لحظة صدق / جهاد المنسي
في البدء كانت الكلمة، والكلمة تعني الحریة، والحریّة تعني حق الاختلاف وحق التعبیر، وحق التعبیر یعني حق الآخر في قول رأیھ، وحق الآخر في قول رأیھ، یعني الدیمقراطیة، والدیمقراطیة تعني حكم الناس بالقانون الانساني المعاصر دون ترھیب او تخویف.
تلك مقدمة لا بد منھا للوصول لحقیقة ثابتة؛ ان الشعوب عندما ترید صناعة مستقبلھا علیھا في المقام الرئیس ان تؤمن بكل ما قیل سابقا؛ بخلاف ذاك فان ما یجري في وطننا العربي سیكون بمثابة تغییر ”طواقي“ على غرار ما كان یحصل في مسرحیة ضیعة تشرین الشھیرة.
التغییر والحركة الشعبیة لا تعني فقط ان یخرج الناس في دول العرب للشارع للمطالبة بالتغییر، فالخروج للشارع ورفع رایة التغییر امر مھم ولكن ذاك یتوجب ان یكون مدعوما برؤیة لایصال التغییر المطلوب الى مكانھ الصحیح، وھذا یعني ان یكون اولئك الخارجون للشارع ومن یساندھم یؤمنون ومتكئون على رؤیة فكریة تؤمن بالدیمقراطیة اولا، والحریّة دون اجتزاء او اختصار، وان یصل التغییر المكتوب على یافطات المحتجین لمكانھ الصحیح بحیث ینتج عنھ دیمقراطیة حقیقیة ولیست دیكوریة، تؤسس للرأي الآخر ولا تصادره، دیمقراطیة لا ترھب الناس بالعسكر او بما تیسر من معتقدات بالیة او خزعبلات غیر مرئیّة یریدوننا ان نؤمن بھا دون نقاش.
بصدق، منذ اللحظة التي انطلق فیھا ما عرف بـ“الربیع العربي“ العام 2011 وحتى الیوم ونحن نرى فصلھ الثاني في الجزائر والسودان، فإن ذلك یدعونا لقرع جرس الإنذار والتنبھ لما یجري حولنا، والأخذ بالاعتبار ما مرت بھ الیمن وتونس ولیبیا ومصر من منعطفات خطیرة، وتخریب ممنھج، وما وصل الیھ الربیع المزعوم، وحجم السواد الذي خیم، وقراءة مدى تراجع دول محوریة عن لعب اي دور مؤثر مستقبلي، وحلول دول غیر مؤثرة باتت تدیره.
ما سبق لیس رفضا للتغییر او لاي حراك شعبي بقدر ما ھو تأشیر صریح، وانما ھو تذكیر بواقع عربي شدید المرارة بعیدا عن الدیمقراطیة الحقیقیة، وبعیدا عن حریة تؤسس لمرحلة تحول حقیقیة نبني من خلالھا دولا تعتمد منھج حریة التفكیر والمعتقد، وان نصل لمرحلة نقذف من خلالھا الخزعبلات جانبا ونذھب لمرحلة بناء دول عصریة لا تصادر رأیا، ولا تجرم معارضا، ولا تحكم بالإعدام على كل من یتبنى رأیا آخر، ولا تكفر من عارضھا، او سأل واستفسر.
الدیمقراطیة لا تصنعھا القنوات الفضائیة، ولا دول العالم الأول، ولا الدول الظلامیة التي تعاني شعوبھا من قبضة العسكر وتخاف من قول كلمة لا خوفا من عسس آخر اللیل، انما الدیمقراطیة والحریّة صناعة فكریة، یتوجب على المطالبین بھا ان یؤمنوا بحق الاختلاف والتنوع، حق التعبیر والمعارضة، حق المرأة في لعب دور كما الرجل دون استحضار ممنوعات تراثیة تكبلھا وتقید طموحاتھا، نرید بصدق دیمقراطیة تصنع شعبا فكریا وثقافیا وتؤمن بھا الشعوب قولا وممارسة، ولا نرید دیمقراطیة سماعیة عبر قنوات فضائیة ساھمت في تخریب دول وحطمت احلام شعوب.
بلحظة صدق، ان كان ما سمي بـ“ربیع العرب“ الثاني سیصل بِنَا الى ما اوصلنا الیھ ”ربیع العرب الاول“ فان ذاك یدعونا للتفكر اكثر والخوف اكثر مما یجري، والسؤال عن مدى عفویتھ، ومدى تأثیر عوامل خارجیة علیھ تحریضا وتاثیرا.
وبصدق ایضا، فإن ذاك لا یعني تسلیما بالواقع او دعوة للتعایش معھ بقدر ما ھي أسئلة لا بد منھا خوفا من تكرار تجارب سابقة، وتذكیر بأن فكرة التغییر او الثورات الشعبیة التي ستعزل زعیما مستبدا مثلا، وتستحضر آخر اكثر استبدادا لیست بحركات شعبیة ستوصلنا لدیمقراطیة وحریّة نبحث عنھا، بقدر ما ھي حركات أوجدت ارضیة خصبة لتغییر ”طاقیة“ او ”عصا“ ھذا، واستقدام جبروت ذاك . (الغد)
التعليقات مغلقة.