى السياسية،
إما على أنها شأن عام، وصفة ملازمة للمواطنة، أي على أنها علم إدارة الشؤون العامة بوصفها علاقات موضوعية، أو “علم الدولة”؛ وإما على أنها شأن من شؤون النخبة، وجملة من الأهداف والمطالب والتطلعات والرغبات الذاتية، وهو المعنى الغالب على السياسة في بلادنا حتى اليوم، إذا صرفنا النظر، هنا فقط، عن مقاصدها الأساسية التي كشفت عنها الدراسات الأنتروبولوجية والتاريخية، أعني “الغنيمة والعشيرة والعقيدة”، بتعبير الجابري.
وتجدر الملاحظة أن مفهوم المشاركة السياسية مفهوم حديث، وافد على الثقافة العربية، وعلى الفكر السياسي خاصة، ولم يتبياً بعد، ولم يستوطن؛ أي إن الثقافة العربية لم تتمثل هذا المفهوم وما يتصل به من المفاهيم الحديثة، وتعيد إنتاجها وفق معطيات الواقع وحاجات المجتمع. بل إن جل ما فعلته، حتى يومنا، هو غمس هذه المفاهيم في مستنقع التقليد، ومحاولة تكييفها مع “التراث”، أو إعادة إنتاجها فيه، بحسب ما يرغب محمد عابد الجابري وغيره من التراثويين، من دون أن تدرك أنها تعزز التقليد، وتحد من القدرة التنويرية والتحريرية والتوليدية والإجرائية لهذه المفاهيم، إن لم تخصها.
بوجيز القول، لا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية إلا في نطاق مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة لا تبدو لمواطنيها من الداخل سوى بصفتها دولة حق وقانون، لا دولة حزب، ولا دولة نخبة ولا دولة طغمة ولا دولة عشيرة، ولا دولة طائفة أو جماعة دينية، ولا دولة جماعة عرقية وإلا فنحن إزاء بوادر وإرهاصات عسى أن تكون ذاهبة إلى المستقبل. لذلك يميل الكاتب إلى القول: ليس لدينا بعد سوى ضرب من مشاركة سياسية سلبية تتجلى في التأييد السلبي، أو القبول التام، وفي المعارضة السلبية أو الرفض التام، لا مشاركة سياسية إيجابية وخلاقة للجنسين على حد سواء. إذ للمشاركة السياسية الإيجابية رائزان: ا
لأول هو مشروعية المعارضة وقانونيتها، والثاني هو مشاركة المرأة في الحياة السياسية على قدم المساواة مع الرجل. الاستبداد المحدث القائم على تسلسل الولاءات وعلى الامتيازات، لا على الحقوق وحكم القانون، يساوي بين الرعايا في توزيع هداياه التي أهمها القمع والخوف واليأس، ويساوي بين الأفراد من الجنسين على أنهم لا شيء، ولا يقبل بأي نوع من المعارضة، لا من داخل بنيته ولا من خارجها، لأنه يقوم على احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية، وعلى الاحتكار الفعال لجميع مصادر السلطة والثروة والقوة. فالمعارضة في جميع النظم الاستبدادية، الشمولية منها والتسلطية مؤثمة ومكفرة ومخونة. والحيف الواقع على المرأة حيف مضاعف يجعل منها عبدة العبد ومستغَلة المستغَل (بفتح الغين)، وموضوعاً لقهر من هو موضوع للقهر والاضطهاد والذل، فقد كان الاستبداد على مر العصور ولا يزال إهانة للكرامة البشرية.
ولم يدر في خلد أحدهم أن الجماعات البشرية تتراخى في التزام المعايير الاجتماعية، والأخلاقية منها خاصة، في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، فتشارك النساء كالرجال سواء بسواء في الدفاع عن الوجود فحسب، كما تتراخى المعايير كذلك في المراحل الانتقالية، وليس ذلك، في نظر الكاتب، من قبيل المشاركة السياسية، بمعناها الحديث، من قريب أو من بعيد؛ فإن التراخي في المعايير شيء واستقرار الحياة الاجتماعية والسياسية على التعاقد والمشاركة والتسامح واعتراف الجميع بحقوق الجميع وحرياتهم شيء آخر.
على أن التراخي في المعايير الذي يسم المراحل الانتقالية يمهد السبيل للتغيير الاجتماعي؛ بقدر ما تتوفر قوى التغيير على القوة والنفوذ والجذرية والمثابرة، وبقدر ما تعبر عن مصالح جذرية لمختلف الفئات الاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة، وبقدر ما تنفتح الثقافة على آفاق كونية وإنسانية وتقوم بوظيفتها التنويرية والتحريرية، وتنفتح التربية على معطيات الحداثة ومبادئها وقيمها ومناهجها.
الاعتراف المبدئي والنهائي بحق الاختلاف ومشروعية المعارضة السياسية التي تعبر عن المصالح الجذرية للفئات الاجتماعية المختلفة، وتمكين المرأة من المشاركة في الحياة العامة أسوة بالرجل رائزان أساسيان من روائز المشاركة السياسية، وشرطان ضروريان لحياة سياسية سليمة.
التعليقات مغلقة.