دونكيشوت وأوهام النخبة / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) الثلاثاء 16/4/2019 م …
دونكيشوت, أو طواحين الهواء, رواية كتبت ما بين عام 1605م و1615م… مؤلفها الإسباني ميغيل دي سيرفانتيس سافيدرا. وبطلها هو دون كيشوت، المعروف أيضاً بـ (فارس الظل الحزين).
تعتبر هذه الرواية من أعظم وأقدم روايات أعمال الخيال والوهم والحدس الفردي. وهي قصة نثرية طويلة تركز على العمل وتنمية الشخصية.
من أهم أهدافها البحث عن التناقضات الأعمق في الأفعال الإنسانية، والتأكيد على التناقض والصراع بين المثالي والواقعي أوالعياني, وبين رؤى الجنون, وغباء التوجه العملي في الواقع, وبين الهدف الأسمى والوسائل الوضيعة التي توصل إليه, وأخيراً بين الحلم القائم على أحلام اليقظة والنرجسية, وبين موضوعية الحياة وواقعيتها .
تظل هذه الرواية برأي تشكل عبر تاريخها الذي لن يقف عند زمن محدد, موقفاً من هؤلاء الذين لا يريدون أن يقتنعوا بأن لكل زمان خصوصياته ومشاكله وقضاياه ورجالاته من جهة, وأن التاريخ البشري لا يقف عند محطة أخيرة قد يقال عنها نهاية التاريخ من جهة ثانية.
إن التاريخ البشري تاريخ سيرورة وصيرورة.. تاريخ تفرض عليه ضرورة الحركة حتى في سكونه التغيير وتبدل الأحوال وسبل المعاش والتفكير. فعندما بدأت الثورة الصناعية تدب في عالم الغرب, وقف ديكارت ليقول للعالم أجمع : (أنا أفكر إذاً أنا موجود). وبهذه الفكرة حطم أسس التفكير الأسطوري والغيبي لينقل حياة الإنسان من علم الغيب والأسطورة إلى عالم الشهادة… وعندما تطورت الثورة الصناعية, ظهر فلاسفة عصر التنوير كي يطرحوا شعارات الحرية والعدالة والمساوة, معلنين نهاية سلطة أو سلطات الملك والنبلاء والكنيسة, وبداية تاريخ قوى اجتماعية جديدة بدأت تشعر بذاتها وتفكر وتبحث عن دورها التاريخي في الحياة, وهي الطبقة البرجوازية وشريكتها في الثورة الصناعية الطبقة العاملة, طارحين سلطة الشعب (العقد الاجتماعي). ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة.
وعندما تطورت الثورة التكنولوجية المعلوماتية / المعرفية, وما يحقه التواصل الاجتماعي في هذه الثورة من نشر للمعلومة والتفاعل معها, وتسليط للضوء على سلبيات الواقع المعيش بكل سلبياته وإيجابياته, وكشف المسكوت عنه من الزائف في الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والأخلاق والرجال, بدأت الشعوب المقهورة في عالمنا الثالث تعرف موقعها في هذه الحياة, وما يمارس عليها من قهر وظلم وتشيئ واغتراب واستلاب وتجهيل, فراحت تتحرك عن سبل حريتها وكرامتها وعدالتها ومساواتها, ونفض غبار الجهل والتخلف والقهر عنها…
فقط هم وحدهم الذين لا يجيدون قراءة التاريخ في ماضيه وحاضره ومستقبله, سيظلون يعيشون حالة الوهم والخيال ورفض الآخر والتعالي عليه, والاعتقاد بأن التاريخ لهم, ويجب أن يظل لهم وحدهم.
إن التاريخ (الحياة) حركة وتطور وتبدل.. التاريخ صيرورة وسيرورة كما أشرنا أعلاه, تصنعه الأجيال المتتالية, ولكل جيل مشاكله وقضاياه وهمومه, وبالتالي وعيه وطموحاته وحاجاته ومصالحه, فمهما حاولنا أن نحاصر حركة وتطور وتبدل (الزمن) التاريخ, من أجل فرض سيطرتنا بالترغيب أو الترهيب, أو محاولة تجويد أنفسنا وإشعار الآخرين بأننا الأقدر والأجدر على فهم وقيادة حركة التاريخ. لن نفلح, حتى وإن استخدمنا كل وسائل التدمير المتاحة لدينا المادية والمعنوية منها.
إن كل من يشتغل على هذا الاتجاه التدميري للإنسان, أو هذه العقلية المفوته حضارياً, هو كدونكيشوت, لن يقوم بمحاربة المختلف معه فحسب, بل سيحارب نفسه أيضاً ويحطمها… إن هؤلاء شأنهم شأن حصان ربطه صاحبه على شجرة في مزرعته بعد أن أمن له الطعام والماء, وتركه لوحده وذهب معتقداً بأنه سيظل إلى الأبد في هذه المزرعة بسلام, فراح الحصان يدور فرحاً حول جذع الشجرة حتى قصر (رسنه) مع حركة الدوران, ولم يعد يمتلك القدرة على تخليص نفسه من قيوده, فقتله وهم صاحبه الذي ربطه من جهة, مثلما قتله فرحه البائس في الدوران حول جذع الشجرة حتى ضاقت عليه الحركة وسبل الخلاص, فراح يلهث إن لم نقل يلفظ أنفاسه الأخيرة معلناً نهاية تاريخه هو وليس تاريخ الحياة. وهذا شأن كل من يشعر أو يتوهم بأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة. ثقافاً كان, أو شيخ دين, أو رجل سياسية, أو مجتمع… إنها أوهام النخبة.
*كاتب وباحث من سورية
التعليقات مغلقة.